Take a fresh look at your lifestyle.

المركزية واللامركزية بين الإدارة المعاصرة ونهج البلاغة

0 924

هاشم حسين ناصر المحنك
مركز دراسات الكوفة/ جامعة الكوفة

            بديهياً في علم الإدارة والأعراف العملية والتطبيقية، المسؤولية بلا سلطة أو صلاحية، كالجسد بلا روح، لكونه الخطوة الأولى لحركة الشخص القيادي إدارياً، مادياً ومعنوياً ونفسياً وبشرياً وإنسانياً، فضلاً عن بيان ديناميكية الأداء المطلوب.
لذا أول ما يبدأ الشخص الإداري وفي أي مستوى كان من المستويات الإدارية، وقبل الشروع بالعمل، كوضع الخطط أو التنفيذ، أن يعرف ما له من صلاحيات وسلطات وما عليه، والهيكل التنظيمي والدليل التنظيمي المحدد النابع من توصيف المنصب (أي تشريح الوظيفة أو العمل)، ووصف المنصب (أي رؤى هذا التشريح ليكون وفقه شكل المنصب الذي سيشغله والمناصب والوظائف الأخرى)، والمواصفات التي تحدد مَنْ (كشخص) سيشغل تلك المناصب والوظائف، بما يمتلكه من مؤهلات وخبرات وإنجازات، وكل ما يتضمنه هيكلة العمل.
ومن هذا تكون الأنشطة والفعاليات المُناطة بالشخص, سواء كان على مستوى المشروع الواحد أو مجموعة مشاريع نمطية أو غير نمطيّة , تأخذ أهميتها تبعاً للنشاط والعاملين فيه, وثقافاتهم ووعيهم المتكافئ مع الأعمال المُناطة بهم واتجاهات التخصص وتقسيم العمل, سواء كان يتطلّب بذل الجهود الفكرية، تخطيط وتنظيم وتنمية إدارية. وما إليها من الأعمال التي يطغى النشاط الذهني أو الفكري. أو الجهود العضلية التي يتضاءل النشاط الفكري في تنفيذ الأعمال المختلفة المناطة بالعاملين.
وكل ما تم ذكره بشكل سريع وغيره، تتوجب أو تتطلب أو تأخذ الوظيفة أو العمل طابعه المركزي (Centralization) أو اللامركزي (Decentralization), من خلال قوّة العمل والجهود المبذولة والوعي المناسب وأهمية العمل والمسؤولية والرغبة والاستعداد لأداء العمل والقدرة عليه وما متوافر من الكوادر… إلخ.
فالمركزيّة تعني، تركيز أو تكثيف السلطات أو المسؤوليات الوظيفيّة أو الأعمال بيد جهة محددة أو بإمرة أو سلطة شخص حقيقي متمثل بالفرد أو معنوي متمثل بمؤسسة أو هيئة أو لجنة أو حتى رئاسة على مستوى دولة، وتكون المسؤولية مسؤولية مباشرة عن نتائج تنفيذ الأعمال وأمام الجهات العليا، كأن تكون متمثلة بالقضائية أو التخطيطية أو التشريعية.
أمّا اللامركزية فهي ما يتم بموجبها توزيع السلطات أو المسؤوليات الوظيفيّة أو الأعمال على عدّة أشخاص حقيقيين (أفراد) أو معنويين (كمؤسسات أو لجان أو هيئات…), وتكون مسؤولية كل منهم على وفق ما هو مسؤول عنه أو عن نتائج تنفيذ الأعمال المناطة به, والهدف هو تنظيم العمل وجعله بمرونة ودقّة وحيوية وفاعلية أكبر، والحاجة المُلِحّة لذلك, وخصوصاً في المشاريع المتعددة الفروع, والعائدة لمؤسسة واحدة, والمترابطة والموزعة جغرافياً, لئلا تكون هناك معوقات تواجه مسيرة تنفيذ الأعمال, كما لو اتُخِذ في تنفيذ أعمالها الأسلوب المركزي..
ولتطبيق المركزية واللامركزيّة، سلبياتها وإيجابياتها, لذا تنتهج بعض المشاريع أو الدول إلى المزج بين أسلوب النظام المركزي والنظام اللا مركزي, وللإفادة من إيجابيات كلٌ من النظامين وآلياتهما، والابتعاد عن سلبيات كل منهما، فضلاً عن الانتباه إلى تلبية الحاجة لتحديد نسبة الكثافة في كل نظام لوضعه للنشاط المحدد وما يُحتِّمه الوضع الجغرافي للنشاط وما يرتبط معه بشكل مباشر وغير مباشر، كما هو عليه البُعد والقرب من المورِّد والمواد الأولية والأسواق، أو القرب والبُعد من مصدر القرار وصنعه وتنفيذه، ومستوى العرقلة في ديناميكية العمل والعاملين ضمنه(1).
ويبين لنا أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام)
صورة من المكانة والتنظيم والقدرة الإلهية العظيمة اللامحدودة في تسيير الكون والمخلوقات بمختلف ما تمتلكه من قدرات ومؤهلات ورغبات وما يحيطها وما يجول في أفكارها ودواخلها النفسية وسلوكياتها وأفعالها، حيث يقول:
(قَرِيبٌ مِنَ الأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلابِسِ , بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ , وَمُتَكَلِّمٌ لا بِرَوِيَّةٍ , مُرِيدٌ لا بِهِمَّةٍ , صَانِعٌ لا بِجَارِحَةٍ. لَطِيفٌ لا يُوصَفُ بِالخَفَاءِ , كَبِيرٌ لا يُوصَفُ بِالجَفَاءِ , بَصِيرٌ لا يُوصَفُ بِالحَاسَّةِ , رَحِيمٌ لا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ. تَعْنُوا الوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ , وَتَجِبُ القُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ )(2).
وبهذا جل جلاله له ما لا يمكن أن يكون لغيره من الملك والحكم والتنظيم والإدارة والتسيير والهيمنة والقدرة والعظمة، فانفرد جل وعلا بصفاته العظمى وأسمائه الحسنى، ومن تعاليمه وما شرّعه بالإسلام لبني آدم من قويم المناهج، يكون الرشاد لبناء الحياة الدنيوية وتسييرها مركزياً ولا مركزياً.
ومن هذا التوجّه والتوجيه والهداية والتنوير الإلهي، كان إتباع أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) في أسلوب الحكم الثابت والمتغير، لذا تراه(عليه السلام) تارة يتبع أسلوب المركزية, وموقف آخر يستخدم أسلوب اللامركزية في الإدارة ومتابعته للمنجز, وحالة أخرى حينما يتطلب المزج بين إيجابيات المركزية واللامركزية لمعالجة موقف آخر, أو سحب السلطات وتجريد المسؤول من صلاحياته، أو يتطلب التحوّل إلى ما يتفق مع الموقف بأسلوبه الإداري، ويوضح ذلك قوله المبارك:
(أَمَّا بَعْدُ, فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ, إنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ, وَعَصَيْتَ إمَامَكَ, وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ. بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ, وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ, فَارْفَعْ إلَيَّ حِسَابَكَ, وَاعْلَمْ إنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابَ النَّاسِ, وَالسَّلامُ)(3).

وهذا دليل واضح باستخدام اللامركزية في الإدارة, فلو رجعنا إلى قوله: (إنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ…), يدلل على حرية صنع واتخاذ القرار, والمسؤولية المترتبة عليها حتى في خصوصيات المسؤول المنعكسة على سمعة الدولة وقيادتها، وهو دليل على حماية التبعات الخاصة على أنشطة ومستقبل الدولة، والحيلولة دون الوقوع في دائرة الفساد بكل أشكاله، ويعني اللامركزية في الإدارة.
أمّا ما تمثله قوّة المتابعة المتواصلة والرقابة التقويمية للأعمال، في قوله: (فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ), والذي يدلل على أهمية الرقابة (التقويمية) وما يتطلبه من جمع المعلومات للتقييم والتقويم وحماية المجتمع والدولة ومختلف المشاريع القائمة من كل أشكال الفساد الخاص والعام للشخص القيادي، لكونه في سدة الحكم يمثل الدولة وسلوكياتها التنفيذية، ويتحكم برقاب ومشاريع وممتلكات الناس.
ويظهر كيفية توقيت معالجة جانب آخر، ألا وهو الفساد الإداري والمالي (Administrative corruption And Financial) والذي مما يعني هو استغلال النفوذ أو السلطات بغير مسارها الصحيح والقويم, والعمل على تطويع الأنشطة العامة أو الموكل بإدارتها للمصالح الشخصية, وشراء الذمم من أجل المصالح الخاصة، وخصوصاً إذا ما كان على حساب المصالح العامة الآنية أو المستقبلية.
والتوقيت المناسب للحد من الانحراف، يكشفه(عليه السلام) في علاجه السريع لهذا النموذج السلوكي الإداري التي تمّ مواجهته ومعالجته بالحزم دون القوة: (بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ, وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ, فَارْفَعْ إلَيَّ حِسَابَكَ)، وهو يوضِّح العودة لمركزية الحكومة أو الإدارة الحكومية ومحاسبة المُقصِّر في أداءه, وبه تحديد التقصير وتقويم السلوك الإداري (Administrative Behaviour).
وبناء الرقابة الذاتية المبنيّة على وفق بناء نظام الردع الشرعي أو التشريعي لمختلف السلوك التنظيمي للأنشطة, وما يضعه فقه المعاملات، وما يكمِّله من الفقه أو التشريع الإداري والاقتصادي، المتمثِّل في قوله: (وَاعْلَمْ إنَّ حِسَابَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابَ النَّاسِ)، ولا نغفل ما يتضمنه الجانب الردعي في الإسلام، حيث لا يقتصر النظام الرقابي والجزائي على الجزاء الدنيوي، بل يتعداه إلى الجزاء الأخروي.
والجزء الخطر والمهم من المشكلات الإدارية (Administrative Problems) المُعيقة لتقدُّم المشاريع العامة والخاصة، هو الفساد الإداري والمالي، وجزء منها الخيانة، وبهذا كان اتجاه المتابعة والرقابة صوب الوقاية والعلاج، لذا يخاطب(عليه السلام) أحد ولاته:
(أَمَّا بَعْدُ, فَإنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي, وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي, وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ إلَيَّ…)(4).

ويتبيّن من النص المبارك المتقدِّم, بأنّ هناك متطلبات للتعامل مع أسلوب المركزية أو اللامركزية، وما يتطلبه تحمُّل المسؤوليات والصلاحيات، وتفويض الصلاحيات في تنفيذ الأعمال المختلفة, والتي سنقوم بدراستها في دراسة خاصة إن شاء الله.
وهنا يتبين ما أهمية التمهيد لإتباع الأسلوب المركزي واللامركزي في الإدارة، ومنه ما يتحدد بالثقة قبل اختيار النظام، فضلاً عن تحمل المسؤولية بصفة الأمانة، وتفرعها لتكون تضامنية، والاختيار على أساس إشراك في هذه الأمانة، وهو ما يدخل العنصر البشري وسلوكياته ضمن آلية التنفيذ للخطط الجزئية والكلية، وهنا تأتي الثقة أيضاً بالقدرات والإمكانيات والرغبات للمشاركة، بمنظور أداء تلك الأمانة الداعمة للمسؤولية.

وعموماً فإنّ المركزية واللامركزية، أو استخدامهما معاً بمزج إيجابياتهما في تخطيط وتسيير أو تنفيذ الأعمال, ويستمد أبعادة من عدّة أمور يتطلبها العمل, ويتحتّم الأخذ بمنهجيّة الاستخدام الأنسب أو الأفضل من الناحية العلمية والعملية, وبإيجابيات ما يُتوقع من النتائج الآنية والمستقبلية، التكتيكية والإستراتيجية، وبشكل يساعد على حماية الدولة من السلوك الإداري غير المسؤول، لئلا تظهر آفة الفساد الإداري والمالي والسياسي وحتى السلوكي منه أين ما كان ظهوره، أو على أقل تقدير، معالجة الفساد بكل أشكاله لحظة ظهوره لئلا يتفاقم فيكون وبالاً على الدولة والناس أو المجتمع .

نشرت في العدد المزدوج 35-36


(1) للإطلاع بشكل موسّع على موضوع المركزية واللامركزية، راجع على سبيل المثال:
ـ هاشم حسين ناصر المحنك، فلسفة الإدارة المعاصرة والمجتمع، مطبعة القضاء، النجف الأشرف، العراق، 1990، ص67ـ 70.
ـ هاشم حسين ناصر المحنك، الإدارة الأسلوب القيادي في نهج البلاغة،دار أنباء للطباعة والنشر، النجف الأشرف، العراق.
– Johason , Richard A. & Others , «The Theory And Management Of System», 3ed, MegnawHill Book Co., 1973, P: 162 – 163
-Hicks, Herbert G. & Gullett, C. Ray, «Management», 4ed, McGraw- Hill Book Co., New York . 1981.
(2) نهج البلاغة، ص258.
(3) نهج البلاغة، ص412.
(4) نهج البلاغة، ص412.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.