Take a fresh look at your lifestyle.

دور القدوة الحسنة.. في الخلاص من التبعية العمياء

0 771

الشيخ عبد الرزاق فرج الله الأسدي
أستاذ في الحوزة العلمية

 

   بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(1)

الأسوة: هو المثل والقدوة، وهو ما يؤنس إليه ويقتدى به، والاقتداء: هو السير على سنن من يتخذ قدوة، أي: مثالًا للاقتداء. وائتسى فلان بفلان أي: حذى حذوه ونهج نهجه في قول أو عمل أو عقيدة، والقوم أسوة في هذا الأمر، أي: أن حالهم فيه واحدة.
والأسوة ـ بالضم والكسر ـ ما يتأسى به الحزين، أي: يتعزى به، ثم سمي الحزن أسى بما فيه من الصبر والتأسي.
ويطرح القرآن الكريم للأمة أسوتها في الإيمان والقوة والحركة والصبر والتضحية، وهو الرسول الكريم محمد(صلى الله عليه وآله)
لأنه القمة في كلّ ما تتطلبه حياة الأمة، وما يحتاجه وجودها من معاني القوة.
وهناك اختلاف في كون الأسوة برسول الله(صلى الله عليه وآله) واجبة أم مستحبة، فهناك من حملها على الاستحباب في أمور الدنيا.
ولا طائل تحت هذا القول أو ذاك، بل علينا أن نعرف أنّ الله تعالى عندما اختار نبيه المصطفى(صلى الله عليه وآله) لرسالته، وكتب لكلمته القوة والنفوذ والبقاء والخلود، أمر البشرية بالطاعة فقال تعالى: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(2).
حيث أناط به عزّ وجل مهمة التربية والإعداد للأمة، إعدادًا يتناسب مع حجم المسؤولية التي ألقيت عليها.
فكان التأسي والاقتداء برسول الله(صلى الله عليه وآله) من المستلزمات الأساسية ومن صميم هذه المسؤولية، التي على الأمة أن تتبع فيها كلّ ما لديه من نقاط القوة والتأثير، وأن تتعلم من خلاله(صلى الله عليه وآله) دينها أحكامًا، وأخلاقًا، ومبادئ عامة للتربية.
لأنه طبيبها الحاذق الدائم، الذي يصاحبها ولا يفارقها في كلّ قضية من قضاياها، ويحمل لها البلسم الشافي لعلاج أدوائها (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(3).
وقد وصفه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّه قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَه ـ وأَحْمَى مَوَاسِمَه يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْه ـ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وآذَانٍ صُمٍّ ـ وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ – مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِه مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ ـ ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ)(4).
وسئلت إحدى نساء النبي(صلى الله عليه وآله) عن خلقه، فأجابت كان خُلُقُهُ القرآن، وهي إجابة شاملة مختصرة، تؤكد أن رسول الله(صلى الله عليه وآله)
هو ترجمة حية لروح القرآن وحقائقه.
ولما كان القرآن الكريم قوة كونية عظمى تتكامل في النواميس والقوى، وتلتقي السماء والأرض أروع لقاء شهده الكون والحياة، وتتكامل بهداه البشرية (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)(5).
فلا عجب في أن يكون رسول الله(صلى الله عليه وآله)
قدوة للعالمين وللأمة في مسيرتها التأريخية الطويلة.
لذا عليها أن تقرأ فيه كلّ معالم هذه الهداية، وأن تقتبس من نور إنسانيته قبسًا تستطيع أن تتحرّك به في خط العمل، وتبدّد به ظلمات هذه الحياة، وأن تتنسم من أنفاسه عبقة تستطيع أن تملأ منها الوجود بالرحمة والحب.
في الوقت الذي لا يستطيع أحد في الدنيا أن يعطي هذه الحياة، ولو جزءًا يسيرًا مما أعطاه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، هو الوحيد الذي يبقى يعطي الأمّة الكثير الكثير من إيحاءات رسالته الفكرية والرّوحية والإنسانية.
وقد يقال: كيف نتوصل إلى القدوة؟ أليس من الضروري أن يكون القدوة مثلًا بيننا ليتسنى لنا الاقتداء به كما اقتدى به الرّعيل الأول من المسلمين؟ كيف ونحن لا نملك إلا أحداثًا و ذكريات للقادة القدوات؟.
أقول: بما أنَّ كلّ شعب من الشعوب، وكلّ أمَّة من الأُمم، كما تعتز وتفخر برموزها، فإنها تعتز وتفخر بأحداث تأريخها، لأنها منبع قيمها وأخلاقها ومبادئها.
لذا إننا كأيّ أمّة من الأمم والشعوب، نشترك معها في القضية الكبرى، ونفترق عنها في تحديد الصغرى.
لأننا نرى أنّ الاعتزاز والفخر لا بأي ذكرى من الذكريات أو حدث من الأحداث، بل متى اجتمعت في تلكم الذكريات أو الأحداث شروط معينة، يمكن أن نسميها عناصر الاستفادة وهي:
1ـ ضخامة الذكرى وعظمة تأريخها وأحداثها وعمق أحداثها.
2ـ عظمة بطلها ورائدها، لأنه هو الذي يصنع بتأريخها ويمنحها العمق، ويزودها بالعطاء، ويهبها حُلَّة زاهية من المجد والسؤدد والعز.
3ـ التفاعل معها، والتناغم مع معطياتها، وانتظام معانيها مع أفكار ومشاعر وأحاسيس روّادها وعشاقها الذين يحيونها ويرعون تأريخها.
فمتى اجتمعت هذه الشروط لأيّة ذكرى تعيشها الأمة، وتحتضن مشاعرها، فسوف تتحول تلك الذكرى إلى ثمار ونتائج إيجابية وإبداع في واقعها. بل إلى قرارات ومواقف تتجاوز الكلمات والعبارات، وإلى منجزات وبطولات تتحدى المخاوف وتزدري بالمثبطات.
وحيث إنّ لرسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) ذكرى (مولدًا ومبعثًا وإسراءً) وغيرها ممّا له ولأهل بيته من الذكريات، التي ما برح وسيبقى يرويها التأريخ وتتناغم معها الأمّة، لأنها تعتقد أنّ أبطالها هم الرجال كلّ الرجال، الذين ملأوا الحياة ثراءً، وألبسوها بهاءً، ووهبوها ضياءً.
فإنّ باستطاعة الأمة أنْ تستمد من هذه الذكريات ظلها الوارف الأمين، وسورها المحكم المتين، وقولها الصادق المبين، لأنّ أبطالها هم أصحاب القرار الثابت والموقف الجريء، الذي تحدوا به الأهوال والمخاوف، وازدروا بالدنيا والزخارف، من أجل إرساء ما اعتقـدوا وآمـنوا به من مبادئ وقيم رسالتهم الخالدة.
وأن تستذكر ما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول لعمه أبي طالب(عليه السلام): (يا عمّ ، واللهِ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمسُ في يميني والقَمَرُ في شمالي ما تَرَكْتُ هذا القَولَ حتَّى أُنْفِذَهُ أو أُقْتَلَ دُونَه)(6).
فهكذا تحتاج الأمة أن تستلهم من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن أهل بيته(عليهم السلام) ومن تأريخهم المعطاء مواقف يشد بعضها بعضًا،وهي الإيمان والمعرفة والحكمة والجرأة والإيثار والفدائية، لتستفيد منها في مواقفها في ميدان الصراع الذي فيه الحق هو الحق، والباطل هو الباطل، والأعداء هم الأعداء.
لأنّ في ساحة الصراع بين الحق والباطل ـ وإن تغيرت الوجوه والأزياء والمراكب والأسلحة والمعدات والمطاعم والمشارب ـ فإنه لم تتغير الهوية والعقيدة والفكرة لأهل الباطل، لأنّ الكفر ملة واحدة من ماضي التأريخ وحاضره.
لذا ينبغي أن يكون موقف الأمّة واحدًا في ماضي التأريخ وفي حاضره، منسجمًا مع عقيدتها ورسالتها في الحياة، تجاه التحديات؟.
قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(7).
(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) حيث تجتمع الشدة والرحمة في ذات الإنسان المؤمن بحكم الموقف الذي يملي عليه، ويقضي متى يقسو ومتى يرحم.
أمّا الشدة: ففي لحظة التحدّي، وفي ميدان المواجهة بقوة الفكر والإيمان والموقف ضد العدو المشترك الذي يسعى إلى إسقاط هيبة الإسلام، وحرف الأمة عن خطه.
وأمّا الرّحمة: فهي رحمة بكل نقاط الضعف التي تعاني منها الأمة، رحمة بالفكر الضعيف لتهبه قوة المعرفة والوعي، ورحمة بالمخطئ لتلهمه الصواب فيما يفكر ويقول ويعمل، ورحمة بالجاهل الضائع عن الطريق فتلقي إليه شعلة الضوء لتدله على الطريق.
ففي نوادر الراوندي عن علي(عليه السلام) قال: لما بعثني رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى اليمن قال: (يا علي لا تقاتل أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس ولك ولاؤه)(8).
هذا مما يفيض به تاريخ الرسالة والرسول على الأمة، لتحول الحياة إلى مهبط للنعيم الدائم، والسلامة والمحبة (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا).
لأنّ خط الالتحام بقوة السماء، والارتباط بالله عزّ وجل، هو خط الانطلاق إلى ربوع الحياة، وهو الخط الذي تستمد منه القوة والرّحمة، إلى صميم هذه الأمة، وهو الخط الذي يوجه الأمّة في كلّ مواقفها، ويعلمها ما هو موقع الشدة وما هو موقع الرحمة.
ومن هنا، فإنّ علينا أن ندرك قبل كل شيء في تعاملنا مع ذكرى مولد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومع تاريخه الخالد، أنّ علينا أن نعي حقيقتين لهما الأثر الكبير في حياتنا ونشاطنا:
الأولى: أن ندرك حاجتنا إلى الأسوة: علينا أن نقارن بين الصورة المظلمة الكئيبة، التي كانت قد ألقت بظلالها وضلالها على المجتمع قبل ظهور النبي(صلى الله عليه وآله)،
وبين الصورة المنيرة المشرقة التي رسمها الإسلام للبشرية كافة، إذ كان مولده(صلى الله عليه وآله) وبعثته للحياة مولدًا جديدًا للإنسانية، ومشرقًا لسعادتها ومجدها وعزتها.
ومن خلال هذه المقارنة نعلم أنّ حياته النبيلة وسيرته الجليلة، هي صفحة من نور الفضيلة، ومن طهر الذات وكمال الصفات التي فرضت سلطانها على كل مناحي الحياة، لذلك فهي المنار لكلّ ظلمة من ظلمات الأفكار والمفاهيم والسلوك، والقبس السماوي الذي يهتدي به المدلج المتحير في مجاهل الطرق.
ولكن علينا أن نعلم ما هو السر في ضعفنا؟، إنّ الضعف في نهضة الأمة اليوم، يتمثل في افتقارها وحاجتها إلى القدوة في تكوين القدوة، حاجتها إلى هذا المثل الذي يبدل فيها الجهل بالعلم، والشك باليقين، والظلمة بالنور، واليأس بالأمل، ويطهر وجدانها عن طغيان النوازع والمطامع الفردية، بخلوص القصد وصفاء النية في العمل لوجه الله عزّ وجل.
وذلك: أنّ بعضنا، قد بلغ بهم اليأس بحيث لا يؤمنون بانجلاء هذه الغاشية التي غشيت المجتمع المسلم إلا بمعجزة من السماء، وبلغ بهم الاعتقاد بضعف أنفسهم، والإيمان بقوة الغرب والإمكانيات المادية، درجة القنوط واليأس من الإمكانيات التي بمقدور هذه الرسالة أن تمنحها لهم.
في الوقت الذي علينا أن نؤمن أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله)، بما يحمل من نور الرسالة هو منبع عناية السماء للمسلمين، ولكن بشرط أن يتجرّد المسلمون لله وحده، ويسلكوا الخط الأمثل للاستقامة على الطريقة، وأن يؤمنوا بالملازمة بين الاستقامة على الخط اللاحب للرسالة،وبين العناية الربانية.
قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)(9).
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(10).
إذن، يحتاج المسلمون في ضمان استقلالهم وعزتهم وقوتهم، وفي تبليغ رسالتهم وحضارتهم للعالم، إلى وسيلة طبيعية يألفها ويتجاوب معها المزاج الإنساني، وهذه الوسيلة تتمثل في أمرين:
أولا: الإيمان النابع عن القناعة والرضا بهذه الرسالة، والذي يهدي إلى صواب الفكرة وسداد القول وحكمة الموقف، ولا أعتقد أنّ أمة تمتلك ما تمتلكه أمة الرسالة من هذه الوسيلة.
ثانيا: القدوة الصالحة التي تصاحب الإنسان المسلم في حركته ونشاطه في كل المجالات، فينظر من خلالها الصورة الواقعية لهذه الرسالة بكافة صفاتها وخصالها وقيمها ومفاهيمها وأخلاقها ومواقفها، ولا أعتقد أنّ أمة حظيت بما حظيت به أمة الرسالة من مثل أعلى للقدوة كرسول الله(صلى الله عليه وآله).
الثانية: أن ندرك أثر السيرة في التربية: إنّ من أنجح الطرق ذات الأثر التربوي في الأمة، كون المربي قدوة بأخلاقه وأعماله وسلوكه، ممتثلًا لما يؤمر به، ومجتنبًا لما ينهى عنه وكما حكى القرآن قول النبي شعيب(عليه السلام) من قبل لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(11).
إنّ الإنسان الرسالي، والمعلم الصالح المصلح، ينطلق في ساحة الإصلاح والتغيير من خلال منطلقين:
1ـ منطلق البيان والقول الصادق الذي يوجه ويحرّك أفكار الناس ويناغم مشاعرهم، ليهديهم للتي هي أقوم.
2ـ منطلق الفعل والسيرة العملية التي تعكس المفاهيم والمبادئ والقيم التي تتفاعل في أعماق الناس وتصوراتهم.
لذا ما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أخذ لقب الأسوة الحسنة إلا بعد أن كان متمتعًا بوصفها على أكمل الوجوه وأرقاها، حيث أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وانتزع القدوة من سيرته العملية.
لذا قال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه ولْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه ومُعَلِّمُ نَفْسِه ومُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِمْ)(12).
وفي مصباح الشريعة: (العالِمُ حَقًّا هُوَ الَّذي تَنطِقُ عَنهُ أعمالُهُ الصّالِحَةُ وأَورادُه الزّاكِيَةُ ، وصَدَّقَهُ وتَقواهُ،لا لِسانُهُ ومُناظَرَتُهُ ومُعادَلَتُهُ وتَصاوُلُهُ ودَعواهُ….الحديث)(13).
وعلى هذا الأساس، فإنّ على الأمة أن ينسجم لديها القول والعمل في ساحة التغيير، ولا يزدوج لديها السلب والإيجاب في آن واحد، حيث تجتمع إيجابية القول مع سلبية الفعل فتكون موضع عتاب الله عزّ وجل وتوبيخه: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)(14).
أي: أيها المؤمن، لماذا لا تتحرّك مبادئ هذه الرسالة في حياتك؟ ولماذا لا تتفاعل مبادئها في ذاتك وفكرك وسلوكك قبل أن تأمر غيرك؟.
ومما سمعنا من بعض الفضلاء: أنّ مملوكة خادمة اشتكت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)
تعبها وأذاها من الخدمة عند سيدها، وطلبت منه أن يأمر سيدها بعتقها، فأجابها رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالقبول، فمضت.
ولما لم يتحقق ما وعدها عادت بعد فترة من الزمن لتؤكد عليه ذلك، وهكذا عادت عليه مرة أخرى وأخرى، حتى تم تنفيذ طلبها بعد حين، فلما أعتقت، جاءت إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) لتشكره، ثم سألته قائلة: لما تأخر طلبي يا رسول الله؟
قال(صلى الله عليه وآله) ما معناه: كان ذلك لأني كنت أجمع مالًا لشراء رقبة لأعتقها قبل توجيه الأمر لسيدك بعتقك، لأني لا آمر بشيء حتى أكون أوّل من يأتمر به ولا أنهى عن شيء إلا وأنا أوّل من انتهى عنه.
وهكذا تتظافر تعاليم الرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) في التأكيد على أهمية السيرة العملية في طريق الإصلاح والتغيير.
كما جاء عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): (كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِالْخَيْرِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ لِيَرَوْا مِنْكُمُ الِاجْتِهَادَ والصِّدْقَ والْوَرَعَ)(15).
نسأل الله تعالى العون والتيسير في طريق الإصلاح والتغيير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير حبيب الله ونجيبه وصفيه وخالصته محمد وآله الطاهرين .

نشرت في العدد 50


(1) الأحزاب: 21.
(2) الحشر: 7.
(3) الحجرات: 7.
(4) محمد الريشهري- ميزان الحكمة -: 1/2.
(5) الإسراء: 9.
(6) العلامة المجلسي – بحار الأنوار-:9/143.
(7) الفتح: 29.
(8) الشيخ علي النمازي – مستدرك سفينة البحار -:10/1.
(9) الجن:16.
(10) الأعراف: 96.
(11) هود: 21.
(12) نهج البلاغة /ج4 ص16.
(13) الشيخ علي النمازي – مستدرك سفينة البحار -: 6/354.
(14) الصف: 2ــ3.
(15) الكافي للكليني /ج2 ص105 .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.