من مصادر دراسة تاريخ وفكر الإمام الرضا(عليه السلام) وتتبع آثاره كتاب (عيون أخبار الرضا) للشيخ الأقدم والمحدث الأكبر الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابوية القمي (ت 381هـ)، حيث جمع هذا الكتاب المرويات الخاصة في تاريخ الإمام(عليه السلام) وحياته سواء من الناحية المذهبية أو الفقهية أو السياسية والاجتماعية، ودور الإمام في توجيه الأمة الإسلامية، والموقع الذي احتله الإمام(عليه السلام) وغير ذلك الروايات الدالة على سعة علمه(عليه السلام) وفي بيان خصائص الإسلام والدفاع عن العقيدة، فترى في هذا الكتاب مواضيع متفرقة ضمت علوماً مختلفة وآثاراً صدرت منه (عليه السلام)، فتلاحظ أحاديث في التوحيد، أو مناظرته مع أهل الأديان، أو هناك مجالس للإمام(عليه السلام) مع أهل الملل والمقالات في عصره، أو حديثه (عليه السلام) عن عصمة الأنبياء، أو حديثه عن مسائل فقهية أو روايات تشير إلى رده (عليه السلام) على الغلاة والمفوضة،
ومن المواضيع التي وقفنا عليها لأجل هذا البحث هو الرواية الواردة في باب (20) من ج1، ص216 من كتاب عيون الرضا(عليه السلام) في (ما جاء عن الرضا(عليه السلام) في وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته) حيث أن مسألة الإمامة من الأمور المهمة التي ورد بيانها والدفاع عنها في تاريخ الموروث الشيعي ومنظومته الفكرية، وهي من المسائل المهمة التي حدث الاختلاف فيها بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقد ألّف علماء الإمامية فيها المؤلفات والكتب في الدفاع عن هذه العقيدة سواء من القدماء أو المتأخرين، وعلماء الإمامية بدورهم استلهموا ما ورد عنهم (عليهم السلام) في بيان ذلك. ونحن هنا إذ نذكر بعض المقاطع من هذه الرواية لبيان بعض المطالب التي تنسجم مع مساحة هذا البحث.
وردت هذه الرواية بسند الشيخ الصدوق إلى (عبد العزيز بن مسلم) بطريقين ذكرهما بنفس الباب، والثاني منهما وقع في إسناده الشيخ محمد بن يعقوب الكليني بطريقه أيضاً إلى عبدالعزيز بن مسلم، وعلى هذا فالكليني يكون راوياً لتلك الرواية ونقلها في كتابه أصول الكافي (ج1 ص198 الباب: 15، من كتاب الحجة الحديث(1). وعبدالعزيز بن مسلم يقول فيه السيد الخوئي(قدس سره): (من أصحاب الرضا(عليه السلام) رجال الشيخ(47)… روى هو عن الرضا(عليه السلام) رواية مبسوطة شريفة فيها بيان مقام الإمام (عليه السلام) وإن منزلة الإمامة منزلة الأنبياء وأنها خلافة الله وخلافة الرسول(صلى الله عليه وآله) ومقام أمير المؤمنين(عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليه السلام)، وفيها الاستدلال بالآيات على انحصار الإمامة في المعصومين(صلوات الله عليهم أجمعين))(1).
ومما ورد في تلك الرواية عن عبدالعزيز بن مسلم قال: (كنا في أيام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فإذا رأى الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا(عليه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه).
هنا قول الراوي (فدخلت) لعل الفاء هنا هي العاطفة للتعقيب، وهي الرابطة للكلام لما قبلها بما بعدها، وما قبلها فيه نوع من الغموض، فالراوي يقول: (فإذا رأى الناس أمر الإمامة… فدخلت على سيدي ومولاي) وقصدي من ذلك أن هذا السياق غير واضح وما في أصول الكافي أوضح منه حيث العبارة هناك: (فأرادوا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها)(2).
ومدينة مرو المذكورة في هذه الرواية لعلها هي (مرو الشاهجان) ومعنى الشاهجان روح الملك، وهي على مقربة من نيسابور مسيرة اثني عشر يوماً، وهذه المدينة كانت مقام المأمون لما كان بخراسان، ومنها ظهرت دولة بني العباس(3).
ثم قال الراوي (فتبسم (عليه السلام) ثم قال: يا عبدالعزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه(صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كاملاً، فقال عزّوجلّ: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الانعام:38)، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره(صلى الله عليه وآله):
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(المائدة: 3)، وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض(صلى الله عليه وآله) حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم علياً(عليه السلام) علماً وإماماً وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه،
فمن زعم أن الله عزّوجلّ لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عزّوجلّ، ومن ردّ كتاب الله تعالى فهو كافر، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم، إن الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم)، وقوله(عليه السلام): (جهل القوم وخدعوا عن أديانهم) ففي أصول الكافي ورد (وخدعوا عن آرائهم)، وفي هذا المقطع الذي نقلناه أشار الإمام(عليه السلام) إلى مفهومين:
(إكمال الدين، وأن الإمامة من تمام الدين)، وإذا لم يكن كاملاً أو تاماً فهو ناقص، فالنقص يطرح تارة مقابل التمام وتارة مقابل الكمال، والنقص مقابل التمام يعني فقدان بعض الأجزاء، فالكتاب الناقص هو الذي فقد بعض الأجزاء، فالكتاب الناقص هو الذي فقد بعض فصوله أو بعض صفحاته، وكما هو الحال في الصلاة الناقصة أو التامة، فالنقص في مقابل التمام يستخدم حينما يكون المورد والموضوع فيه فقدان لبعض أجزائه، ولكن النقص مقابل الكمال يدل على شيء آخر بمعنى أن ذلك الشيء حتى يكون كاملاً عليه أن يطوي ويستوفي جميع مراحله وإمكانياته، فمثلاً الوليد يولد وهو تام الخلقة لأن أعضاءه لم ينقص منها شيء إلا أنه ينتظر منه في المستقبل أن يطوي مراحل المشي والتكلم وأن يتعلم حتى يتكامل، فهو فاقد لهذه الأمور الآن، بمعنى أنه لم يصل إلى مرحلة كماله الممكنة ومن هنا يتضمن مفهوم الكمال مفهوم الارتقاء، ويبدو أن الآية الشريفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) استخدمت كلمة (الكمال) و(التمام) بحكم صدق المفهومين معاً، فمن حيث أن الدين بوصفه حقيقة متكاملة قد تكامل ووصل إلى أوج كماله من خلال تعيين حكم القيادة المعنوية والاجتماعية التي تمثل روح الدين، هذا من ناحية، ومن حيث أن الدين مجموعة من الأحكام والتكاليف، وموضوع القيادة والإمامة أحد هذه الأحكام والتكاليف، فقد تم الدين بمجيء وتحديد هذا التكليف ولم يبق هناك تكليف آخر(4).
والإمامة في اللغة هي الرئاسة، وكل من يتصدى لرئاسة جماعة يسمى الإمام سواء كان في طريق الحق أو الباطل، والقرآن استعمل مصطلح (أئمة الكفر) وأطلقه على رؤساء الكفار.
وفي مصطلح علم الكلام الإمامة هي الرئاسة والقيادة العامة الشاملة على الأمة الإسلامية في كل الأبعاد والجوانب الدينية والدنيوية(5).
وهذه الرئاسة في رأي الشيعة إنما تكون شرعية فيما لو كانت من قبل الله تعالى ولا يكتسب أي شخص مثل هذا المقام إلا إذا كان معصوماً عن الخطأ في بيان الأحكام والمعارف، ومنزهاً عن الذنوب والمعاصي، وفي الواقع أن الإمام المعصوم يمتلك كل مناصب النبي(صلى الله عليه وآله) سوى تلقي الوحي والإتيان بالشريعة، وأحاديثه حجة في بيان الحقائق والأحكام والمعارف الإسلامية، وكذلك تجب طاعة أوامره وأحكامه في مختلف القضايا، ومن هنا فإن خلاف الإمامية مع غيرهم يدور في ثلاث محاور:
(1) لابد من نصب الإمام وتعيينه من قبل الله تعالى.
(2) أن يكون مصاناً من الخطأ وله العلم الموهوب من الله تعالى.
(3) أن يكون معصوما من المعصية(6).
من هنا نرى التأكيد الواضح في هذه الرواية على أهمية تلك المسألة، وأنها من تمام الدين ولا يمكن التفريط بها وإن اختيار الناس لها ونصبهم الخليفة من خلال إمكانياتهم البشرية والعقلية لا يمكن أن يكون، وأنها خلافة إلهية، كما أشار الإمام(عليه السلام) إلى علم الإمام ومواهبه وفضله وعصمته وغير ذلك من الأمور.
لقد كان للنبي(صلى الله عليه وآله) منصب النبوة والرسالة وتعليم الأحكام وتبيانها وقيادة الأمة الإسلامية والولاية عليها، والقضاء والقيادة والعسكرية وغيرها، ومعروف أن الدين الإسلامي كما اشتمل على العبادات والمعارف الأخلاقية فهو مشتمل على الأحكام الحقوقية والاقتصادية والسياسية وغيرها والنبي(صلى الله عليه وآله) كان مكلفاً من الله تعالى بتنفيذ الأحكام والتشريعات وتطبيقها، ومن البديهي أن الدين الذي يدعي قيادة البشرية كلها حتى نهاية العالم لا يمكنه أن يهمل تلك المسائل والقضايا ولا يمكن للمجتمع القائم على أساس هذا الدين أن يفقد هذه الأمور والمسؤوليات، ومن هنا كان عنوان الإمامة شاملاً لها جميعاً لقيادة البشرية وإيصال الناس وهدايتها إلى المطلوب(7).
ثم يقول الإمام الرضا(عليه السلام) في تلك الرواية: (إن الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل(عليه السلام) بعد النبوة والخِلَّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه وأشاد بها ذكره، فقال عزّ وجل: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) فقال الخليل(عليه السلام) سروراً بها: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) قال الله عزّوجل: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(البقرة:124)، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله عزّوجل بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عز وجل: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:72ـ73) فلم يزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) فقال الله عزّوجل: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68) فكانت له خاصة فقلدها (صلى الله عليه وآله) علياً بأمر الله عزّوجل على رسم ما فرضها الله عزّوجل).
هنا في هذا المقطع يشير إلى أن الإمامة من أهم الحقائق التي وقف عندها القرآن وأولاها عناية خاصة، حيث بيّن أنها المقام الإلهي الذي لم ينله إبراهيم(عليه السلام) إلا بعد مقام النبوة والخِلَّة، وهذه الإمامة كما وضحها القرآن وبينتها النصوص الروائية هي غير الإمامة السياسية التي انطلق منها جمهور المسلمين من غير الشيعة، أي تتحكم بها العوامل الاجتماعية ويقوم الناس بتعيين تلك الخلافة والإمامة، حين يقوم الخليفة بتصدر هرم السلطة في النظام الإسلامي. ولكن من أهم خصائص الإمامة في القرآن أن القرآن كلما تعرض لها تعرض معها لذكر الهداية (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (الأنبياء: 73)، فهذه الهداية لا تقع إلا بأمر الله تعالى فكما أن النبي(صلى الله عليه وآله) رابط بين الناس وبين ربهم في أخذ الشرائع الإلهية وتنشر منه إلى الناس فيكون دليلاً إلى الإعتقادات الحقة والأعمال الصالحة، والإمام أيضاً فهو الرابط بين الناس وبين ربهم في إيصال الناس إلى المطلوب والتبليغ لأحكام الله تعالى لأن عصر التشريع انتهى بوفاة النبي(صلى الله عليه وآله).
ثم يقول الإمام(عليه السلام): (فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عزّوجل: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) (الروم: 56) فهي في ولد علي(عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) فمن أين يختار هؤلاء الجهّال؟!
إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله عزّوجل…) هنا يشير الإمام(عليه السلام) إلى أن الإمامة هي خلافة الله عزّوجل وهذا المعنى وردت فيه الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) بحق الإمام المهدي(عليه السلام)، منها: أخرج أبو نعيم عن ابن عمر قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (يخرج المهدي وعلى رأسه عمامة فيأتي منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه)(8)>