يقوم التحليل الأسلوبيُّ على مراقبة آلية الاختيار في النص الفني، إذ يمكن أنْ تُؤدَّى هذه العملية بأساليب عدِّة، اعتماداً على ثروة المُنشئ اللغويَّة، وقدرته على الاختيار من النظام اللغويِّ، وتأدية الخبر الواحد بطرائق عدِّة(1)، وطبيعةَ الاختيار تقتضي المعرفة بالقاعدة الأساسيَّة المتمثَّلة باللغة، أي خصائص التعبير الأصيل أو النمطي أو المعتاد، ومن هذه الآلية المهمة في استجلاء النصوص يمكننا الولوج إلى النص القرآني المعجز لدراسة كيفية وضعية البنية اللفظية في كلمتي (الله ـ رب).
إنَّ أصل لفظة (الله) في اللغة من أَلِهَ يَأْلَهُ، إذا تَحَيَّر، ووقوع العبد في عظمة الله وجلاله، وتحيَّر فيها وفي صفات الربوبيَّة، وليس هو من الأَسماء التي يجوز منها اشْتقاق فِعْلٍ، وقيل أَصل إلاهٍ (وِلاهٌ)، فقلبت الواو همزة، ومعنى (ولاهٍ) أَنَّ الخَلْقَ يَوْلَهُون إليه في حوائجهم، وإليه يَضْرَعُون فيما يصيبهم، ويَفْزَعون في كلِّ ما ينوبهم، كما يَوْلَهُ كلُّ طِفْل إلى أُمِّه، وأَلِهْتُ على فلان، أَي: اشتدَّ جزعي عليه، مثل وَلِهْتُ، وقيل: هو مأْخوذ من أَلِهَ يَأْلَهُ إلى كذا، أَي: لجأَ إليه؛ لأَنَّه سبحانه المَفْزَعُ الذي يُلْجأُ إليه(2).
وإيل في اللغات السامية المرجع عند الندبة والاستغاثة يصير إيلاه، وعند سبقه بـ (الـ) يصيره (الإيلاه) ويخفف فيصير (الإله) وفي القرآن: (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً) (التوبة:10)، أي: لا يرقبون إلاهاً ولا عهداً(3)، وفي العِبريَّة (إلوهيم)، وفي العربيَّة (اللهمَّ)، فلفظ الجلالة يطلق على اسم الذات الإلهيَّة المقدَّسة(4). وهو الاسم الشامل لصفات الذاتيَّة جميعاً، والعامَّة. وهو من التحير في جلاله، ومن الوله به، ومن اللجوء إليه، والاستغاثة به.
أمَّا لفظة (الرَّبُّ) في اللغة فإنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ، رَبُّ كلِّ شيءٍ أَي: مالكُه ومُسْتَحِقُّه، وقيل: صاحبُه، ويُقال: فلانٌ رَبُّ هذا الشيءِ، أَي مِلْكُه له، وكُلُّ مَنْ مَلَك شيئاً صارَ رَبُّه، ويُطْلَق في اللغة على المالكِ، والسَّيِّدِ، والمُدَبِّر، والمُرَبِّي، والقَيِّمِ، والمُنْعِمِ. شرط الإضافة، فنقول رب الأسرة، ورب العمل، ونحوها فإذا لم يضف لم يرد به إلَّا الله سبحانه(5).
وتنبثق قصديَّة السياق ومقتضياته عند اتحاد الألفاظ في الحقل الدلاليّ الواحد، وتتجلَّى هذه القصديَّة في أعلى مراتبها في كتاب الله عزَّ وجلَّ، فهو الكلام المعجز في اللفظ والمعنى، ففي لفظتي: (الله وربّ) اللتين وردتا في القرآن الكريم يُلاحظ أنَّهما كانتا توافقان السياق تماماً، فلا تخالفانه أبداً.
وربَّما بوساطة اسمه تعالى ندرك شيئاً من كنه الذات الإلهيَّة أو نتصوّرها، فالاسم يجعلنا نقترب منه سبحانه فندعوه ونناجيه، ففي قوله تعالى: (إلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(الشُّعَرَاءِ:89)، ووردت لفظة (الله)؛ لأنَّ الإتيان يكون للشيء المعروف باسمه. وتميُّز اسم العلم الخاص به من بقية أسماء الآلهة الباطلة في قوله تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) (الشُّعَرَاءِ:213)، وقوله تعالى: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ…) (القَصَصِ:88).
والذكر يكون باسمه العلم جلَّ جلاله في قوله تعالى: (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا)(الشُّعَرَاءِ:227)، والتعريف بالماهيَّة يأتي بالاسم الصريح، وهو لفظ الجلالة (الله)، وذلك في قوله تعالى: (يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النَّمْلِ:9)، وقوله تعالى: (يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(القَصَصِ:30)، وقوله تعالى: (وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ…)(القَصَصِ:70).
وفي قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ)(النَّمْلِ:36)، قال: (آتاني الله)، ولم يقل: (آتاني ربِّي)، مثلما يُحتمل سياقياً؛ إذ إنَّ الإتيان يتناسب معه لفظة (الربّ) الدالة على إعطاء الخير، ولكنَّ الأسلوب القرآنيّ عدلَ إلى لفظة (الله)؛ ذلك لأنَّ كلام سليمان(عليه السلام) كان موجهاً لقوم بلقيس الذين يعبدون الشمس من دون الله، وخشي إنْ قال: (آتاني ربِّي)، لا يعرفونه ويظنونه الشمس التي هي معبودهم، وذلك في قوله تعالى: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ)(النَّمْلِ:24).
وفي قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القَصَصِ:77)؛ كان الخطابُ صادراً عن قوم قارون الذين لا يعلمون أي ربّ يعبد قارون، فجاء التحديد بلفظ الجلالة (الله) منعاً للالتباس، فهنا يجب تحديد ماهيَّة الإله الذي يعبده، وذكره بعَلَمِهِ.
وفي قوله تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)(القَصَصِ:13)، لم يقل (وعد الرب)؛ لأنَّ كلمة (ربّ)، لم ترد بالألف واللام في القرآن، فإذا وردت بالأَلِف واللام، كان المقصود غيرَ اللهِ، وقد جاءت في الجاهليَّة للمَلِكِ(6)، وذلك من قبيل قول الشاعر:
وهو الرَّبُّ والشَّهِيدُ عَلى يَوْ مِ الحِيارَيْنِ والبَلاءُ بَلاءُ(7)
ويقصد بالربِّ هنا النعمان بن المنذر. هذا من ناحية السياق النحوي، أمَّا من ناحية الداعي المضموني فإنَّ التعبير بـ (وعد الله) لإثبات قاعدة عامَّة للجميع مفادها: إنَّ (وعد الله) دائم وحق ليس لأم موسى فحسب؛ بل للجميع على وجه الإطلاق.
ويُلاحظ في قوله تعالى: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(النَّمْل:26)، استعمال لفظة (ربّ)؛ لأنَّ من معاني الربِّ المالك(8)، دلالة على مالكيَّة هذا الشيء العظيم، وهو العرش، الذي من صفته أنَّ الكرسي الذي وصفه القرآن بقوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)(البَقَرَةِ:255)، بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة(9).
وأمَّا لفظة (ربّ) فتكثر في طرفي الترغيب والترهيب؛ إذ يرد معنى ملكيته تعالى لهم، انفراداً بإيجادهم، وإدراراً لأرزاقهم، وبيان انفراده بذلك(10)، ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشُّعَرَاءِ:9، 68، 104، 122، 140، 159، 175، 191)، بما تتحدَّد به هذه الآية الكريمة من طرفي الترهيب والترغيب، فالعزيز الممتنع القادر صاحب الأمر النافذ الذي لا يجارى أمره، ولا يُعارض. والرحيم العطوف المنعم على عباده، وتدلُّ الألف واللام فيهما على الكمال أي: كمال العزَّة والرحمة، وهما صفتان مطلقتان فيه في كلِّ حين وفي كلِّ شأن وأمر، فلا عزيزَ، ولا رحيمَ حقيقيانِ سواه تعالى(11).
وقد سبقت هذه الآية التي تكرَّرت في سورة الشعراء ثماني مرَّات في سياقات الحديث عن الترهيب والترغيب، ففي قوله تعالى: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)(الشُّعَرَاءِ: 6و7)، (فسيأتيهم أنباء …) تهديد ووعيد، و (إنبات الأرض)، ترغيب ورحمة.
وقوله تعالى: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)(الشُّعَرَاءِ:151) إعطاء النصح من أعظم النعم التي أسبغها الله تعالى على عباده، وقوله تعالى: (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)(الشُّعَرَاءِ: 158)، فيها العذاب.
وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)(الشُّعَرَاءِ:184و185)، فالنصح في (واتَّقوا) رحمة، والتكذيب في الآيات التي بعدها عذاب.
وتظهر أيضاً معاني الرجاء في لفظة (الربِّ)، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(الشُّعَرَاءِ:51)، والانفراد في الحساب في قوله تعالى: (إنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) (الشُّعَرَاءِ:113)، والانفراد أيضًا في الأجر في قوله تعالى: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشُّعَرَاءِ: 109، 127، 145، 164، 180).
ومن الشواهد الأخر التي يمكن إيرادها على ورود لفظة (ربّ)، ومدى التناسب الإعجازيّ فيها، ما نلحظه في ارتباط لفظة (ربّ) مع الهداية(12)، وذلك في الآيات الكريمة:
في قوله تعالى: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)(الشُّعَرَاءِ:62).
ولكنَّنَا نلحظ في قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القَصَصِ:56)، عدم ارتباط لفظة (الهداية) مع لفظة (ربّ)؛ لأنَّها تُصوِّر جلالة الله وقدرته، فهو القادر على هداية من يشاء، ولا يستطيع ذلك غيره، ثمَّ إنَّ الهداية جاءت في سياق النفي، وفي هذا السياق كثيراً ما يأتي لفظ الجلالة (الله).
ولأنَّ موسى(عليه السلام) كان خائفاً يترقَّب(13) كما عبَّر القرآن الكريم، (فعبارة ـ خائفًا يترقَّب ـ توحي بحالة موسى وقلقه وكأنَّنا نسمع دقات قلبه من الخوف)(14)، وهو ما يستدعي أن يلتصقَ الإنسان بمن يحميه، ويلقي بنفسِهِ كلِّها عليه؛ لهذا تقدَّمت لفظة (ربّ)، فقال تعالى على لسان موسى(عليه السلام) (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)(القَصَصِ:22)،
بخلاف آية سُوْرَة الكهف في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكَهْفِ:24)، إذ تقدَّم (أن يهدينِ) على (ربِّي)؛ لأنَّ تقديم لفظة (ربِّي) يدلُّ على الحاجة الملحة للهداية؛ لأنَّ موسى كان لا يعلم أين ستكون وجهته، وكان حسن ظنِّه بربِّه في هذا الموقف شديداً،
ولهذا قدَّم لفظة (ربِّي)، التي تدلُّ على العناية والاهتمام. بخلاف آية سورة الكهف التي جاء سياقها ضمن النصح والإرشاد والدعوة إلى التوكل على الله تعالى، وهذا لا يقتضي خوفا حتَّى تتقدم لفظة (ربّ) على الهداية كما هي حال موسى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) الأسلوبية مفاهيمها وتجلياتها: ص30. 2) ظ: لِسَانُ العَرَبِ، (أله): ج13/ص467. 3) ظ: الدر المنثور في التأويل بالمأثور: 1/170. 4) ظ: لِسَانُ العَرَبِ، (أله): ج13/ص467. 5) ظ: لِسَانُ العَرَبِ، (ربب): ج1/ص399. 6) لِسَانُ العَرَبِ، (ربب): ج1/ص399. 7) ديوان الحارث بن حِلِّزة: ص29. 8) ظ: لِسَانُ العَرَبِ، (ربب): ج1/ص399. 9) ظ: مجمع البيان في تفسير القرآن: ج1/ص362، روح المعاني: ج2/ص15. 10) ظ: ملاك التأويل: ج2/ص345. 11) في تقديم العزيز على الرحيم دلالة على أنَّ رحمته جاءت عن قدرة، وفي القرآن كثيراً ما يأتي لفظ العزيز مقروناً بلفظ الحكيم، ولكن في سُوْرَةِ الشُّعَرَاءِ ورد لفظ العزيز مقرونًا بالرحيم؛ لأنَّ السُوْرَةَ تتحدَّث عن عذاب الأقوام السالفة، فالله سبحانه يعذِّب بعزَّته من يستحقُّ العذاب، ويعفو برحمته عمَّن يستحقُّه. 12) لمسات بيانيَّة في نصوص من التنزيل: ص33. 13) إشارة إلى قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ)القصص، الآية: 18. 14) في النص القرآني وأساليب تعبيره: ص95.