Take a fresh look at your lifestyle.

العقوبات القرآنية للزوجة .. وقائية وإصلاحية… لا انتقامية

0 868

         إن المعايشة الزوجية تتيح لعناصرها التعرف إلى أدق حقائق الآخر وعلى التطورات الطارئة الصالحة والناشزة، مما يوجب عند البوادر الخيرة المشاركة والتشجيع، وعند البوادر الناشزة اتخاذ إجراء وقائي، أما التذرع ببعض الحيل النفسية في عدم التفاعل مع المستجدات فإن من شأنه أن يُعمق المشكلة ويزيد التعنت في رأيه والعناد والعصيان؛ لهذا قال تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)(النساء:34).

        وقبل بيان المراد من الآية الكريمة نرى من الضرورة بمكان التعريف بـ (النشوز)، فهو في اللغة: المرتفع من الأرض(1)، والنشوز عند الفقهاء: هو عصيان أحد الزوجين والترفع عن مطاوعة الزوج الآخر ومتابعته، وعدم القيام بواجباته، وأداء حقوقه التي وجبت على كل منهما للآخر(2).

       أي أن النساء اللاتي تخافون نشوزهن (بظهور أسبابه وإماراته، ونشوز المرأة عصيانها لزوجها واستيلاؤها عليه ومخالفتها إياه)(3). فنلحظ في هذه السمة السبق والاحتياط في العلاج قبل وقوع المشكلة، ومن المعلوم أن الوقاية من المشكلة خير من العلاج منها بعد وقوعها.

أولًا: إجراء وقائي:

         فالوعظ في ذاته إجراء وقائي، فإن (نشزت المرأة عن فراش زوجها قال زوجها اتقِ الله وارجعي فهذه موعظة)(4).
وفي شأن تصرف الزوجة الوقائي في الحفاظ على الأُسرة وكيانها، وقد اتضحت بوادر للمشكلة من سلوك الزوج كما يقول الله سبحانه: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا)(النساء:128). فإذا شعرت المرأة من زوجها (الترفع عليها أو الإعراض عنها بسبب الكراهية لها لكبر سنها أو لغير ذلك من الأسباب والأمور وأراد طلاقها فلا إثم ولا حرج عليهما من سلوك طريق المصالحة والتوفيق بينهما)(5).

        ولعل هذه المصالحة تحتاج إلى مبادرة وقائية لأجل شيء أهم في احتواء المشكلة قبل استفحالها فـ (لا مانع من أن تتنازل المرأة عن بعض حقوقها وتتصالح مع زوجها من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع)(6).

         فلا تُكلفه نفقة خوف الطلاق أو الإعراض عنها، فعلى الزوج تفهم حرص الزوجة على ديمومة الحياة الزوجية وبهذا (فلا جناح عليه أن يقبل ذلك)(7) منها.

         ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى وصف ذلك العلاج بأنه إجراء وقائي منذ اللحظة الأولى التي تظهر فيها بوادر النشوز، فكم من مشكلة تبدأ تافهة أو غير معقدة أو فردية أو سهلة العلاج ولكنها تُهمل أو ينشغل عنها الجميع فتستفحل ويصعب علاجها فيكون مآلها الانهيار وتحطم الأسرة.

 

ثانيًا: إجراء إصلاحي:

     إن التعامل مع النصوص القرآنية بعدوانية، من المخالفات التي تؤدي للضرر بالحياة الزوجية وتشوه صورة العلاج الشرعي، ذلك بأن بعضهم يأخذ من الآية العلاجية فقرات من دون النظر إلى مقصد الشارع من أنواع العلاج ولا الصورة التي يجب أن تؤدّى بها فيأخذ الفقرات الثلاث من قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ)(النساء:34)

         بنفس مشحون وبفهم خاطئ للقوامة فيدفعه ذلك إلى الانتقام والإهانة والتسلط وتحطيم رأس المرأة وردها إلى القطيع إذا شذت عن القافلة، وإذا دققنا النظر لحظنا أن سببه ما تراكم في الأذهان وترسب عبر تربية طويلة من سوء معاملة المرأة وعدها من سقط المتاع.

       ذلك بأن الوعظ في قوله تعالى: (فَعِظُوهُنَّ). سمته الرقة واللين والنصح الخالص، ولا يكون بأسلوب خشن وفرض السيطرة والنفوذ ولا (بالصراخ أو إسماعهن كلامًا لا يليق تجريحًا وسبابًا وشتمًا)(8).

        فالوعظ هو تذكيرهن بـ (ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج والاعتراف لدرجته التي له عليها)(9). وعن ابن عباس قال: (فعظوهن بكتاب الله أولًا، وذلك أن يقول: اتقي الله وارجعي إلى طاعتي، فإن رجعت وإلّا أغلظ لها القول، فإن رجعت وإلّا ضربها ضربًا غير مبرح)(10).

       إذن يجب أن يكون طابع هذا الوعظ اللين، والرقة، واللطف، والابتعاد عن التشهير، والتعنيف، والغلظة، والعنف، والتسلط الظالم؛ مع إظهار محبته لها وحب الخير لها؛ لتستقيم الحياة الزوجية كما أرادها الله سبحانه ويعيشوا بسلام وأمان وطمأنينة .

       وعند عدم جدوى الوعظ في الإصلاح، تبدأ حينها حلقة إصلاحية أخرى وهي: (اهجروهن إن لم تنفع العظة)(11). وهو في قول الله تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)(النساء: 34). وقد ذكر المفسرون في تفسيرها ثلاثة آراء(12): فعن ابن عباس وعكرمة والضحاك والسري إن الهجر هو المقاطعة في الكلام، وعن سعيد بين جبير قال: (هجر الجماع)، وروى عن بعضهم القول بربطهن بالهجار(13) من قول العرب: هجر الرجل البعير إذا ربطه بالهجار.

      ومع أن الطبري (ت310هـ) رجح الرأي الأخير إلّا أن المتتبع لواقع سنة المعصوم (العملية والقولية والتقريرية) لا يجد إشارة إلى هذا الرأي! وهو على ما عليه من عمل خلاف الذائقة الإنسانية والغاية المرجوة منه في الإصلاح! والآية بطبيعتها تفسر نفسها في كون الهجر في المضاجع، وهذا الرأي هو ما عليه المفسرون يقول البيضاوي (ت691هـ) أن معنى (وَاهْجُرُوهُنَّ) أي (اهجروهن في المراقد فلا تدخلوهن من تحت اللحف، أو لا تباشروهن فيكون كناية عن الجماع. وقيل المضاجع: المبايت أي لا تبايتوهن)(14).

       وقال الشيرازي: (أظهروا عدم الرضا من الزوجة، لعل هذا الموقف الخفيف يؤثر في أنفسهن)(15)، فنلحظ أن المراد بالهجر الإصلاح وليس العقوبة أو الانتقام، فالغاية منه إشعار الآخر بالخطأ وبأهمية الحياة الزوجية.

       أما قوله تعالى: (وَاضْرِبُوهُنَّ) فليس الغاية من الضرب الانتقام أيضًا وإن بدا فيه العنف والقسوة، غير أنه خيار يفرض نفسه أمام خيار أشد منه قسوة وأكثر منه ضررًا على الزوجة وعلى الحياة الزوجية عمومًا، فالخيار الآخر غير الضرب هو التخلي عن المسؤولية ومن ثم تفقد السفينة ربانها، ويتخلخل النظام الأُسري، فالضرب إذن خيار يُتاح حينما (تُسد الطُرق بوجه الحلول السلمية يبرز خياران أمام الإنسان إذا عجز عن الاشياء التي لم تنفع: إما أن يتخلى عن مسؤولياته وأما أن يلجأ إلى العنف في حال لم تنفع الموعظة والنصح والهجر)(16).

       وهذا الضرب ليس في واقعه حلبة مصارعة أو تفنن بأساليب قتالية، بل يضربها ضربًا يُريد منه الإصلاح فيكون ضربًا غير مبرح أي لا يقطع لحمًا ولا يكسر عظمًا – كما سيتضح في محله من البحث، فقد روي عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) عن كيفيته أنه قال: (إنه الضرب بالسواك)(17). ونتيجة هذه المرحلة الأخيرة وهي الضرب يجب أن تُراعي فيه الكم والكيف شرط ألا يكون مبرحًا ولا مدميًا اذ لا يُريد الزوج الانتقام وإنما يُريد الإصلاح.

      إن التربية الإسلامية تهدف من وراء تشريع العلاج الإصلاح لإعادة الزوجة إلى وضعها الطبيعي لتحقيق غاياتها من إشاعة المودة والرحمة وصيرورتها سكنًا للرجل، والمرأة والذرية والمجتمع أما إذا عُدَّ العلاج إذلالًا وتحكمًا وقهرًا أفضى ذلك إلى تعميق المشكلة وزرع الحقد والبغض والعناد مما يضيع فرص العلاج والتوافق ويشعر بأن العلاج في الحقيقة إعلان المعركة بين الرجل والمرأة ثم مجتمع الرجال على مجتمع النساء ومجتمع النساء على مجتمع الرجال ولذلك نبه الله سبحانه على عدم تجاوز الحدود. فقال تعالى: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)(النساء:34).

       (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي رجعن إلى طاعتكم في الائتمار لأمركم (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) أي لا تطلبوا عليهن عللًا بالباطل وقيل: سبيلًا للضرب والهجران فيما أُبيح لكم فعله عند النشوز. وقيل معناه لا تكلفوهن الحُب(18).

       ويختم الله سبحانه هذه الاجراءات الإصلاحية بقوله: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) وهي إشارة واضحة إلى أن هذه الصلاحيات التي خول لها الزوج في التربية ليست إكرامًا للرجل بقدر ما هو تفويض منه سبحانه وإنه هو القادر وبيده زمام الأمور، فينبّه القرآن الكريم الزوج إلى عدم التمادي في العقاب والجور فيه فإنهن إن تركن النشوز فلا تجنوا عليهن بقول أو فعل.

         وهذا نهيٌ عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن. وأشار إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب؛ أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله؛ فيَدهُ بالقدرة فوق كل يد. فلا يَستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد؛ فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلوّ والكبر.

         والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ظ: الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص806.
2) ظ: أحكام القرآن /الجصاص، 2/262، شرائع الإسلام /العلامة الحلي، 2/283.
3) مجمع البيان /الطبرسي، 3/64.
4) تفسير القمي/القمي، 1/165.
5) الواضح الميسر/محمد علي الصابوني، ص186.
6) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل/ناصر مكارم الشيرازي، 3/418.
7) تفسير القمي، 1/181.
8) تفسير الصافي/الكاشاني, 1/449.
9) التفسير البسيط /الواحدي, 6/490.
10) مجمع البيان/الطبرسي، 3/80.
11) تفسير الصافي، 1/448.
12) ظ: جامع البيان عن تأويل القرآن/ الطبري، 5/81، التبيان في تفسير القرآن/الطوسي،
5/ 190-191.
13) الهِجارُ: (حَبْل يُعْقَدُ في يد البعير ورجله في أَحد الشِّقَّيْنِ، وربما عُقِدَ في وَظِيفِ اليَدِ ثم حُقِبَ بالطَّرَفِ الآخر). ابن منظور، لسان العرب، 5/256.
14) أنوار التنزيل وأسرار التنزيل، 1/343.
15) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 3/150.
16) تفسير النور/محسن قراءتي4/50.
17) من لا يحضره الفقيه/الصدوق، 3/521، مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي، 3/80.
18) ظ: مجمع البيان، 3/114.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.