لا شك أن الدراسات التربوية تؤكد أن البيئة في حياة الطفل تعتبر النواة الأولى التأسيسية في بناء شخصيته، ومعنى ذلك أن العائلة الصالحة لها تأثير كبير على سلوك الطفل وسيرته، فهي المدرسة الأولى التي تربي وليدها تربية حسنة، فينشأ نشأة صحيحة، ذلك الفتى الصالح المهذب الورع التقي صاحب الخلق الرصين، يتطلع إلى المُثل العليا ويسعى وراء الحق وينشد الحياة والمستقبل العلمي المرموق.
احتضنت مدينة كربلاء المقدسة كبار مشاهير رجال العلم والأدب والفقه الإسلامي، وهم على درجة كبيرة من الثقافة والمعرفة والذكاء، نشأوا في بيئات صالحة، يمتلكون القدرة الفريدة على النجاح والازدهار. ففي مثل هذه الأجواء بزغ كوكب درّي وضاء متألق في سماء العبقرية، فكان نقلة نوعية وفرتها تلك البيئة الملائمة لشخصية المفكر الفذ العالم الرباني الشيخ شريف العلماء.
يكاد يجمع المؤرخون على أنه ولد في مدينة كربلاء ونشأ على ثقافة دينية، وأقبل على العلوم الإسلامية من فقه وأصول وحديث، وانقطع للتدريس في مدرسة حسن خان، وأن ألف طالب مجتهد يجلس تحت منبره لغزارة علمه وتفوقه في علم الأصول وبقية العلوم. وتجدر الإشارة إلى أن الطلبة هم المادة الرئيسية في كل الحوزات العلمية، لما تتمتع به هذه الطبقة من ميزات النشاط والحيوية والقبول السريع بالعمل والإقبال الشديد عليه إضافة إلى أن افرادها من الشباب الواعي الذين تمتد أعمارهم قياسًا بعناصر المجتمع الأخرى.
كان الشيخ شريف العلماء مشتهرًا بالتقوى والصلاح والورع، ينشد السعادة والتأمل، وقد ترجم له الكثير ممن عاصروه وعاشوا بعد عصره وهذا دليل على غزارة علمه وسعة اطلاعه.
قال صاحب كتاب (الروضة البهية): محمد شريف ابن مله حسن المازندراني أصلًا الحائري مسكنًا ومدفنًا، ولد في كربلاء المشرفة ببالي أنه المسموع من لسان الشريف عاش في كربلاء أكثر عمره الشريف واشتغل أولًا على السيد الأستاذ السيد محمد ابن السيد علي الآتي ذكرهما. ثم على أستاذه أغا سيد علي والد السيد الأستاذ، وفي تسع سنين في الأصول والفقه فصار محسودًا بين الحاسدين ومستغنيًا عن الاشتغال وقابلًا للإفتاء ومجتهدًا بصيرًا وجامعًا لجميع الشرائط المعتبرة ….(1).
وذكره سيدنا المحسن الأمين في موسوعته (أعيان الشيعة) فقال:
(الشيخ محمد شريف بن حسن علي المازندراني الحائري المعروف بشريف العلماء. ولد في كربلاء وتوفي فيها سنة 1245هـ، ودفن قرب باب القبلة. شيخ العلماء ومربي الفقهاء مؤسس علم الأصول جامع المعقول والمنقول نادرة الدهر وأعجوبة الزمان. قرأ أولًا على السيد محمد المجاهد، ثم قرأ على والده صاحب الرياض في الأصول والفقه حتى استغنى عن الأستاذ ولم يعد ينتفع بدرسه، فسافر مع أبيه إلى إيران ـ وكان يسكن هناك ـ وساح فيها وبقي في كل بلد شهرًا أو شهرين فزار ـ الإمام ـ الرضا (عليه السلام)، ورجع إلى كربلاء وحضر درس صاحب الرياض فرأى أنه لا يستفيد من درسه وصار السيد معمرًا، فاشتغل ـ الشيخ شريف العلماء ـ بالمباحثة والمطالعة واجتمع في درسه الفضلاء حتى زادوا على الألف، منهم السيد إبراهيم صاحب الضوابط، وملا إسماعيل اليزدي، … وملا آقا الدربندي، وسعيد العلماء البارفروشي، والشيخ مرتضى الأنصاري، والسيد محمد شفيع الجابلقي، وغيرهم.
وكان يدرِّس درسين أحدهما للمبتدئين والآخر للمنتهين، وقلما رُئي مثله في تأسيس قواعد الأصول، وقد صرف عمره على تربية العلماء، فلهذا كان قليل التصنيف، ومصنفاته على قلتها لم تخرج إلى البياض، وكان أعجوبة في الحفظ والضبط ودقة النظر وسرعة الانتقال في المناظرات وطلاقة اللسان، له يد طولى في علم الجدل، وكان له ولد توفي سنة وفاته وانقطع نسله(2).
وأضاف لنا سيدنا الحسن الصدر: من أساتذته حجة الإسلام الحاج أسد الله البروجردي أستاذ الشيوخ الذي تتلمذ عليه جماعة(3).
كان والده الشيخ حسن علي المازندراني يتوسم فيه الوعي المبكر والاستعداد التام لسماع الجديد من الآراء والأفكار في الدرس والتحصيل، وتهيأت له الظروف المناسبة وتوفرت له فرص الاطلاع على كتب الفقه والأصول والفلسفة والمنطق والكلام فنهل من معين الفكر حتى ارتوى، وكان على قدر كبير من الجرأة والصبر اللذين يؤهلانه لتحمل أعباء كبيرة في حوزة كربلاء.
هذا العالم الذي قضى حياته في خدمة الدين والعلم وبذل كل ما لديه من أجل انتشال الناس من كابوس الجهل وإرشادهم إلى ما فيه خير الأمة وصلاحها. فإنه كان عبدًا صالحا ذا حظ وافر من المعارف الدينية الأصلية والفرعية، دؤوباً في إصلاح شؤون هذه الطائفة المظلومة وتربية عوامها، ينشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومناقبهم وفكرهم، ونجح بحمد الله نجاحًا باهرًا في إصلاحها.
فكان أحد أركان العلم وأساطينه، يلقي المحاضرات على الطلبة، ولم يفقد حافظته وقوة حجته وحسن برهانه لفرط ذكائه ودعوته الصريحة للجهاد والتضحية في سبيل الفكر والعمل، قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله)(التوبة:41).
وكانت تربطه بكثير من طبقات المجتمع صلات وثيقة ومودة صافية، ومما يروى عنه أنه كان يتصف بالأخلاق العالية والنفس المجبولة على حب الخير الخالية من درن الحياة، فهو صاحب النفس الأبية التي تحلت بالود والإخلاص وترفعت عن الخطايا والزيف والجحود، بذلك أحبه طلاب العلم والتفوا حوله يستفيدون من بحر علمه الزاخر ويستقون من معين فضله الطاهر.
ذكره المرحوم الشيخ محمد حرز الدين في معارفه: (كان متكلمًا فيلسوفًا بارعًا بالأصول، وحدثنا بعض المعاصرين الأعلام أنه كان يحضر مجلس درسه ألف رجل أو يزيد بين عالم فاضل وكلهم من أهل التحقيق وجلهم صاروا مراجع تقليد، إلى أن قال: توفي في الحائر الحسيني سنة 1245هـ ودفن بداره)(4).
وترجم له المولى حبيب الكاشاني، فقال: (كان أصوليًا بحتًا مؤسسًا لقواعد شريفة لم نسمع بمثلها، ويجلس في محضر درسه أزيد من ألف فاضل، من جملتهم الشيخ مرتضى الأنصاري، والسيد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط، لأنه مقرراً له حتى قيل إن الضوابط من تقريراته، وسعيد العلماء البارفروش والسيد سعيد البروجردي، ….
وكان في أول أمره في كمال الفقر والفاقة، ولكن حكي أن بعض أعيان البارفروش بنى له مدرسة سماها المدرسة الشريفية وزوجه بنته فصار في رفاهية ويسر، فإن مع العسر يسرا(5).
واستلهم طلابه الفوائد من محاضراته التي تطرح فيها الكثير من المفاهيم الإسلامية والمسائل الفقهية، إذ أنها مدرسة عظيمة أحرزت له التلاميذ الذين أحيوا أمر الأئمة (عليهم السلام)، وكانت لهم منزلة وشأن واعتبار، لذا فإن عدد التلاميذ لدى الأستاذ الشريف يتكرر لدى التلميذ صاحب الضوابط كما في قوله:
(يحضر درسه في كربلاء أكثر من ألف إمامي مجتهد، وتلميذه العَلَم البارز الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب كتاب (الرسائل في الأصول والمكاسب في الفقه ) حيث يجري تدريسها حتى يومنا هذا كمصادر رئيسية لمن يريد الاجتهاد وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وظهر تلميذ شريف العلماء وهو السيد ابراهيم القزويني المتوفى عام 1262هـ وكان كأستاذه يحضر في درسه الف عالم وفقيه(6).
لقد كان الشيخ شريف العلماء أنموذجًا حيًا للمرجعية الرائدة للأمة الإسلامية في عصره، وقادها بوعي وحكمة، فقد نشر الوعي الإسلامي وفق منهاج شامل قويم في تربية النفس وتنشئة جيل صالح يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ويعمل الصالحات، كما في قوله سبحانه و تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)(الإسراء:9).
ونقل لنا الأستاذ نور الدين الشاهرودي، في بحثه المعنون (حوزة كربلاء على عهد شريف العلماء)، قال: (في عهد الرئاسة العامة بشيخ العلماء ومربي المجتهدين ومربي الفقهاء الفحول المولى محمد شريف بن المولى حسن علي القبيسي المازندراني الحائري المعروف بشريف العلماء، أخذت الحوزة العلمية في كربلاء زخمًا قويًا وطاقة إضافية نظرًا لأن حلقات درسه وأبحاثه وتقريراته الفقهية والأصولية اجتذبت إلى مدينة كربلاء المئات بل الألوف من الفضلاء والطلاب والمبتدئين والمنتهين(7).
آثاره:
مر بنا قبل قليل أن الشيخ شريف العلماء كان قليل التأليف، لم يسعفه الظرف للانصراف إلى الكتابة، بل ركَّز عنايته بتدريس طلابه، وقد اعترض أحد طلابه ذات مرة بقوله: لماذا لا تؤلف؟ وهذه التحقيقات غير الموروثة من السلف ويعجز الآتون بعدك عن الوصول إليها، فاللازم أن تؤلف لحفظها. فقال: عملي تربية الطلاب وتعليم المتعلمين وكل ما تؤلفونه أنتم التلاميذ فهو مني(8).
وقد ذكر له الميرزا محمد علي المدرس في موسوعته (ريحانة الأدب) كتابًا واحدًا، هو:
1- رسالة (جواز أمر الآمر مع العلم بانتقاء الشرط)(9)، وذكر هذا الكتاب شيخنا أغا بزرك الطهراني في موسوعته (الذريعة) بقوله: (جواز أمر الآمر مع علمه بانتقاء الشرط)، رسالة مبسوطة لشريف العلماء المولى محمد شريف بن المولى حسين علي الآملي المازندراني الحائري المتوفى بالطاعون في 1246 هـ ودفن في داره، توجد نسخته عند شيخ الإسلام الزنجاني في زنجان.
2- بيع المعاملات والصرف والخيارات(10).
3- الرسائل الكثيرة(11).
4- رسالة في مقدمة الواجب(12) في مجموعة فيها شرح الوافية لبحر العلوم، ورسالة الشرط في ضمن العقد للقمي، وغيرهما في كتب السيد محمد اليزدي، ونسخة أخرى مع فوائد الوحيد البهبهاني في خزانة السيد الميرزا علي الشهرستاني أولها (ذهب الأكثرون إلى أن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلّا به).
مدرسته العلمية ومرقده:
من الآثار التاريخية الشاخصة التي تركها في كربلاء هي مدرسته لطلاب العلوم الدينية المعروفة بمدرسة شريف العلماء، وهي اليوم موئل رواد أهل العلم تقع مدرسته في زقاق كدا علي المتشعب من شارع الحسين (عليه السلام)الرئيسي، وهي كائنة بجانب مرقده الشريف، وهي من المدارس العلمية الدينية في كربلاء، وتحتوي على 22 غرفة في طابقين يسكنها طلاب العلوم الدينية بينهم عدد من الطلاب الأجانب.
وقد بادر بتأسيسها المجتهد الأكبر والمرجع الديني السيد محسن الحكيم المتوفى سنة 1390 هـ وجعلها وقفًا على طلاب العلوم الدينية في كربلاء والنجف في سنة 1384هـ(13).
وهكذا هو حال العلماء العاملين وظفوا علمهم ودينهم لوجه الله ورضاه. فقد كان شريف العلماء موسوعة معرفية أنارت طريق العلماء والباحثين.
وفاته:
أدركته الوفاة في الحائر الشريف المقدس بالطاعون سنة 1245هـ ومنهم من يقول 1246هـ حيث مثواه الأخير ودفن في داره التي تقع في زقاق كدا علي جنب مدرسته الدينية بشارع الإمام الحسين (عليه السلام).
عاش الشيخ شريف العلماء حياة عريضة خِصبة كانت بالغة الأثر، فقد كان من المفكرين الذين رسموا الطريق الفكري للنهضة العلمية، وكان إلى ذلك زعيمًا فقيهًا ومثلًا أعلى للعبقرية، تتوفر فيه صفات القوة والتجرد والأمانة، وهو بلا شك ممن لا يلحق شأوه ولا يشق غباره أستاذ ماهر وجهبذ باهر حسن السمت كثير الصمت مع زهد وورع وتقوى وصلاح.
ـــــــــــــــــــــــــ 1) الروضة البهية/ السيد محمد شفيع الجابلقي ص9. 2) أعيان الشيعة/السيد محسن الأمين/ ج9ص364. 3) تكملة أمل الآمل/ السيد حسن الصدر 5 / 411. 4) معارف الرجال/ الشيخ محمد حرز الدين 2 / 298. 5) لباب الألقاب في ألقاب الأطياب/ الشيخ حبيب الله الكاشاني ط2 ص35. 6) دراسات حول كربلاء ودورها الحضاري/مركز كربلاء للبحوث ص230. 7) تاريخ الحركة العلمية في كربلاء/ نور الدين الشاهرودي ص58. 8) قصص العلماء/ الميرزا محمد التنكابني ص127. 9) ريحانة الأدب/الميرزا محمد علي المدرس3/ 219. 10) الذريعة/الشيخ اغا بزرك الطهراني 5/242، ومعجم مؤلفي الشيعة/ علي الفاضل القائيني 310. 11) الذريعة 10/ 255، ومعجم مؤلفي الشيعة ص310. 12) الذريعة 22/106، ومعجم مؤلفي الشيعة ص310. 13) تاريخ الحركة العلمية في كربلاء – نور الدين الشاهرودي ص284.