تقع مدينة سامراء على بعد (120كم) شمال بغداد، على الضفة الغربية لنهر دجلة. حيث أنّ مدينة سامراء الحالية مبنية على أطلال المدينة القديمة ومحاطة بها من كل الجهات وتمتدّ أطلال المدينة القديمة على طول نهر دجلة، ولذلك يبلغ طول الأطلال نحو أربعة وثلاثين كيلومترًا، تقع ثمانية منها جنوب المدينة الحالية والبقية في شمالها.
أنشئت مدينة سامراء بحدود عام 221هـ، أي قبل أكثر من (1200) سنة، لتدخل التأريخ منذ ذلك الوقت كحاضرة من حواضر العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وتتجه نحوها الأنظار، وتهوي إليها القلوب، لما كانت عليه يوم كانت عاصمة الخلافة العباسية، ولما آلت إليه فيما بعد لمّا ضمَّت جسديّ أشرف من كان يمشي على الأرض.
حيث بدأت معاول العباسيين تشق الأرض جوار دير للنصارى كان هناك، إيذانًا ببناء مدينة العسكر، والتي عرفت بعيد بنائها بـ (سر من رأى).
وكان المعتصم العباسي محمد بن هارون الرشيد هو من اقترح فكرة بناء مدينة تكون بمثابة معسكر لجنده قريبة من بغداد، ولذا سميت بداية انشائها بـ (العسكر)، وقد صرفت مبالغ هائلة في عمليات البناء وتشييد القصور الفخمة فيها. فقد جلب المعتصم بعض أعمدة قصوره وصخورها النادرة من أوربا وغيرها من مناطق الدولة الإسلامية النائية(1).
ثم جاء بعد المعتصم ابنه الواثق الذي تعاهد مدينة أباه إنشاءً وإعمارًا، ثم ابنه الآخر المتوكل الذي أسرف في البذخ إلى حد يفوق التصور المعقول واللامعقول، فقد أوصل المدينة إلى أوج عمرانها، وأقصى اتساعها، وهو الذي وسع بناء المسجد الجامع الكبير، وبنى مئذنته المشهورة المعروفة اليوم بـ (الملوية)(2)، فريدة نوعها في تأريخ الحضارات.
سامراء النشأة والمعالم . . .
عند تزايد عدد الجنود الأتراك الذين استجلبهم المعتصم من آسيا الوسطى إلى عاصمة الخلافة (بغداد) لاتخاذهم حرسًا ملكيًا خاصًا – في بادئ الأمر – لحماية الخليفة، ثم زيد في عددهم لحماية القصور والدواوين وبيت المال وغيرها من مرافق الدولة، ثم أخذت أعدادهم بالتزايد بشكل ملحوظ نتيجة المخاوف التي كانت تلاحق المعتصم من العرب الذين أبعدهم عن شغل المناصب الرئيسة في الدولة، لكراهته إياهم، وبغضه لهم. ولكي يوطد منصب الخلافة ويحافظ عليه(3)، فما كان من ابن التركيّة الأمي إلّا ليعتمد على أخواله الأتراك في حماية عرش خلافته.
ويومًا بعد يوم يزداد عدد الجند من الأتراك بحيث تضيق بهم عاصمة الخلافة بغداد وطرقاتها، ويضج الأهلون بالشكوى من عبث الجنود وإرعابهم للأطفال والنساء والشيوخ، إذ ما كانوا يرعون حرمة لكبير، ولم يكن لديهم عطف على صغير أو ضعيف.
فيضطر المعتصم في ظل هذا الوضع، وتفاقم الحالة من وقوع الاصطدامات بين الطرفين، ونشوب حالات قتل ودعس لبعض الأهالي بأرجل الخيل، ولتزايد مخاوف المعتصم من حدوث تحرك ضده، عليه يقرر جلاء الآلاف المؤلفة من جنوده عن بغداد والصعود بهم شمالًا في منطقة قريبة من بغداد، حتى إذا ما حدث تمرد أو انقلاب عسكري فإنه سرعان ما ينحدر إليهم برًا ونهرًا فيحاصرهم ويقضي عليهم(4).
ويرسل المعتصم المستطلعين من حاشيته ومستشاريه ليبحثوا له عن مكان مناسب وقريب من مركز الخلافة، فيتجه المرسلون بمحاذاة دجلة شمالا بحثا عن منطقة جميلة، وهواء معتدل. وبعد أن قطع المستطلعون مسافة تبلغ حوالي (60) ميلا، انتهوا إلى هضبة مستوية ترتفع عن ضفة نهر دجلة اليسرى بعدة أمتار، يقوم فيها دير من أديرة النصارى الثمانية (5) التي كانت منتشرة في كل تلك النواحي.
ثم يرجع المرسلون لإبلاغ الخليفة بما عثروا . . .
ويتوجه المعتصم بنفسه صاعدًا في دجلة لمشاهدة الموقع عن كثب، ويستشير رهبان ذلك الدير عن مشروعه، ويسألهم عن اسم المنطقة، فقيل له: نجد في كتبنا القديمة أن هذا الموضع يسمى (سر من رأى)، وأنه كان في مدينة سام بن نوح وأنه سيعمر بعد الدهور على يد ملك جليل مظفر له أصحاب كأن وجوههم وجوه طير الفلاة، ينزلها وينزلها ولده. فقال: أنا والله أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي(6).
من هذا يظهر أن للمنطقة تأريخًا عريقًا ممتدًا إلى عصور ما قبل التأريخ، فقد أظهرت التنقيبات الأثرية أنها كانت آهلة منذ القدم، وأن حضارتها ترجع إلى عصور سحيقة في التأريخ، كما دلت الاستكشافات الحديثة إلى أن اسم هذا الموضع ورد في الكتابات الآشورية بصورة (سرمارتا Su _ ur _ mar_ Ta ) ، وأما سامرا فهو اسم آرامي(7).
وتأثر المعتصم بتلك النبوءة، وعزم رأيه على أن يكون هذا الموقع هو الذي ستتربع عليه مدينة أحلامه، فقد كلف في هذه السنة، وهي سنة (220 هـ /835 م) من يثق به بشراء الأراضي اللازمة بناحية سامراء، ورصد له مبالغ كبيرة لشراء الأراضي فقط، فاشترى له الدير من النصارى، واشترى مواضع عدة وأقطاعًا كثيرة، وبعد أن أكمل الشراء ورتب سندات الأراضي أقفل راجعا بها إلى المعتصم).