Take a fresh look at your lifestyle.

من هو؟! الذي عبس وتولى

0 1٬071

السيد أسعد القاضي

                ما أن فارق النبي(صلى الله عليه وآله) هذه الدنيا الدنيّة وارتحل إلى ربه حتى بدأت الانشقاقات والاختلافات تظهر وتنمو بين المسلمين، الذين هم دينهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، بل ازدادت الهوّة اتساعاً، فأصبح الباحث في شؤون المسلمين وآرائهم ومعتقداتهم قلّما يجد أمراً متفقاً عليه بينهم.
فتراهم مختلفين في أصول الدين وفروعه، وفي الفقه وخصوصياته، وفي نقل مواقف النبي(صلى الله عليه وآله) وأفعاله وتفسيرها، إلى غير ذلك مما لا يخفى على من سبَر سيرة المسلمين.
وأراك توافقني الرأي في أن الاختلاف بين المسلمين لم يكن مبدؤه يوم ارتحال النبي(صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى، بل كان الاختلاف موجوداً بين المسلمين حتى في أيامه(صلى الله عليه وآله).
ولم تكن الاختلافات بين المسلمين فحسب، بل كانت هناك محاولات كثيرة من بعض المسلمين للاعتراض على رأي النبي(صلى الله عليه وآله) وأفعاله ومواقفه، إلا أن الخوف من فضح الوحي كان له دور كبير في الإسرار وعدم التصريح بالخلاف.
اللهم إلا أن يدعى أن هيبته(صلى الله عليه وآله) في نفوس أولئك النفر من المسلمين ـ إن كانت له هيبة في نفوسهم ـ هي الأخرى الداعية إلى كتمان المخالفة.
ومع وجود الهيبة التي قد تدّعى والخوف من فضح الوحي، تجد بعض المسلمين كان يظهر ما يبطنه من الخلاف، ويجابه النبي(صلى الله عليه وآله) بذلك، ولم تمنعه من ذلك هيبة النبوة، ولا خوف سخطه(صلى الله عليه وآله) منه، بل وربما كان يقابله النبي (صلى الله عليه وآله) بالإعراض، أو ينزل فيه من القرآن ما ينزل.
وقد يدّعي البعض أن أهل الشقاق والخلاف هم أتباع الإمام أمير
المؤمنين(عليه السلام)، ومن يسمّون بـ(الروافض)، فهم الذين خالفوا إجماع المسلمين واتفاقهم في مسألة الخلافة بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، وانطووا على أنفسهم، فاختصوا بمسائل مذهبية وعقائدية وفقهية مالت بهم يميناً وشمالاً، وشذوا في مخالفة الجمهور.
قال ابن خلدون: (وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم، في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلها أصول واهية)(1).
إلا أن الحق هو خلاف ذلك، لا بمعنى أن أتباع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)
هم أهل الحق، وأن غيرهم هم أهل الشقاق والخلاف، وإن كان ذلك ثابتاً بالأدلة القطعية، العقلية والنقلية، بل أن الشذوذ الذي رمي به أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم، قد اتصف به غيرهم، عندما خرجوا عما رسمه الإسلام والقرآن لهم من طرق يسلكونها.
وأما دعوى انفرادهم بالفقه فإذا كانت تعني أن باقي المسلمين متفقون في فقههم، فمن له أدنى إلمام بالفقه المقارن يجد بطلان هذه الدعوى، إذ الخلاف الفقهي بين المسلمين أبين من الشمس.
بل لم يكن اختلاف علماء الجمهور فقهياً فقط، فهم مختلفون حتى في المسائل العقائدية، بل الأمر كما تقدم، من أنك قلّما تجد أمراً متفقاً عليه بينهم، وأكثر من ذلك، فهم لم يقتصروا على الاختلاف في الرأي، حتى راح بعضهم يكفّر بعضاً، ويرى أنه خارج عن ربقة الإسلام. وشواهد ذلك كثيرة، لا مجال لذكرها هنا.
ولا يخفى على اللبيب أن السياسة كان لها الدور الفاعل في التحريف والتزوير، بما يروق لها ويوطّد كرسيها، حيث إنها لولا التغيير والتحريف ووضع الأحاديث في رفع شأن من لم يرفعه الإسلام، والحطّ من شأن من رفعه الإسلام، لكان الإسلام الأصيل عائقاً كبيراً دون مواصلة تلك الحكومات مسيرتها التي ترغبها لنفسها وللأمة.
ولم يكن الاختلاف في القرآن الكريم بِدعاً من الاختلافات التي ابتلي بها الإسلام والمسلمون وعلى مرّ التأريخ، فكانت للقرآن الكريم حصة كبيرة من بين تلك الخلافات، فهم مختلفون في قراءته، وتفسيره، وسبب نزوله، ووقت نزوله، وغير ذلك مما يظهر للمتتبع، بل هم مختلفون في أن القرآن الكريم الذي بأيدينا هل هو كله، أم سقط منه شيء، قليل أو كثير، حتى أن بعضهم أراد أن يُلحق آية بالقرآن قدّر لها سوء حظّها أن تسقط منه ـ وما أكثر ما سقط منه!! ـ إلا أنه خاف أن يقال عنه أنه زاد في كتاب الله، فلولا أنه يقال عنه ذلك لتدارك النقص ووضع في القرآن شيئاً مما سقط منه، لكن يبدو أنه يخشى الناس ولومهم أكثر من خشيته من الله وشفقته على كتابه، ذلك لأنه تأخذه في الله لومة لائم!!.
ولم يكن الخلاف في سبب نزول سورة عبس، وكذلك في تفسير بعض مفرداتها، إلا واحداً من تلك الخلافات، وأهم تساؤل يطرح بهذا الصدد هو أن السورة إلى من تتعرض؟ وعلى من تعتب؟ ومن هو العابس بوجه الأعمى؟.
وأنا أحاول ـ في هذه العجالة ـ الإجابة على هذه الأسئلة، ناقلاً الخلاف فيها، مختاراً الرأي الأصوب الذي تساعد عليه الأدلة، وذلك في ضمن أمور..

ترتيب النزول وعدد الآيات
سورة عبس مكية، آياتها اثنان وأربعون. وهي السورة الثمانون حسب الترتيب القرآني، والرابعة والعشرون حسب ترتيب النزول. نزلت بعد سورة النجم، وقبل سورة القدر(2).

فضلها
روى الشيخ الصدوق بسنده عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: من قرأ سورة عبس وتولى وإذا الشمس كورت كان تحت جناح الله من الجنان، وفي ظل الله وكرامته في جنانه، ولا يعظم ذلك على الله(3).

اللغة والإعراب
(عبس): بسر وقبض وجهه. (تولى): أعرض وذهب بوجهه. (أن جاءه الأعمى) أي: لأن جاءه الأعمى، وقال ابن خالويه: تقديره: إذ جاءه الأعمى. (وما يدريك) أي: وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى؟. (لعله يزكى): أي يتزكى بالعمل الصالح، فأدغم التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله: (يذكر)، ومعناه: يتذكر. (فتنفعه) بالرفع عطفاً على يذكّر، وبالنصب بأن مضمرة بعد فاء السببية، لمكان لعلّ حيث هي هنا بمعنى الترجي. (أما من استغنى) أي: من كان غنياً. (فأنت عنه تصدّى) أي: تتصدى، بمعنى: تتعرض له. (وما عليك ألاّ يزّكّى) أي: ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام. (فأنت عنه تلهى) أي: تتلهى وتتشاغل(4).

من هو الأعمى؟
أجمع المفسرون والمؤرخون على أن الأعمى المقصود في السورة هو ابن أم مكتوم، ولابد ـ حينئذٍ ـ من ذكر شيء عنه، فنقول..
اختلفوا في اسمه، فقيل: عبد الله، وقيل: عمرو، لكنهم اتفقوا على أنه ابن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب. وأمه عاتكة بنت عبد الله بن عنكشة بن عامر بن مخزوم.
أسلم بمكة قديماً، وكان ضرير البصر، وقدم المدينة مهاجراً بعد بدر بيسير، وقيل: هاجر قبل هجرة النبي(صلى الله عليه وآله)،
فقال له أهل المدينة: ما فعل من وراءك؟ فقال: هم أولاء على أثري.
وعن البراء بن عازب أن أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يعلمان الناس القرآن.
كان يؤذن للنبي(صلى الله عليه وآله) بالمدينة قبل بلال.
خلفه النبي(صلى الله عليه وآله) على المدينة أكثر من اثنتي عشرة مرة، في الأبواء، وبواط، وذي العشيرة، وغزوته في طلب كرز بن جابر، وغزوة السويق، وغطفان، وغزوة أحد، وحمراء الأسد، ونجران، وذات الرقاع، وفي خروجه في حجة الوداع وغيرها.
وقد صرحوا أنه(صلى الله عليه وآله) إنما كان يستخلفه ليصلي ببقايا الناس، فكان يصلي بهم الجمعة، فإذا أراد أن يخطب وقف بجنب المنبر، وجعله على يساره.
شهد القادسية وكانت معه راية سوداء، عليه درع حصينة سابغة.
رجع من القادسية إلى المدينة فمات بها في خلافة عمر بن الخطاب(5).

سبب النزول
اختلف علماء الجمهور وشيعة أهل البيت(عليهم السلام) في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أشد اختلاف، وجوهر الاختلاف بينهم هو في كون العابس هو النبي(صلى الله عليه وآله) أو غيره، كما تقدم، وإن كانوا مختلفين في بعض الخصوصيات أيضاً.
وطبيعة البحث تستدعي الابتداء بذكر ما ذهب إليه علماء الجمهور، ثم ذكر ما تسنح به الفرصة وتجود به القريحة من إشكالات وملاحظات، وبعدها نذكر ما ذهب إليه شيعة أهل البيت(عليهم السلام) تبعاً لأئمتهم (صلوات الله عليهم أجمعين).

أولاً: رأي علماء الجمهور
ذكر المفسرون والمؤرخون من غير الشيعة أن السبب في نزول هذه السورة هو أن عبد الله بن أم مكتوم أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبياً بن خلف وأخاه أمية، يدعوهم إلى الله، ويرجو إسلامهم، وكان يتصدى لهم كثيراً، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فجاء ابن أم مكتوم وجعل يستقرئ النبي(صلى الله عليه وآله)
آية من القرآن، وقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وجعل يكرر النداء عليه، وهو لا يدري أن النبي(صلى الله عليه وآله)
مشغول عنه، ولم يزل كذلك حتى ظهرت الكراهة في وجهه(صلى الله عليه وآله)، وعبس بوجهه وتولى وكره كلامه، لقطع ابن أم مكتوم عليه الكلام، وقال(صلى الله عليه وآله) في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم، فلما قضى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وطره منهم، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله بعض بصره، ثم خفق برأسه، فنزلت الآيات(6).
وهذه الرواية بهذا الترتيب ـ مع الاختلاف في بعض الخصوصيات ـ أطبق عليها علماء السنة ومفسّروهم، وأرسلوها إرسال المسلّمات.
لكن لنا ـ عاجلاً ـ أن نسجل النقاط التالية..
الأولى: إن جميع أسانيد هذه الرواية ـ على اختلاف مضامينها ـ تنتهي إلى من لم يحضر الواقعة، فهي تنتهي إلى عائشة وأنس وابن عباس، وبعضهم كان طفلاً آنذاك، وبعضهم لم يكن قد ولد، فلم يكونوا قد حضروا الواقعة، وإنما سمعوها ممن حضرها، ولا سبيل إلى معرفة الشخص الراوي الأول للواقعة، الذي سمعها هؤلاء منه، والذي يرويها عن حس ومشاهدة.
كما أنها تنتهي في بعض أسانيدها إلى جماعة من التابعين، كزيد وقتادة ومجاهد والضحاك، ويجري فيهم ما تقدم من الإشكال، من عدم اتصال السند بالواقعة.
فتكون الرواية حينئذٍ مقطوعة السند، ومرسلة، وبالتالي فهي ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها بحالٍ.
الثانية: لو ألقينا نظرة فاحصة في نصوص الروايات التي حكت لنا الواقعة لوجدناها مضطربة، الأمر الذي يستلزم وهنها وعدم إمكان الاعتماد عليها.
فعن عائشة أنه كان عند النبي(صلى الله عليه وآله) رجل من عظماء المشركين(7).
وعنها أيضاً: أنه(صلى الله عليه وآله) كان في ناس من وجوه قريش، منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة.
وعن مجاهد: أنه كان عنده صنديد من صناديد قريش.
وعنه أيضاً: أنه كان عنده عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف.
وعن أبي مالك: كان يتصدى لأمية بن خلف، فقال الله: (أما من استغنى فأنت له تصدى).
وعن أنس: كان يكلم أبيّ بن خلف.
وعن ابن عباس: كان يناجى عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبا جهل بن هشام.
وعن الضحاك: رجل من أشراف قريش(8).
كما أن النصوص قد اختلفت في نقل كلام النبي(صلى الله عليه وآله)، وكلام ابن أم مكتوم، ويتضح ذلك لمن راجع مجموع الروايات والنصوص التي جاءت لبيان ما جرى في ذلك الاجتماع الحاصل بين النبي(صلى الله عليه وآله) وبين عدد المشركين أو واحد منهم.
فعدم ضبطهم للحادثة، واختلافهم فيها بهذا الشكل يثير التساؤل، ويدعو إلى الريب.
الثالثة: والأهم مما تقدم من الأمرين السابقين هو أن هذه القصة تتنافى وتتقاطع مع ما هو المعلوم من سجاحة خلق النبي(صلى الله عليه وآله)، حتى أن الله سبحانه وتعالى ـ الذي ليس في مدحه أية مبالغة ـ امتدحه في كتابه ـ في سورة القلم التي نزلت قبل سورة عبس بالاتفاق ـ فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم)(9)، مما يعني أن عظم أخلاقه(صلى الله عليه وآله) كانت من الصفات الملازمة له(صلى الله عليه وآله) في جميع حالاته، وفي جميع الأزمنة والآنات.
كما أن الله تعالى كان قد أمره بخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وذلك في سورة الشعراء التي نزلت قبل سورة عبس، قال تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)(10)، فهل يسوغ لأحد أن يدعي أنه(صلى الله عليه وآله) خالف هذا الأمر، عمداً أو نسياناً؟! نعوذ بالله من مضلات الفتن.
ومع ما تقدم لابد من تكذيب كل ما ينقل عنه(صلى الله عليه وآله) مما يخالف الأيات الشريفة المتقدمة التي أمرته بخفض الجناح، وأشادت بأخلاقه، ومدحته عليها.
ومما ينبغي تكذيبه هنا هو ما يدعى من موقفه المزعوم مع ابن أم مكتوم، الموقف الذي لا يخلو من سوء خلق، أو لا أقل من كون فاعله يخرج عن صفة (على خلق عظيم)، التي نطق بها أصدق الصادقين، وكيف يصدر ذلك ممن أدّبه ربه فأحسن تأديبه؟!.
قال الشيخ الطوسي: (لأن النبي(صلى الله عليه وآله) قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب وقد وصفه بأنه (على خلق عظيم)، وقال: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(11)؟ وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)(12)؟…

فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام، على أن الأنبياء(عليهم السلام) منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها)(13).
على أن الإعراض عن الناس وخصوصاً الفقراء منهم والعبوس في وجوههم لم يكن من صفاته(صلى الله عليه وآله) في تعامله مع أعدائه، فكيف يصدر منه مع المؤمنين من أصحابه، وقد وصفه الله تعالى بأنه (بالمؤمنين رؤوف رحيم)(14).
وقد يقال إن العبوس في وجه الأعمى لا ضير فيه، وليس هو منافٍ لحسن الخلق، ما دام أن مجرد تقطيب الوجه والعبوس لا يوجب إحساس الأعمى بالنفرة منه، وسوء الخلق إنما هو في ما إذا كان التقطيب والعبوس بوجه من يرى الشخص المقطّب العابس موجباً لإشعاره بالنفرة منه.
لكن هذا من الغرابة بمكان، حيث إن سوء الخلق لا يختص بالتقطيب بوجه سليم العينين الملتفت، حيث من الواضح أن إشعار الحاضرين بالنفرة منه ـ حتى وإن كان خالياً عن إشعاره ـ لا يخلو من إساءة، فضلاً عما إذا كان الحاضرون كفاراً والمعبّس في وجهه مؤمن، مما فيه توهين للمؤمن أمام الكافر، فهو أشد في الإساءة، ومنافٍ للأخلاق، المنزّه عنها رسول الأخلاق، الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
وأغرب منه ما يُذكر من أن عبوس النبي(صلى الله عليه وآله) وتقطيبه بوجه الأعمى إنما هو تأديب له، وردع له عما صدر منه من سوء أدب معه(صلى الله عليه وآله)، حيث إن الأعمى تكلم معه(صلى الله عليه وآله) في وقت كان(صلى الله عليه وآله) مشغولاً بأمر أهم.
إذ كيف يُعقل كون العبوس بوجه أعمى تأديباً له، والمفروض أن العبوس هنا لم يصاحبه أي صوت يدل على المقصود، والأعمى إنما يتعامل بالأصوات لا بالإشارات، والتقطيب والعبوس من سنخ الإشارات، فيكون تأديب الأعمى بالعبوس شأنه شأن تأديب الأصم عن طريق التكلم معه، ووعظ الأمي بإرسال كتاب له، وأمثاله مما لا يشك في عدم صدوره من النبي(صلى الله عليه وآله).
مضافاً إلى أن قولهم عن ابن أم مكتوم أنه كان يكرر النداء ولا يدري أن النبي(صلى الله عليه وآله) مشتغل عنه، يدل على أنه لو كان يدري بانشغال النبي(صلى الله عليه وآله) لمَا كرر النداء، بل لمَا ناداه أصلاً، مما يعني أنه لا مبرر لتأديبه وزجره وردعه، وأيّ تأديب لمن هو ملتزم بآداب الإسلام، ونفسه تنطوي على أنه لو رأى النبي(صلى الله عليه وآله) مشغولاً لمَا كلّمه، إلا أن فقده لبصره منعه من معرفة حالة النبي(صلى الله عليه وآله) وتشخيص موارد التخلق بأخلاق الإسلام والتأدّب بآدابه.
وإنما الذي يستحق التأديب والردع هو من يعلم بانشغال النبي(صلى الله عليه وآله) ومع ذلك يحاول صرفه إليه لغاية أو لأخرى.
الرابعة: سياق الآيات الكريمة لا يدل على ما يذكره المفسرون ويروونه، وذلك من وجوه..

1ـ ليس فيها ما يدل على أن العابس هو النبي(صلى الله عليه وآله)، بل هي جاءت بهيئة الإخبار عن شخص عبس وتولى من دون تحديد له، وما تقدم من منافاة العبوس لأخلاقه(صلى الله عليه وآله)
ينفي كونه هو العابس نفياً قاطعاً.
2ـ كذلك ليس فيها ما يدل على أن العبوس مترتّب على سؤال الأعمى، بل قوله تعالى: (أن جاءه الأعمى) ظاهر في أن العبوس مترتب على نفس المجيء، فحالة الرجل الأعمى التي ترتّب عليها العبوس هي المجيء لا السؤال، وهذا لا يناسب ما يروونه من أن ابن أم مكتوم طلب من النبي(صلى الله عليه وآله) أن يُقرأه شيئاً من القرآن، أو يعلمه شيئاً من أحكام دينه، وأنه ألح عليه وكرر السؤال، فقطّب النبي(صلى الله عليه وآله) في وجهه.
3ـ كما أن قوله تعالى: (وما يدريك لعله يزّكّى) لا دلالة فيه على كون المخاطب هو النبي(صلى الله عليه وآله)، إذ ليس بالضرورة أن تكون الخطابات القرآنية كلها موجهة
له(صلى الله عليه وآله)، كيف؟ وقد خاطب الله تعالى بعض من لم يصدّق النبي(صلى الله عليه وآله) بقوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).
4ـ قوله تعالى: (أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى) لا يصح أن يكون خطاباً للنبي(صلى الله عليه وآله)، وذلك لأنه كيف يتصور أن الله تبارك وتعالى ينهاه عن الاهتمام بتزكّي أحد بالإسلام، خصوصاً من يقوى الدين بإسلامه، وقد رأينا أنه(صلى الله عليه وآله) كان أقصى همته هي الدعوة إلى الإسلام، والتزكّي به.
هذا ما وسعني ذكره من إشكالات وملاحظات على رأي علماء الجمهور، ولعل القارئ الكريم يعثر على إشكالات أخرى، ربما تكون أهم مما ذكرنا، وأدلّ على بطلان ما ذهبوا إليه، واتفقوا عليه.

ثانياً: رأي شيعة أهل البيت(عليهم السلام)
نظراً لما تقدم من إشكالات وملاحظات على رأي علماء الجمهور يتضح رأي علماء شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، فهم يعتقدون بأنه لا يمكن أن يكون العابس هو النبي(صلى الله عليه وآله)، مستندين ـ مضافاً إلى ما تقدم ـ إلى روايات رووها عن أئمتهم(عليهم السلام) في ذلك.
فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن رجلاً من بني أمية كان عند النبي(صلى الله عليه وآله)، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه، وجمع نفسه، وعبس، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك(15).
اتهام عثمان
وأما ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره من أن العابس بوجه الأعمى هو عثمان فنحن نقتصر في الحديث عنه على ما ذكره السيد جعفر مرتضى العاملي بما لا مزيد عليه.
حيث قال: (ولكنا نشكك في هذا الأمر، لأن عثمان قد هاجر إلى الحبشة مع من هاجر، فمن أين جاء عثمان إلى مكة وجرى منه ما جرى؟).
ثم يجيب: «بأن هناك نصوصاً تاريخية صرحت بأن أكثر من ثلاثين رجلاً قد عادوا إلى مكة بعد شهرين من هجرتهم… وكان عثمان منهم، ثم عاد إلى الحبشة».
ثم قال: (وعلى كل حال فإن أمر اتهام عثمان أو غيره من بني أمية لأهون بكثير من اتهام النبي المعصوم، الذي لا يمكن أن يصدر منه أمر كهذا على الإطلاق)(16). والله العالم بحقائق الأحوال.

نشرت في العدد المزدوج 35-36


(1) مقدمة ابن خلدون ج1 ص446.
(2) الفهرست لابن النديم البغدادي ص28، تاريخ اليعقوبي ج2 ص33.
(3) ثواب الأعمال ص121.
(4) راجع التبيان ج10 ص286، مجمع البيان ج10 ص267، جوامع الجامع ج3 ص729.
(5) الطبقات الكبرى ج4 ص205، تهذيب التهذيب ج8 ص31، إمتاع الأسماع ج9 ص206، الاستيعاب ج3 ص997، الثقات ج3 ص214، سير أعلام النبلاء ج1 ص260.
(6) مجمع البيان ج10 ص265، جامع البيان للطبري ج30 ص65، وراجع كتب التفسير للسنة.
(7) سنن الترمذي ج5 ص104.
(8) الدر المنثور ج6 ص315.
(9) سورة القلم: 4.
(10) سورة الشعراء: 214ـ215.
(11) سورة آل عمران: 159.
(12) سورة الأنعام: 52.
(13) التبيان ج10 ص268.
(14) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج3 ص158.
(15) مجمع البيان ج10 ص266.
(16) الصحيح من السيرة ج3 ص291.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.