تعد البدعة من الأخطار الكبيرة التي نص علىٰ حرمتها الكتاب الكريم وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وهي ضلالة تؤدي بصاحبها إلىٰ الجحيم، ذلك بان المبتدع في الدين مفتر علىٰ الله تعالىٰ ورسوله(صلى الله عليه وآله): قال تعالىٰ: (وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: 21) فهو يسوق الأمة وفقاً لأهوائه إلىٰ سبيل منحرف ينتهي إلىٰ الفرقة والتناحر والاقتتال، بدلاً من السبيل السوي الذي اختاره الله تعالىٰ لسعادة البشرية: (وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153).
فمن المقولات المحدثة في هذه الأمة مقولة الجبر التي روج لها الأمويون لتثبيت سلطانهم، فبعد (أن استوثقت الأمور لمعاوية بن أبي سفيان استخدم عدّة وسائل لإخضاع الأمة الإسلامية إلىٰ إرادته وإخماد أي صوت يعارض سلطته، فاعتمد منهجاً ذا خطوات خطيرة لتطبيق أطروحته ومشروعه لتبديل الإسلام بالجاهلية الأموية، ومن هذه الخطوات، والأساليب صناعة المذاهب والفرق المعادية للإسلام) (1).
ويؤكد الدكتور أحمد أمين (المصري): أن (بني أمية كما يظهر كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينياً فقط، ولكن سياسياً كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسيّر الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء، ودولتهم بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع للقضاء والقدر) (2).
وقد تبنت طائفة من المسلمين هذه الفكرة، فكانت المنظومة السلفية (جبرية) من حيث إنها لم تنتصر قط (للحرية الإنسانية)، وإن الجبرية المطلقة التي يقول بها الجهمية، لا تعدو أن تكون:
1- نفياً للقدرة الإنسانية علىٰ الفعل مطلقاً.
2- ونفياً للإرادة الإنسانية علىٰ الاختيار.
فإن هذا هو عين ما انتهت إليه من الناحية العملية، أطروحات الأشاعرة (3)، التي لا تعدو أن تكون مجرد تفنين كلامي للموقف السلفي الحديثي المتوجس بطبعه من الحرية، لاسيما إذا اقترن هذا الرأي بالسيف (السلطة) وتعلق وجودها عليه (4).
ويورد الشهرستاني عن جهم قوله: (إن الإنسان ليس يقدر علىٰ شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا اختيار، وإنما يخلق الله الأفعال فيه علىٰ حسب ما يخلقها في سائر الجمادات) (5).
وكذلك قول الأشعري: (إن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم، كذلك سائر المخلوقات وحركاتها كلّها مخلوقة لله) (6).
وفي كلا النصّين نلحظ نفياً للقدرة الإنسانية المؤثرة، ومن ثمة الجبر علىٰ أفعال العباد.
وذهب فريق آخر إلىٰ تفويض أفعال العباد إليهم، وقالوا: (إن العبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازي علىٰ فعله والربّ تعالىٰ أقدره علىٰ ذلك) (7).
والظاهر أن الرأي الأخير هو رأي مضاد للرأي الأول، وقد تبنّىٰ الرأي الثاني المعتزلة وهو القول بالتفويض المطلق.
وطال النزاع الكلامي بين أصحاب الرأيين وكان لكل منهم أتباع يروّجون له، فكانت سبباً في اضطراب عقيدي كبير وفتن واسعة، فتصدّىٰ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) للرأيين معاً، في دور طويل وخطير في دفع الشبهات، وهداية الناس إلىٰ المحجة البيضاء والصراط المستقيم، ومن كلماتهم(عليهم السلام) في هذا:
– عن الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) قالا: (إن الله عز وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقهُ علىٰ الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون)، قال فسُئلا(عليهما السلام): هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: (نعم، أوسع مما بين السماء والأرض) (8).
– وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقونه، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد) (9).
– وعنه(عليه السلام) قال: (لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين) (10).
وتفسير هذا الحديث: (إن العبد يفعل ويترك بقضاء الله وقدره ومشيئته، لكن لا بقضاء وقدر لازم ومشيئة، بل الفاعل مع القضاء والقدر والمشيئة قادر علىٰ الترك، والتارك معها قادر علىٰ الفعل) (11).
ونلحظ بذلك انسجام هذا الرأي مع الفطرة الإنسانية ومراعاة القدرة الإلهية.
يقول الشيخ عبد الله نعمة: (وهو الطريق الوسط الذي يتلاءم مع واقع الإنسان في أفعاله، ولا يتنافىٰ مع عدل الله سبحانه) (12).
ويوضح الســـيد محـــمد حسين الطباطبائي فيقول:
إحداها: إن التشريع ليس مبنياً علىٰ أساس الإجبار في الأفعال، فالتكاليف مجعولة علىٰ وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولاً، وهي متوجهة إلىٰ العباد من حيث إنهم مختارون في الفعل والترك ثانياً، والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختياراً.
ثانيها: إن ما ينسبه القرآن إليه تعالىٰ من التضليل والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته علىٰ الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالىٰ علىٰ ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالىٰ عن ألوان النقص والقبح والمنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلىٰ التضليل وشُعَبِه وأنواعه، وليس كل تضليل (حتىٰ التضليل البدوي وعلى سبيل الإغفال) بمنسوب إليه ولا لائق بجانبه، بل الثابت له التضليل مجازاة وخذلاناً لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك، كما قال تعالىٰ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلا الفَاسِقِينَ )(البقرة: 26، وقال تعالىٰ: (فَـلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُـلُوبَهُمْ) (الصف: 5).
وقال تعالىٰ: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) (المؤمن: 34).
ثالثها: إن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث إنها منسوبة إلىٰ الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي… (13).
رابعها: إن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنىٰ للأمر والنهي المولويين فيما لا يملك المولىٰ منه شيئاً، فضلاً عن أن التفويض لا يتم إلا مع سلب إطلاق الملك منه تعالىٰ عن بعض ما في ملكه (14).
ونلحظ أن حديث (الأمر بين الأمرين) مبطل للرأيين المتقدمين الجبر والتفويض وثابت لحقيقته، والروايات عن أهل
البيت(عليهم السلام) بهذا الخصوص (دالة علىٰ بطلان الجبر والتفويض من ناحية، وعلىٰ ثبات الأمر بين الأمرين من ناحية أخرىٰ ولو لا تلك الروايات لوقعوا في جانبي الإفراط أو التفريط كما هو وقع أصحاب النظريتين الأوليتين) (15).
والخلاصة:
إن للبدعة دوراً خطيراً وهداماً للعقيدة، ويترتب عليها مفاسد أخرىٰ يطرب إلىٰ آثارها حكام الجور وغير الشرعيين في سلطانهم، وسَوْق الرعية (المجتمع) بالظلم باسم الدين والشرع، وهو ما كان فيه عصر بني أُمية (16) وأمثالهم من تلبيس مطامعهم وقمعهم للمسلمين مشروعية إلهية، فكان لزاماً علىٰ العلماء التصدي لهذه البدعة وإظهار علمهم في مكافحة البدع من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفعيل طريق الحوار وإبداء الرأي، وامتاز أئمة أهل البيت(عليهم السلام) عن غيرهم في حفظ العقيدة من التصدع في نفوس المسلمين .
نشرت في العدد 50
(1) مؤيد العبيدي، الدوافع السياسية وآراء نشوء المذاهب والفرق ومواجهة الإمام الصادق(عليه السلام) لها (المرجئة نموذجاً)، بحث ضمن: دراسات وبحوث مؤتمر الإمام جعفر الصادق (ع)، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (ع)، 1424هـ، ص301.
(2) ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط10، 2000م، 3/81، ظ: احمد محمد الوزّة، علاقة القضاء والقدر في أفعال البشر، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2004، ص126.
(3) ظ:الرازي (ت606هـ)، القضاء والقدر، دار الكتاب العربي، بيروت، 1990م، ص31-32.
(4) ظ: أستاذنا الدكتور رؤوف أحمد الشمري، محاضرات ألقيت على طلبة الماجستير في كلية الفقه، جامعة الكوفة، 2007م.
(5) الملل والنحل، 10 / 91.
(6) الأشعري، اللمع في الرد علىٰ أهل الزيغ والبدع، تحقيق: د. حمدي غرابة، القاهرة، 1975، ص 69، ظ: الباقلاني، الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، عالم الكتب، 1986، ص210.
(7) الشهرستاني، الملل والنحل، 1/54، ظ: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص15، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 2/139.
(8) الصدوق، التوحيد، ص 360، الكليني، الكافي، 1/ 159.
(9) ن.م، ص 360، ن.م، 1/ 160.
(10) الصدوق، التوحيد، ص 352، لنفس المؤلف، الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق: عصام عبد السيد، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1993، ص 29.
(11) محمد طاهر ألقمي الشيرازي (ت 1098)، كتاب الأربعين، تحقيق:السيد مهدي رجائي، الناشر: المحقق، 1418هـ، ص161.
(12) هشام بن الحكم، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط2، 1985، ص 193.
(13) ظ: في القضاء والقدر: الإحسائي: أحمد بن زين الدين الأوحد (ت1241هـ)، القضاء والقدر، تحقيق: صالح احمد الدبّاب، مؤسسة شمس هجر، بيروت، ط2، 2005.
(14) الميزان، 1 / 96 – 97.
(15) تقرير بحث السيد الخوئي، للفياض، محاضرات في أصول الفقه، مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1419هـ، ص84.
(16) (كان الوليد يقول: لا ينبغي لخليفة أن يناشد ولا يُكذب ولا يسميه أحد باسمه)، اليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر (ت 292هـ)، تاريخ العقوبي، دار صادر، بيروت، 1960، 2/ 290، وقد وقف الوليد بعد ذلك خطيباً علىٰ منبره فقال: (إنكم كنتم تكلمون من كان قبلي من الخلفاء بكلام الأكفاء وتقولون يا معاوية ويا يزيد، وإني أعطي الله عهداً يأخذني بالوفاء به: لا يكلمني أحد منكم بمثل ذلك إلّا أتلفت نفسه فلعمري إن استخفاف الرعية براعيها سيدعوها إلىٰ الاستخفاف بطاعته والاستهانة بمعصيته، قال محمد بن عبد الله القطان بلغنا أن رجلاً من بني مُرّة قال: اتق الله يا وليد فإن الكبرياء لله، فأمر به فتوطئ حتىٰ مات واتعظ الناس به، وهابوه لذلك، ظ: د. عبد العزيز الدوري، د. عبد الجبار المطلبي، أخبار الدولة العباسية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1971، ص 178، ظ: د. حسين عطوان، الأمويون والخلافة، دار الجيل، 1986، ص 145 – 146، للتوسعة،ظ: محمد جواد مغنية،الشيعة والحاكمون،وهكذا كان للبدعة أن تصنع منذ وقت مبكر في تكريس الطغيان وتثبيت القهر وإضفاء القداسات الوثنية علىٰ الحكام.