الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، هو الإمام الرابع من أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)،
وكنيته: أبو الحسن وأبو محمد،
ومن ألقابه: علي الأصغر لكونه أصغر من أخيه الشهيد بكربلاء علي الأكبر، وزين الصالحين، والسجاد لكثرة سجوده، وزين العابدين، والبكّاء، وذو الثفنات.
وأما إمامته فقد قام بأعباء الإمامة بعد استشهاد أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) عام 61 هـ وله من العمر 23 سنة، وتوفي مسمومًا في 25 محرم عام 95 هـ وله من العمر 57 سنة.
سيرته
عُني الإمام علي زين العابدين (عليه السلام) من خلال سيرته العطرة عناية بالغة، ببناء المجتمع الإسلامي بناءً عقائديًا وأخلاقيًا، لاسيما في الفترة التي أعقبت فاجعة الطف، بسبب ما وصل إليه حال المجتمع آنذاك من انهيار في الجانب العقائدي والأخلاقي، وابتعاد الناس عن دينهم من جراء سياسات الحكم الأموي التضليلية، التي حملت معول الهدم على القيم الأخلاقية والعقائد الحقة، فانبرى (عليه السلام) إلى إصلاح المجتمع وتثبيت العقائد الحقة وتهذيب الأخلاق بالقول والفعل.
وكان المسلمون يرون في سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) امتدادًا حقيقيًا لسيرة جدِّه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وتجسيدًا حيًّا لقيم الإسلام الأصيل، حتى مَلكَ حُبه القلوب، وانشدَّت إليه النفوس.
ولقد استطاع الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهو في قيد المرض، ورهن الأسر الأموي والإقامة الجبرية، أن ينشر أهداف النهضة الكبرى التي فجرها أبوه سيد الشهداء (عليه السلام) وليكمل مسيرته التي ابتدأها باستشهاده، وذلك بالسعي إلى إصلاح المجتمع الإسلامي، وبث روح التدين والأخلاق الفاضلة فيه. فتمكن بالرغم من الصعوبات أن ينشر الحياة في جسد الأمة الذي دبت فيه إمارات الموت، بسبب ابتعاده عن قيم الإسلام، والاستسلام لسياسة التجهيل والتضليل الأموي لشل حركة المجتمع الإسلامي، وتعطيل تفكيره، وأخلد إلى الراحة وطلب العافية.
عبادته
وكانت الخطة الإصلاحية للإمام زين العابدين (عليه السلام) تعطي الأولوية لتدارك ما أصاب الأمة من ابتعاد عن القيم الروحية، من خلال انقطاعه إلى الله تعالى بالعبادة والمناجاة، حتى سُمي لكثرة عبادته بـ (زين العابدين) و(سيد الساجدين) و(ذي الثفنات)، ولم يعرف المسلمون في زمانه رجلًا أعبد منه ولا أزهد، وظهرت آثار العبادة على جسده الشريف، وكان يطوي كثيرًا من لياليه في المسجد الحرام يؤدي نسكه وعباداته،
وقد رويت مشاهد كثيرة لعبادة الإمام زين العابدين (عليه السلام) أدهشت من حوله، وأعادت إلى الناس صورة عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجدَّه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي إحدى ليالي مناجاته مع ربه، كثر بكاؤه، وعلا نشيجه، حتى خر مغشيًا عليه،
ويقول طاووس اليماني الفقيه: (فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده، فاستوى جالسًا
وقال: من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟
فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون. أبوك الحسين بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله؟ قال: والتفت إلي
وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدًا قرشيًا، أما سمعت قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)(البقرة:30).والله لا ينفعك غدًا إلّا تقدمة تقدمها من عمل صالح)(1).
دعاءه ومناجاته
وما (المناجاة الخمسة عشر) إلّا من رشحات نفسه القدسية، وفيها من فنون الدعوات، وآداب مخاطبة المعبود، ما لم يكن مألوفًا لدى عبّاد ذلك العصر، فضلًا عن اكتنازها لمطالب عالية في العقائد والأخلاق.
وقد أثرى الإمام زين العابدين المجتمع الإسلامي، بل الفكر البشري، بكنوز العلم والحكمة عن طريق الدعاء، فحينما مُنع من إلقاء توجيهاته ودروسه عن طريق المنبر، تحول إلى المحراب ليبث علومه ومبادئه في مختلف الأدعية لتجمع في الصحيفة السجادية المعروفة بزبور آل محمد، ولم تكن تلك الأدعية للرهبانية والتصوف واعتزال المجتمع، بل هي كنوز معرفية ترسم للمجتمع الإسلامي البرامج العقائدية والأخلاقية.
بِرَّه وإحسانه
ومنها كثرة البر والإحسان للمحتاجين وخصوصًا طبقة العبيد، فقد كان (عليه السلام) يشفق عليهم كثيرًا، وحفظت لنا النصوص التاريخية صورًا مشرقة في تعامله مع العبيد، وحرصه على تحريرهم من الرقّ والعبودية، حتى عدّ ذلك ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام)،
وكان إذا دخل عليه شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم حتى إذا كان آخر ليلة دعاهم، ثم أظهر الكتاب وقال: يا فلان فعلت كذا ولم أوذيك، فيقرّون أجمع، فيقوم وسطهم ويقول لهم: (ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين، ربك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا، ولديه كتاب ينطق بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فاذكر ذلّ مقامك بين يدي ربك الذي لا يظلم مثقال ذرة وكفى بالله شهيدًا، فاعف واصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ويبكي، ثم يقول: اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلّا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأسًا إلى أقل أو أكثر)(2).
فالإمام (عليه السلام) في الحقيقة أعطاهم عطاءين: عطاءً ماديًا، وهو المال، وعطاءً معنويًا، وهو عتقهم وتحريرهم من العبودية، وذلك لأن الإنسان مجبول على حب الحرية بطبعه، وكره الذل والاستعباد، الذي يولِّد عقدة الحقارة فيكون حاقدًا على المجتمع، وبالتالي تنتج الجريمة. هكذا يعلمنا الإمام السجاد (عليه السلام) درساً عملياً في احترام الإنسان وزرع الثقة في نفسه، وبالتالي فإن المحبة والعدل سيسودان وستنعدم أو تقل الجريمة إلى أبعد الحدود.
مواساته وإنفاقه
لقد انبرى الإمام السجاد (عليه السلام) لوضع السياسات الاقتصادية للمجتمع الإسلامي في ذلك الوقت لما فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى وخدمة المسلمين بشكل عام ويعيد التعاليم الدينية السامية المحمدية التي أرساها رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ ذلك الوقت والتي قضى عليها الحكم الأموي بشكل كامل تقريبًا، السياسات الأموية القائمة على الظلم، والساعية إلى الاستئثار بالحكم، انتجت مشكلات اقتصادية عصفت بالمجتمع الإسلامي، حيث تكونت طبقة من المحتاجين والفقراء والمساكين، لا يجدون لسد رمقهم سبيلا،
فقد كان للإمام السجاد (عليه السلام) دور ومنهج للتكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، كما حثت عليه الشريعة المقدسة، فلم يكتف الإمام (عليه السلام) بمساعدة الفقراء والمحتاجين أو إعتاق العبيد، بل تعهد بقضاء كل ما يحتاج إليه الفقراء وحث أصحابه (عليه السلام) على نهج هذا الدور وعدم الاكتفاء بالتصدق. بذلك ينهج الإمام (عليه السلام) منهجاً جديداً قبال السياسة الأموية المالية الفاسدة التي تنفق الأموال في غير أوجه الحق.
ولابد أن يكون المبادر لهذه المعالجات أهل بيت العصمة المتمثل بعميدها آنذاك الإمام زين العابدين (عليه السلام)، حتى نقلت عنه كتب السير والتاريخ مواقف في الجود والكرم، بأنه يقضي الدين، ويعتق العبيد، ويكرم الفقراء، ويواسي إخوانه المؤمنين، وكان (عليه السلام) محط أنظار المسلمين عامة، وشيعة أهل البيت بصورة خاصة، يرون ما يقدمه لإسعاف المؤمنين وقضاء حوائجهم، فكان (عليه السلام) الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة التي انتهجها المقربون إليه وكانت تلك التدابير من الإمام (عليه السلام) الرد العملي على السياسة الأموية الجاهلية.
عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام)…. يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمني(3) والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه. وكان لا يأكل طعامًا حتى يبدأ فيتصدق بمثله)(4).