Take a fresh look at your lifestyle.

الترغيب والترهيب الحسّي في يوم القيامة

0 877

 التصوير الحسي لأحوال يوم القيامة

            جاءت دعوة الأنبياء من خلال الكتب السماوية، تتحدث عن عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، مقرونة بعقيدة الإيمان باليوم الآخر، والذي تكون الجنة والنار جزاءً لهذا اليوم، وقد اهتم القرآن الكريم كثيرًا بتصوير هذه العقيدة، فعقيدة الإيمان بالله توضح أن الله تعالى هو الخالق العادل لهذا الكون والمُنشئ له من العدم، وعقيدة الإيمان باليوم الآخر توضح المصير الذي ينتهي إليه ذلك الكون،

           وأن الجنة والنار هما الداران لثواب الإنسان أو عقابه، (وقد استعان القرآن كثيرًا بـ (المشاهدة الحسيَّة) ليس في مسألة التوحيد فحسب، بل في مسألة المعاد أي ثاني أهم مسألة في الإسلام أيضًا، وقد صوّر لنا لقطات من المعاد بالاستعانة بنفس الطبيعة المشهودة لنا)(1).

  عقيدة المعاد ضرورة عقلية

           وكذلك تُعد عقيدة اليوم الآخر ضرورة عقلية لأن (مما يحيله العقل اختصاص لطفه تعالى بهذه الأيام القلائل التي هي كظلّ زائل، ثم لولا ذلك لم يحسن الوعد والوعيد، والترغيب والتهديد، ولساوى أفضل الأنبياء في الفضيلة، أشقى الأشقياء)(2)،
وإنَّ يوم القيامة، موطن جزاء الأعمال في الدار الآخرة، قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)(النحل:61)، وقد دلت الآيات على أن كل مظلمة ومعصية مأخوذ بها فيما بعد الموت وفي القيامة، إلّا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الآخرة أو نحو ذلك(3).

           والمقدار الواجب بعد معرفة أصل المعاد، معرفة الحساب، وترتب الثواب والعقاب، ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلاّ صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأن الأبدان هل تعود بذواتها؟ أو إنما يعود ما يماثلها بهيئاتها؟ وأن الأرواح هل تعدم كالأجساد؟ أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان عند المعاد؟…

          وكذا حيث يجب عليه معرفة الميزان، لا يجب عليه معرفة أنها ميزان معنوية، أو لها كفتان، لا يشترط في تحقق الإسلام معرفة أنهما من الأجسام، وإن كانت الجسمية هي الأوفق بالاعتبار، وربما وجب القول بها عملاً بظاهر الأخبار(4)، لذا فإنّ ( تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الإسلامي، فإذا أراد الانسان أن يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر ممّا جاء في القرآن ليقنع نفسه دفعًا للشُبه ـ التي يثيرها الباحثون والمشككون بالتماس البرهان العقلي أو التجربة الحسيَّة ـ فانّه إنّما يجني على نفسه، ويقع في مشكلات ومنازعات لا نهاية لها)(5).

           لذا ينبغي لمن صُبِغ بصبغة الإسلام، وتجنب عن متابعة الهوى والشيطان، أن يشغل فكره فيما يصلح أمره ويرفع عند الله قدره، ويستعين على نفسه بالتفكير فيما يصيبه إذا حلّ في رمسه، وما يلقى من الشدائد العظام بعد الحضور بين يدي الملك العلاّم، ويكثر النظر في المرّغبات المحرّكة للنفس إلى طاعة رب السموات كالتفكر في تلك الجنان وما فيها من الحور والولدان، والتأمل في تلك الأشجار الحاوية لما تشتهيه الأنفس من الثمار، فينبغي للعاقل أن يفرض الجنة كأنها بين يديه، ويخّيل النار كأنها مشرفة عليه، هذه تسوقه وتلك تقوده، فليخش من لحوق السائق وليحكم الجاذب حذرًا من انقطاع الزمام بيد القائد(6).

  القرآن الكريم واليوم الآخِر

           وقد تحدَّث القرآن الكريم عن اليوم الآخر حديثًا واسعًا يفصّل القولَ عن أدق مواقفه ومراحله بطريقةٍ جماليةٍ حِسيَّةٍ تأخذ بالقلوب وتنسرب إلى النفس، وتقتنع به العقول سريعًا، ومن هنا عُدَّت مشاهد اليوم الآخر من أوسع مشاهد القرآن امتدادًا في الزمان والمكان، وأكثرها غزارةً وإثارةً، فتبدو الحياة في مشاهده، ليست هذه الحياة فقط، التي تمثّل عمر الإنسان الفاني، على ظهر هذه الأرض المحدودة، بل هناك حياة ممتدة في الزمان والمكان، في عالم اليوم الآخر الغيبي، الذي لا نعرف عنه شيئًا إلّا من خلال هذه المشاهد المصوّرة له، لتقريبه من الأذهان(7).

            وعندما يهتم القرآن الكريم بذلك اليوم، فهو (يهدف من عرض مشاهد القيامة فيه إلى أن تكون حاضرة في ذهن وحس وقلب ووجدان وشعور المؤمن، وهو يتحرك على وجه الأرض، يرجو نعيمها ويخشى عذابها، وهي لن تكون حاضرة حيَّة، مؤثرة موحية، تؤدي الغاية من إيرادها، إلّا إذا عرضت بأسلوب معين، وطريقة خاصة، تمنحها هذا التأثير)(8)، فالأنسان مجموعة مشاعر وأحاسيس، يرغب بما هو قريب من نفسه، وبالعكس،

          لذا فإن القرآن الكريم يتحدث عن اليوم الآخر بما فيه من ترغيب وترهيب وبأسلوبٍ حسيّ مشهود، لتكون (مشاهد القيامة مصوَّرة في جمال متناسق يتجلَّى في مفردات المشهد وجزئياته، فترد تلك المفردات مجدولةً في نسق تعبيري معجز، من حيث التماثل والتضاد، والتجسيم والتشخيص، والحركة والفعل مصحوبةً بدلالات الألفاظ وجرسها، وجمال المجاز والتخييل، وظلال الألوان وتنوعها، وصدى الأصوات وترددها، مما يعطي للمشهد إيقاعه واتساقه)(9).

          لذا نجد أن القرآن الكريم قد اعتمد في عرض هذه المشاهد على التصوير الحسِّي الرائع، حتى بلغ الأمر بأن (لم يعد ذلك العالم الآخر الذي وعده النّاس بعد هذا العالم الآخر، موصوفًا فحسب، بل عاد مصوَّرًا محسوسًا، وحيًّا متحركًا، وبارزًا شاخصًا، وعاش المسلمون في هذا العالم عيشة كاملة، رأوا مشاهده، وتأثروا بها؛ وخفقت قلوبهم تارةً، واقشعرت جلودهم تارة، وسرى في نفوسهم الفزع مرة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولفحهم من النّار شواظ، ورفَّ إليهم من الجنّة نسيم، ومن ثمّ باتوا يعرفون هذا العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود)(10)،

           والقرآن الكريم عندما ينهج منهج التصوير الحسي، للتعبير عن المعاني المجردة، وما يصيب الكافر من عذاب وعقاب، وما يجد المؤمن من رحمة ونعيم، لتكون أكثر تأثيرًا ورسوخًا في النفس مما لو كانت الألفاظ والكلمات ذوات دلالات مباشرة، فتظل قائمة نُصب الأعين لا تغيب، وراسخة في الأذهان لا تُمحى، فتؤدي دورها في الترغيب والترهيب، والاعتقاد الصحيح أن الجزاء يوم القيامة ينطوي على بعدين: مادي ومعنوي، لأن المعاد أيضًا مادي ومعنوي،

           فنجد أن (الثواب الإلهي والنعم الموجودة في الجنة تقسم يوم القيامة الى قسمين (روحية) و(مادية)… فكذلك عذاب جهنم أيضًا، إذ يُقسم هو الآخر إلى نوعين: روحي ومادي، لأننا نعلم أن للمعاد بعدين يستدعي كل منهما ما يستحقه من الثواب والعقاب، إضافة إلى أن أعمال الإنسان في هذه الدنيا على صنفين أيضًا أولهما (الأعمال القلبية والروحية)، وثانيهما (الأعمال الجسمية والمادية) وعلى هذا فمن غير الممكن أن يقتصر الثواب والعقاب هناك على نوع واحد)(11).

  حقيقة المعاد الجسماني

        وبهذا نصل إلى حقيقة مفادها أن هناك معادًا جسمانيًا للإنسان، وهذه الحقيقة تمثل ضرورة من ضرورات الدين الإسلامي، دلَّ صريح القرآن الكريم عليها، قال تعالى: (أيَحسَبُ الانسانُ أنْ لَنْ نَجمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادرينَ عَلَى أن نُّسَوِّيَ بَنَانهُ) (القيامة:3ـ 4)، وقال تعالى: (وَإن تَعجب فَعَجَبٌ قَولُهُم أءذَا كُنّا تُراباً أءِنّا لَفي خَلق جَدِيد) (الرعد:5)،

          وكذلك قال تعالى: (أَفَعَيينَا بالخَلقِ الاوَّلِ بَل هُم في لَبس مِن خَلق جَدِيد) (ق:15)، وما المعاد الجسماني ـ على إجماله ـ إلاّ إعادة الإنسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أن يصبح رميمًا، ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر ممّا يتبعها من الحساب والصراط، والميزان والجنَّة والنّار، والثواب والعقاب، بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية(12).

          وإن مما يزيد في كرب يوم القيامة وعذابه أنه يوم طويل، كما قال تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(المعارج:4)، وهذا اليوم يكون طويلًا على الكافرين فيه عذاب أليم، ويكون يومًا خفيفًا ورحمة للمؤمنين، كما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: (لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسولَ الله مَا أطْوَلَ هذا اليَوْم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيَخِفُّ عَلَى المُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيها فِي الدُّنْيا)(13).

  صور يوم القيامة في القرآن

          ويصور القرآن الكريم بعض الحوادث التي تنذر بنهاية هذا العالم وبدء قيام الساعة، وتكون بمرأى ومسمع من الإنسان، أي تكون مُدركةً ومحسوسةً، فمن علامات نهاية عالم الدنيا، اختلال نظام الكواكب، وانشقاق الأجرام السماوية، وانطفاء قرص الشمس، كما ذكرت ذلك بعض السور(14)، وكذلك انفجار البحار(15)، والزلزلة العظيمة التي تهتز لها جميع أنحاء الأرض(16)،

         وهذه الحوادث العظيمة تُنبئ عن زوال الدنيا وبدء القيامة، وهي مما يصاحب البعث والنفخ في الصور بشكل متتابع، فلنأخذ على سبيل المثال لا الحصر عملية تلاشي الجبال ونسفها، التي وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم، وذكرت لها عدة مراحل مختلفة ويمكن تقسيمها وتلخيصها على سبع مراحل(17):

  الأُولى: اهتزاز الجبال وارتجافها (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)(المزمل:14).

  الثانية: حملها وقلعها: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)(الحاقة:14).

  الثالثة: تسييرها: (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)(الطور:10).

  الرابعة: الدك والهدم (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)(الحاقة:14)،(وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)(المزمل:14).

  الخامسة: الجبال فيها كالغبار المتفرق (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (الواقعة:5ـ 6).

  السادسة: تكون الجبال فيها كالعهن أي كالصوف المندوف المتطاير في الريح الشديدة، ولا يرى في السماء إلّا لونها، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)(القارعة:5).

  السابعة: تلاشي الجبال ولا يبقى منها إلّا شبح كشبح سراب في صحراء قفر، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)(النبأ:20)،

          وهكذا سوف تزول الجبال تمامًا ولا يبقى منها أي أثر وتبدل إلى أرض مستوية لا نرى فيها عوجًا ولا أمتًا، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)(طه:105ـ 107)، وقد ورد في كلام لأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) حال الجبال يوم القيامة حيث قال: (...وَيُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ وَتَذِلُّ اَلشُّمُّ اَلشَّوَامِخُ وَاَلصُّمُّ اَلرَّوَاسِخُ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَابًا رَقْرَقًا وَمَعْهَدُهَا قَاعًا سَمْلَقًا)(18)، وكان لهذا الحديث المستفيض عن العالم الآخر في القرآن آثاره في النفوس والأذهان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) نفحات القرآن/ الشيرازي: 6 / 137.
2) العقائد الجعفرية/ الشيخ جعفر كاشف الغطاء، (ت1228هـ): 102.
3) الميزان في تفسير القرآن/ الطباطبائي: 18 / 71.
4) العقائد الجعفرية: 102 ـ 103.
5) عقائد الإمامية/ المظفر: 168.
6) العقائد الجعفرية:103ـ 104.
7) وظيفة الصورة الفنية في القرآن الكريم/ عبد السلام أحمد الراغب: 321.
8) نظرية التصوير الفني عند سيّد قطب/ صلاح عبدالفتاح الخالدي: 215.
9) من جماليات التصوير في القرآن الكريم، محمد قطب عبد العال: 168.
10) مشاهد القيامة في القرآن/ سيّد قطب: 42.
11) نفحات القرآن:6 / 365.
12) ظ: عقائد الإمامية: 127.
13) ظ: التبيان في تفسير القرآن/ الطوسي: 10 / 110، وتفسير مجمع البيان/ الطبرسي: 10/ 106، وجامع البيان/الطبري:23 / 602.
14) سورة القيامة / 8-9، سورة التكوير / 1-2، سورة الانفطار / 1- 2، وغيرها.
15) سورة الطور / 6، سورة التكوير / 6، سورة الانفطار / 3.
16) سورة الحج / 2.
17) ظ: نفحات القرآن: 6/25 ـ 26 .
18) نهج البلاغة، من الخطبة: 190.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.