في القرآن الكريم
لم يكن القرآن لدى الصحابة كتاب مواعظ أخلاقية فقط، أو تاريخاً أنزل كعبرة عن القرون الماضية، وإنما هو كتاب ميتافيزيقي وإنساني وأخلاقي وعملي، وضع الخطوط الرئيسة للوجود كله، فهو كتاب الكون منذ نشأته إلى فنائه.
كان لابد لهؤلاء المؤمنين به، أن يلتمسوا فيه أصول تفكيرهم وأن يطمئنوا إلى أحكامه الكلية، وأن يجتهدوا ما شاء لهم الاجتهاد في محيطه الواسع(1).
ومن هذا يتبين أن القرآن وإن كان ينهى عن الجدل، فهو ليس ضد التفكير والتأمل بشرط أن يؤدي ذلك إلى معرفة الله، فحث القرآن على تأمل الكون(2). فنرى إن البعض يعزوا (إن الدور الأساسي في نشأة علم الكلام كان القرآن)(3).
وإن علم الكلام بحث فلسفي يختلف عن الفلسفة اليونانية، يستمد مادته من القرآن الكريم، ويرى الباحثون أنه أول نشأة للتفكير الفلسفي الإسلامي الحقيقي، وقد سمي علم الكلام وإن أشهر مسألة قام حولها الخلاف في ذلك الوقت هي مسألة كلام الله، وهل هو قديم أم محدث وكان أصحاب هذه الأقوال يسمون المتكلمين. لكن القرآن ليس كتاباً فلسفياً فلم تكن الفلسفة بمعناها المألوف من قضاياه(4)
التي يعنى بها وإنما قضيته الأساسية أن يحرر عقل الإنسان وتفكيره ويحطم الأغلال المتراكمة الموروثة عن الأجيال الماضية والتي عزلت العقل عن تفكيره والقلب عن إحساسه فهو يخاطب العقل ويدعوه إلى التأمل والتفكير كما يخاطب القلب والضمير والوجدان ويهز المشاعر والإحساس… جاء القرآن ينبه العقل من سباته ويمجده ويدعوه إلى التفكير في خلق السماوات والأرض والإيمان بإله واحد فاعل خالق مختار على سبيل الاستدلال الضروري من الأثر على المؤثر ومن الاتفاق والنظام والتدبير على المنظم المدبر المتقن(5).
ونرى أن (النشَّار) ذهب إلى إن الباحثين والدارسين الذين اجتهدوا في القرآن وحملوه وفق آرائهم وأهوائهم بقوله:
(بأن المباحث القدرية الأولى إنما نشأت اجتهاد النص القرآني والسنة)(6). مثال ذلك الآية: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا...)(التوبة:51).
ونرى كذلك بأن القرآن تعرض لحال طائفة أخرى جادلوا في الله تفكراً في جلاله وتصرفاً في أفعاله حتى منعهم وخوفهم بقوله تعالى (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)(الرعد:13).
فهذا ما كان في زمانه(عليه السلام) وهو على شوكته وقوته وصحة بدنه ودفاعه يخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وإنما يظهر نفاقهم في كل وقت بالاعتراض على حركاته وسكناته، فصارت الاعتراضات كالبذور، وظهرت منها الشبهات كالزروع(7).
وإن الردود التي رد بها القرآن الكريم على أصحاب الديانات الأخرى كانت خيرُ معبر ساعد على نشأة علم الكلام(8).
من هذا يتبين على ما أرجح إن المصدر الحقيقي لبدايات نشأة علم الكلام في الفكر الإسلامي في العصر النبوي، ونرى إن القرآن والأحاديث النبوية الشريفة المفسرة للقرآن والمبينة لأحكامه العنصرين اللَّذين بهما تدفع الشبه وترد الطعون والأقاويل لحماية الإسلام من كيد المنافقين والمرهصين والذين لم يدخل الإيمان الحقيقي في قلوبهم، قالوا أسلمنا ولم يؤمنوا وهذا ما جعلنا نعد علم الكلام علماً إسلامياً(9).
فهذا القرآن المجيد يعرض لنا في كثير من آياته طائفة من المسائل الكلامية عرضاً رائعاً يعرض الرد على المنحرفين الملحدين حواراً عقلياً مؤثراً.
وفي أسلوب معين أروع الأساليب الاستدلالية وأشدها ومن ذلك قوله في معرض الرد على المشركين وتزييف معتقداتهم المنطوية على اتخاذ الشركاء والأنداد (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً… أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ)(النمل:60). (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا… أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ) (النمل:61). (أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا… أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ)(النمل:63). (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالْأَرْضِ…أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ)( النمل:64).
في السنة الشريفة
إن الأحاديث والروايات والأحداث والوقائع التي تذكرها كتب الفلسفة وعلم الكلام وكتب الحديث في العصر النبوي والتي تخص أصول الدين والعقيدة الإسلامية وما يتعلق بها تتوضح وتظهر بين الحين والآخر وبصورة مباشرة وغير مباشرة ,كلها تؤيد وتوثق وجود علم الكلام (ولكن
الرسول(صلى الله عليه وآله) لم يلجا إلى الحوار والجدل إلا في مقام دعوة الخصوم إلى الدين الجديد وحذرهم عن أباطيلهم , إذا ما تبين لهم استعدادهم لذلك , وكان ينهى المسلمين عن ممارسته بقصد تحصيل شيء من أصول الدين ويأمرهم بالوقوف فيها)(10).
فنرى الرسول هو المرجع في إزالة الحيرة عن النفس الحائرة، ويرد الشكوك والتساؤلات وكان المسلمون يسألونه مستفسرين والمخالفين لدينه يسألونه معارضين ومتعنتين ومجادلين، (وكانت الأسئلة هناك من كل نوع، وكان الرسول يجيب عنها في تلطف أحياناً، وأحياناً في عنف وسخرية لاذعة كل ذلك حسب ما يقتضيه المقام، ولكن الرسول كان يكره المراء في الدين والجدل بين المسلمين وفي هذا المعنى رويت أحاديث كثيرة، بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف وكلها في جملتها تثبيت هذا المعنى بحيث لا تدع مجالاً للشك في موقف الرسول بالنسبة للجدل بين المسلمين في مسائل الدين(11).
إذن لم يكن بحثهم قاصراً على دائرة ضيقة من المسائل النظرية من الإلهيات والنبوات والسمعيات وإنما تعداهم إلى كل ما يتصل بالعقائد بطريق مباشر أو غير مباشر(12).
ونحاول الآن أن نتعرض لبعض الأحاديث والروايات بصورة سريعة على أساس المشكلة المثارة المقصودة وغيرها، والشك المراد والشرح والتوضيح لمسائل العقيدة وأصول الدين الإسلامي لنبين مدى تأكيدها وتأثيرها على ترجيحنا بأن علم الكلام كانت بداياته وأولياته وحيثيات ولادته ونشأته ومباحثه في العصر النبوي شريف.
1ـ (قال النبي محمد(صلى الله عليه وآله) حين سئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. وهذه العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام)(13).
2ـ (وجاء في الحديث ما يدل على الإيمان اعتقاد، فقد أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب(عليه السلام) عن النبي(صلى الله عليه وآله) إنه قال ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد(صلى الله عليه وآله) رسول الله بعثني بالحق،ويؤمن بالموت والبعث، ويؤمن بالقدر)(14).
3ـ خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) على أصحابه ذات يوم يتراجعون في القدر مغضباً حتى وقف عليهم، فقال بهذا ضلت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ما عرفتم منه فأعملوا به، وما تشابه فآمنوا به)(15).
4ـ (وأخرج أبو الدرداء وأبي أُمامة وأنس بن مالك وواثلة بن أصبح قالوا (خرج إلينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، ثم انتهرنا قال: يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم، ثم قال أبهذا أمرتكم؟ أوليس عن هذا نهيتكم ؟ إنما أُهلك من كان من قبلكم بهذا، ثم قال ذروا المراء لقلة خيره)(16).
5ـ (وأخرج عن جبير بن نعبر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (لا تجادلوا بالقرآن ولا تكذبوا كتاب الله بعضه ببعض فو الله إن المؤمن ليجادل فيغلب)(17).
6ـ (قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الحديث (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله) وقال في هذا المعنى (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا) وقال في الحديث القدسي (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف)(18).
7ـ (روى البخاري بميرة في كتاب التوحيد إن أناساً من اليمن دخلوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله) فبشرهم (… قالوا جئناك لنتفقه ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيئاً قبله))(19).
وفي الختام نصل إلى:
أن علم الكلام نشأ متزامناً مع الرسالة المحمدية لما تتطلبه العقيدة وأصول الدين من النشر والدفاع. وإنه نما وتطور في العصور التي تلت عصر النبوة.
إذ أن الأدوار التي مر بها هذا العلم هي بمثابة أدوار لتطور علم الكلام ونموه لا بمثابة تحديد لتأسيه وانبثاقه .
نشرت في العدد 52
(1) د. علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج1 ص2 .
(2) د. حسام الآلوسي: دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ص74.
(3) ليمان دينا: التفكير الفلسفي الإسلامي ص224.
(4) د. علي سامي النشار وسعاد عبد الرزاق: التفكير الفلسفي في الإسلام ص15، 16 .
(5) عبد المنعم حمادة: رواد الفلسفة الإسلامية ص17.
(6) علي النشار: الفكر الفلسفي الإسلامي ج1 ص212.
(7) الشهرستاني: الملل والنحل ج1 ص20.
(8) د. يحيى الهويدي: دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية ص8 .
(9) أحمد أمين: ضحى الإسلام ج3 ص20.
(10) د. رشدي عليان وقحطان الدوري: أصول الدين الإسلامي ص30.
(11) د. عبد الحليم محمود: التفكير الفلسفي في الإسلام ج1 ص114.
(12) يحيى حسن فرغل: عوامل وأهداف نشأة علم الكلام ص1.
(13) ابن خلدون: المقدمة ص292.
(14) يحيى حسن فرغل: عوامل وأهداف نشأة علم الكلام ص66.
(15) عبد الله نعمة: فلاسفة الشيعة حياتهم وآرائهم ص28 ــ 29، د. عبد الحليم محمود: التفكير الفلسفي الإسلامي 1/114.
(16) مصطفى عبد الرزاق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص281.
(17) السيوطي: صور المنطق وعلم الكلام ص40.
(18) الأشعري: مقالات الإسلاميين ص239.
(19) يحيى هاشم حسن فرغل: عوامل وأهداف نشأة علم الكلام ص51.