القراءة في اللغة مصدر الفعل (قرأ)، يقال: (قرأ الكتاب قراءة وقرآنا … وقرأ الشيء جمعه وضمه)(1)، أما في الاصطلاح فحدودها كثيرة منها أنها (علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله)(2)، ومنها أنها (علم يُعلم منه اتفاق الناقلين لكتاب الله تعالى واختلافهم في الحذف والإثبات والتحريك والتسكين والفصل والوصل وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال وغيره من السماع)(3)، أو هي (وجوه مختلفة في الأداء من الناحية الصوتية أو التصريفية أو النحوية)(4).
واختلف العلماء في حقيقة القراءات فيرى الباقلاني (ت403هـ) أنها قرآن منزل من عنده تعالى(5)، ويرى الزركشي (ت794هـ) أن القرآن والقراءات (حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد (صلى الله عليه وآله)، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيتها)(6).
وقد أدى ذلك إلى جعل النظر إليها متأرجحا (بين التقديس والمناقشة، فمن يقدسها يعتبرها قرآنا، ومن يناقشها يعتبرها علمًا بكيفية أداء كلمات القرآن، وفرَّق بين القرآن وأداء القرآن)(7).
وممن رأى أنها ليست من القرآن وليست مسألة دينية الدكتور طه حسين رأى أنّ القراءات السبع ليست من الوحي في قليل ولا كثير، وليس منكرها كافرًا ولا فاسقًا، وللناس أن يجادلوا فيها وأن ينكروا بعضها(8).
وكذلك اختلفوا في القراءات القرآنيّة، أهي متواترة أم لا؟ فذهب قوم منهم إلى تواترها، ومن هؤلاء الزرقانيّ الذي يقول: (والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة)(9)، وغالى بعضهم فادّعى أن من زعم عدم تواتر القراءات السبع فقد كفر(10)، ولعل السبب في ما ذُهب إليه هو ربط هؤلاء القرآن بالقراءات، وعدم تواتر القراءات يؤدي في نظرهم إلى عدم تواتر القرآن(11).
وذهب آخرون إلى عدم تواترها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فيرى الزركشي أن القراءات السبع متواترة عن الأئمة السبعة أما تواترها عن النبي ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، ولم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين(12).
وقد رُوِي في كتب التفسير والقراءات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عددٌ كبير من القراءات القرآنية ونُسبت إليهم، وليس من السهل الجزم بصحة نسبتها إليهم أو بعدم الصحة، وقد تناولها عدد من الباحثين جمعًا ودراسة وأثرًا(13).
والملاحظ في القراءات المنسوبة إليهم (عليهم السلام) عدم التعارض أو التناقض فيما بينها، فالقراءة إما أن تُنسب لأحد أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وإما أن تُنسب إلى عدد منهم (عليهم السلام)، ولا تكاد تجد إمامًا قرأ بقراءة معينة، وقرأ إمام آخر بقراءة أخرى.
وقد أورد الآلوسي عددًا من القراءات المنسوبة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) مبيّنًا المعنى الذي تؤديه ومن ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(الفاتحة:6)، إذ ذكر الآلوسي أن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) قرأ (صراط المستقيم) بالإضافة.(14).
ومن ذلك أيضا ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)(المائدة:89)، فقد ذكر الآلوسي أنه روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنه قرأ (أهاليكم) قائلًا:
(بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضًا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة)(15).
ومنه أيضا ما ورد في تفسير قوله تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام:33)، إذ ذكر أن الإمام جعفر الصادق وغيره قرأوا (لاَ يُكْذِبُونَكَ) من الإكذاب، وأن الجمهور قالوا: كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل؛ وقيل: معنى أكذبته وجدته كاذبًا كأحمدته بمعنى وجدته محمودًا، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول : كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه(16).
وكذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ)(الكهف:18)، إذ ذكر الآلوسي لكلمة (كلبهم) قراءات كثيرة أوردها عن القراء ومنها قراءة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) (وكالبهم) بباء موحدة وزنة اسم الفاعل والمراد صاحب كلبهم كما تقول: لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر(17).
وكذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا)(الأحزاب:37)، إذ نقل عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وأجداده (عليهم السلام)(زوجتكها) بتاء الضمير للمتكلم وحده(18).
وذكر الآلوسي أن عددًا من المفسرين ادّعوا زيادة (عن) في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِله وَالرَّسُولِ)(الأنفال:1)، مستدلين بقراءة الإمام الصادق (عليه السلام) وغيره (يَسْأَلُونَكَ الأنفال) بحذف (عن)، ثم علق قائلًا :
(… وليست دعوى زيادة (عَنْ) في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط (عَنْ) على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد القول بالزيادة، هنا الجواب بقوله تعالى: (قُلِ الْأَنْفَالُ لِله وَالرَّسُولِ)، فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد)(19).
وذكر الآلوسي عددًا من القراءات التي قُرئ بها قوله تعالى: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)(التوبة:118)، ومنها قراءة الإمام الصادق (عليه السلام) وغيره إذ روى عنه أنه قرأ (خالفوا) بزيادة الألف(20)، وتحويل الفعل من المبني للمفعول إلى المبني للفاعل.
ومسألة زيادة الألف في القراءات القرآنية وتأثيرها في البنية والدلالة وردت في العشرات من القراءات القرآنية ولم تقتصر على قراءة الإمام (عليه السلام)(21).
وكذلك في تفسير قوله تعالى: (وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ) ذكر الآلوسي أنه روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنه قرأ (وتعزروه) بفتح التاء وكسر الزاي مخففًا(22).
وذكر الآلوسي أن الإمام الصادق (عليه السلام) قرأ قوله تعالى: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف:12) قرأه (نرتع ويلعب) بقلب الياء نونًا ونسبة الفعل الأول إليهم والفعل الآخر إلى يوسف (عليه السلام)(23).
ومسألة قلب بعض الحروف إلى حروف أخرى مشابهة لها في الرسم كثيرة الورود في القراءات القرآنية، حيث وجد أكثر من مائة قراءة اختلفت بسبب عدم تنقيط حروف العربية آنذاك(24).
وفي تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون)(يوسف:49) ذكر الآلوسي أن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) وغيره قرأوا (يُعصَرون) على البناء للمفعول … من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة، وهو مناسب لقوله: (يُغَاثُ النَّاسُ)(25).
وروى الآلوسي أن الإمام الصادق(عليه السلام) وغيره قرأوا قوله تعالى: (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ)(الفرقان:18) قرأوه (يُتّخَذَ) مبنيًا للمفعول، وخرج ذلك الزمخشري على أنه من اتخذ المتعدي إلى مفعولين والمفعول الأول ضمير المتكلم القائم مقام الفاعل والثاني (مِنْ أَوْلِيَاء)(26).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) تاج العروس (قرأ). 2) أثر القرآن والقراءات في النحو العربي: 309. 3) مقدمات في علم القراءات: 47. 4) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 45. 5) يُنظَر: نكت الانتصار لنقل القرآن: 415، وتاريخ القرآن: 117. 6) البرهان: 1 / 318. 7) تاريخ القرآن: 117. 8) يُنظَر: في الأدب الجاهلي: 95. 9) مناهل العرفان: 1 / 439. 10) يُنظَر: المصدر نفسه: 1 / 434. 11) يُنظَر: منهج النقد في التفسير: 238، 239. 12) يُنظَر: البرهان: 1 / 319. 13) يُنظَر: القراءات القرآنية المنسوبة لأهل البيت وآثارها، رسالة ماجستير، كلية الفقه / جامعة الكوفة، 2015. 14) يُنظر روح المعاني: 1 / 93. 15) روح المعاني: 7 / 12. 16) يُنظر روح المعاني: 7 / 136. 17) يُنظر روح المعاني: 15 / 226. 18) يُنظر روح المعاني: 22 / 26. 19) روح المعاني: 9 / 160، 161. 20) ينظر: روح المعاني: 11 / 41. 21) ينظر: زيادة الألف في القراءات القرآنية وأثرها في البنية والدلالة (بحث)، الدكتور عصام كاظم الغالبيّ، مجلة كلية التربية، الجامعة المستنصرية، عدد خاص، نيسان 2013: 241-256. 22) يُنظر روح المعاني: 26/ 96. 23) يُنظر روح المعاني: 12 / 194. 24) يُنظر أثر الرسم القرآني في اختلاف القراءات عدم التنقيط أنموذجا (بحث)، د.عصام كاظم الغالبي، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد العشرون: 63 – 79، وتنظر مصادره. 25) يُنظر روح المعاني: 12 / 256. 26) روح المعاني: 18 / 249.