Take a fresh look at your lifestyle.

ثمرات انعقاد المجلس الحسيني

0 657

     ونحن نعيش أيام المحرم الحرام ، أيام عاشوراء، ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ابن الزهراء(عليها السلام) ريحانة المصطفى(صلى الله عليه وآله)(1): (حسين مني وأنا من حسين أحبَ الله من أحبَ حسيناً، حسين سبط من الأسباط )(2).
فنعيش أيام نهضة الإمام الحسين التي قامت ضد نظام بني أمية المتمثل آنذاك بنظام الطاغية يزيد، شارب الخمور، اللاعب بالقرود والفهود، المعلن بالفسق والفجور، كما يروي المؤرخون. كابن حجر وغيره(3).. ويكفي يزيد (لع) خزياً وعاراً ما قاله ابنه (معاوية الثاني) عندما مات والده يزيد واصفاً إياه بقوله: (……. ومن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه، وبؤس منقلبه وقد قتل عترة الرسول، وأباح الخمر، وضرَبَ الكعبة )(4).

     ونحن إذ نعيش هذه الذكرى الأليمة الحزينة, وهذه الحالة المأساوية الفظيعة وهذا الانحطاط الشديد في نفوس المسلمين, إذ بَعْدُ لم تبلَ ملابس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما زال صوته يُدَوي في أسماعهم: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي)(5) وقوله (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين أحبَ الله من أحبَ حسيناً، حسين سبط من الأسباط )(6).

     أليست هذه نكبة تصيب المسلمين إذ يُقتل ابن بنت نبيهم ويُفعل به هذا الفعل الشنيع الذي تأباه كل المبادئ الإنسانية فضلاً عن المبادئ الإسلامية، ولم ينكر منهم أحد, إلا أفراد على عدد أصابع اليد, فأي انحطاط وصلت إليه النفوس, وأي موت أمات تلك القلوب, وأي ذُلِّ وخنوع عاشته تلك الجموع !؟.

     فنحن إذ نرفض هذا الخنوع والذل وهذا الانحطاط السحيق أولاً, ونعلن عن ولائنا لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ولآله وخصوصاً لولده الحسين(عليه السلام) ولموقفه الأبي موقف العز والإباء موقف السمو والشموخ ثانياً. وإنه ليتم إعلان ولائنا ونصرتنا للحسين (عليه السلام)
ورفضنا لانحطاط تلك النفوس وخنوعها وذلتها ولمن يمشي على ركبهم على مر الأزمان والدهور, رفضنا التام لذاك النظام الأموي المستهتر بكل مبدأ أقرته الأديان والإنسانية. ومن يسير على نهجه, وذلك عبر عدة موارد من أهمها : عقد مجالس العزاء على الحسين(عليه السلام) وذكر ما جرى عليه وعلى أهل بيته وأصحابه وما أصابهم ونبكي ونتباكى على ذلك, وعقد هذه المجالس تجنى منها ثمرات عديدة :

        1- إعلان مِنا عن الولاء والمحبة والنصرة للإمام الحسين(عليه السلام) ابن بنت نبينا (صلى الله عليه وآله) وهو إعلان عن نصرة الإسلام ونصرة نبي الإسلام وهو جد الحسين(عليه السلام).

         2- إعلان منا عن السير على دينه ودين أبيه وجده المصطفى (صلى الله عليه وآله) مهما كلفنا من ثمن.

      3- بيان ما جرى عليه(عليه السلام) وعلى أهل بيته وصحبه وعياله وأطفاله من انتهاكات وجرائم مأساوية تتنافى مع كل المبادئ الإنسانية والدينية وإدانتها بأشد إدانة وإيصالها إلى كل الأجيال جيلًا بعد جيل .

       4– رفض الخنوع والذل والخضوع للظلم والاضطهاد مهما عظمت قوته واشتد ساعده.

       5- التمسك بمبادئ الدين والتضحية من أجله بالغالي والنفيس وفق الموازين الشرعية.

      6– التبري من النظام الأموي وممن يسير على دربه ونهجه.

      7- إظهار دجل الأمويين وانحرافهم ونفاقهم وكيفية وحشيتهم وعدائهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل فتح مكة وبعد استسلامهم بعد فتح مكة.

      8- كشف مؤامرات الأمويين ضد الإسلام والمسلمين .

    9- رفض الظلم والظالمين وكل الأنظمة الظالمة مهما عظمت شوكتها واستحكمت هيمنتها وسطوتها، اقتداء بالحسين(عليه السلام)، وعقد المجالس على الحسين(عليه السلام) تبقيه حيًا في القلوب وتنشر مبادئه التي ثار من أجلها وشعاراته التي هتف بها، كشعاره (وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة ……) ولو قالوا: إن الإسلام لا يُجوِّز البكاء على الميت, وإن البكاء على الميت يؤذيه فإن بكاءكم على الحسين يؤذيه ويُبعدكم عن رضا الله تعالى. فما هو جوابنا على هذه الشبهة أو على هذا الإشكال؟.
والجواب على ذلك:

       أولاً: من قال إن الإسلام لا يُجوِّز البكاء على الميت. فإنه لا دليل على ذلك.

      ثانياً: لدينا أدلة كثيرة على رجحانه واستحبابه، فضلًا عن إباحته وجوازه.

ودليلنا على نحوين. دليل قرآني ودليل سنتي. وقبل عرض الأدلة، ننبه إلى أن البكاء حالة غريزية في الإنسان متأصلة فيه، لا أنها حالة عارضة، وهو تعبير عن صفة الرحمة. ولهذا نقرأ عند علماء النفس والأخلاق أنهم لم يجدوا بين الصفات الإنسانية كلها صفة أفضل وأشرف من الرحمة ورقة القلب على الآخرين.

ولذا نجد القرآن الكريم يبين منة الله سبحانه ولطفه ونعمته على الذين اتبعوا عيسى(عليه السلام) أن جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة، فهذا قرآننا الكريم ينطق عن الحكيم جل وعلا: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً…….)(الحديد: 27). ولذا استدعى هذا الأمر بعض الفلاسفة أن يعدلوا عن تعريف الإنسان بالحيوان الناطق إلى أنه (حيوان ذو عطف) وعليه فلا إنسانية مطلقاً بدون العطف على مصائب الآخرين وبدون الرحمة والرقة على آهات وأنات المظلومين.

 

 إذن البكاء على المظلومين والشهداء وعلى رأسهم الحسين(عليه السلام) أمر طبيعي وعقلائي وظاهرة فطرية في مقابل قسوة القلب والغلظة وموت الضمير. وهي أخطر الأمراض النفسية المعبر عنها بموت القلب وقسوته. وهذا ما ينطق به القرآن الكريم كذلك إذ هو يصف الأنبياء وذراريهم وأتباعهم أصحاب القلوب الحية المتنورة بالإيمان والتقوى بأنهم إذا سمعوا آيات القرآن الكريم يخرون ساجدين باكين, يقول سبحانه : (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)(مريم: 58).

فالبكاء إذن حالة طبيعية غريزية في الإنسان تعبر عن صفة الرحمة والرقة وعن حياة القلب دون قسوته وغلظته. ولذا نجد القرآن الكريم ينكل باليهود ويعبر عن تنكيله وذمه لهم بأنهم قساة القلوب يقول سبحانه : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً……. ) (البقرة: 74).

ولنعد إلى بيان أدلة إباحة وجواز البكاء بل على رجحانه ومحبوبيته قرآناً وسنةً:

     أولاً: الدليل القرآني على جواز البكاء على الحسين(عليه السلام):

     1- ما نص عليه القرآن الكريم من بكاء يعقوب لفراق ولده يوسف وهو حي في دار الدنيا حتى ذهب بصره وحتى قيل له: (قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) (يوسف: 85). و(تَفْتَأُ) أي لا تزال ومعناه أنك دائماً تلهج بذكر يوسف(عليه السلام)(7).. (حتى تكون حرضاً) والحرض المرض والهزال والإشراف على الهلاك أي حتى تصير مريضاً مهزولاً مشرفاً على الهلاك، أو المدنف الهالك من شدة الوجع(8). أو يُذيبك الهم(9).

    وأما الآية التي سبقت هذه الآية أي آية 84 من (سورة يوسف) تبين عمق الألم وشدته حتى فقد يعقوب(عليه السلام) بصره من شدة بكائه على يوسف. يقول سبحانه: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84). وابيضت عيناه: أي انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء(10)، أو انمحق سوادهما وبدل بياضاً من بكائه(11).

       ولذا روى الطبري في تفسيره عدة روايات مسندة فيها: أن يوسف(عليه السلام) سأل جبرئيل ما بلغ من حزن أبيه يعقوب؟ قال:
حزن سبعين مثكلة أو ثكلى، والثكلى هي التي لديها ولد واحد ثم مات(12). وروى الطبري في تفسيره أيضاً بسنده عن الحسن البصري قال : كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه، حتى ذهب بصره(13).. إن ملك الموت دخل على يعقوب(عليه السلام) فقال له أجئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟

     فقال:لا. ولكن جئتُ لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك(14). وجاء في الكشاف و تفسير النيشابوري قيل : ما جَفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً, وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب(15).

    وفي تفسير النيشابوري نقل أن جبرئيل(عليه السلام) دخل على يوسف حينما كان في السجن فقال: إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك. فوضع يوسف يده على رأسه فقال: ليت أمي لم تلدني، فلم أكن حزناً على أبي(16). فهذا يعقوب المتبع لملة جده إبراهيم (عليه السلام) قد بكى على فراق يوسف السنين المتطاولة حتى ابيضت عيناه، وابنه حي في دار الدنيا وقد أُعطي ملك مصر.

    2- بكاء يوسف(عليه السلام) على أبيه يعقوب على ما لقي من وجد على فراقه وتمنيه إن لم يولد ـ كما سمعت آنفاً في رواية الطبري ـ
أنه بكى لما كان في السجن ولم يلق أباه بعد. ورواية النيشابوري أنه وضع يده على رأسهِ فقال ليت أمي لم تلدني فلم أكن حُزناً على أبي.
 3- حزن ملك الموت لحزن يعقوب, وشجواه لشجوه، كما مر آنفاً في رواية الرازي فملك الموت حزن ليعقوب لما بكى على ولده وهو حي في دار الدنيا.

   وياهل ترى البكاء على الحي أولى من البكاء على الميت أو البكاء على الميت أولى! وأيُ ميت هو! وأي قتيل هو! وأي شهيد هو!؟ هو الحسين ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة كما قال الرسول(صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)(17). فإنه لا يدل على جواز البكاء وحسب بل يدل على رجحانه و محبوبيته, وذلك لأننا نقتدي بالرسل والأنبياء, كما نستدل به على استمراريته، أي استمرار البكاء على الحسين(عليه السلام) ذلك لأنه مازال يعقوب(عليه السلام) بكى على ابنه ثمانين عاماً فإذا صح في الثمانين صح في المائة وإذا صح في المائة صح في المائتين وهكذا في الألف وفي الألفين.

   ولهذا استدل الإمام زين العابدين(عليه السلام) على بكائه على أبيه الحسين(عليه السلام) كل تلك الفترة التي عاشها بعد أبيه الحسين(عليه السلام) ببكاء يعقوب(عليه السلام) على ولده يوسف(عليه السلام)وهو حي، فقد روي أنه سأله أحد أصحابه مشفقاً على الإمام زين العابدين(عليه السلام) مما رآه من شدة وجده وبكائه على الحسين (عليه السلام)

    فقال: ( يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن يقل؟ فقال (عليه السلام) له: ( ويحك إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم(عليه السلام) كان نبياً ابن نبي, كان له اثنا عشر ابناً، فغيبَ الله سبحانه واحداً منهم, فشاب رأسه من الحزن, واحدودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء, وابنه حي في دار الدنيا، وأنا رأيتُ أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين, فكيف ينقضي حزني ويذهب بكائي!؟)(18) وأحب أن أنبه أن كل ما ذكرته من الروايات هي تفسير وتأييد للدليل القرآني.

نشرت في العدد 66




1) (الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا). وهو رَوْحٌ من رسول الله(صلى الله عليه وآله). صحيح البخاري ج3 ص1371 ح3543 . سنن الترمذي ج5 ص657.
2) صحيح ابن حبان ج15 ص428، المستدرك على الصحيحين . ج3 ص194 حد4820.
3) الصواعق المحرقة لابن حجر. ص134.
4) نفس المصدر السابق.
5) حلية الأولياء. ج1 ص355.
6) المستدرك على الصحيحين: ج3 ص194 ح4820.
7) صحيح البخاري الجزء الخامس في التفسير 4 ص1727.
8) الإتقان ج1 ص368.
9) صحيح البخاري الجزء الخامس في التفسير ص1727، ولسان العرب ج7 ص134.
10) فتح القدير ج3 ص48 .
11) السيوطي، تفسير الجلالين ج1 ص316, والآلوسي، روح المعاني. ج3 ص40 وص80.
12) الطبري، تفسير الطبري ج13 ص30، والسيوطي، الدر المنثور. ج4 ص507 .
13) الطبري، تفسير الطبري ج13 ص32، والآلوسي، روح المعاني. ج13 ص40.
14) تفسير الرازي في تفسيره. ج5 ص 238.
15) الزمخشري،الكشاف. ج2، ص450، بهامش تفسير الطبري. ج13 ص42.
16) النيشابوري، تفسير النيشابوري. ج13 ص44.
17) صحيح الترمذي ج2 ص306-307، صحيح ابن ماجة ج3 ص167، فضائل أصحاب النبي، والمستدرك على الصحيحين . ج13 ص167، ومسند احمد. ج3 ص82,62,3، خصائص النسائي . ص. 36 .
18) بحار الأنوار ج3 ص 282 ج5 ص149، وسائل الشيعة ج3 ص 282، اللهوف للسيد ابن طاووس. ص209، مسكن الفؤاد. ص100 الباب الرابع من البكاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.