Take a fresh look at your lifestyle.

خصائص الفكر الإسلامي والغربي في موضوع التنمية الاقتصادية

0 521

فلاح شفيع

 

           تتلخص الغاية الأساسية لدراسة علم الاقتصاد وفي ممارسة الأنشطة الاقتصادية في تحقيق زيادة معينة في مستويات الإنتاج من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة في المجتمع وفق طرق وسياسات متعددة، والعمل على توزيع النتاج على الأطراف التي ساهمت في إنتاجه وفق معايير وأسس معينة مقبولة في المجتمع لتحقيق رفاهية أفراد المجتمع.
إنَّ المحاولات الهادفة إلى زيادة الإنتاج يطلق عليها بعملية التنمية الاقتصادية، وهي تمثل المشكلة الأساسية للمجتمعات البشرية في مختلف العصور والأزمان بغرض تحقيق العيش السعيد والطمأنينة لأفراد المجتمع.
تعتبر عملية التنمية الاقتصادية من أكثر الأنشطة السياسية تعقيداً وتشابكاً، فهي تتداخل مع مختلف العلوم ولها ارتباطات مع العديد من الأنشطة الحياتية، فهي تتأثر وتؤثر فيهما.
فدراسة علم الاقتصاد يتطلب المعرفة والاطلاع والتعامل السليم مع عدد من العلوم والأنشطة الحياتية المختلفة.
كما وترتبط عملية التنمية والاقتصادية بعلاقة متينة مع مجمل العقائد السائدة في المجتمع، وهي تتأثر بالحالة الثقافية والسياسية والاجتماعية وبالنماذج والسلوكيات الأخلاقية السائدة في المجتمع، فهي تتناول في آن واحد نشاط الفرد ونشاط مجموع الأفراد داخل المجتمع.
لذلك فإن عملية التنمية يجب أن تنسجم وتتوافق مع القيم والمفاهيم السائدة في المجتمع، ويجب أن لا تتعارض مع الفطرة الإنسانية.
لذلك فإن عملية التنمية لا تتم وفق وظيفة علم الاقتصاد فقط بل تتداخل معها بشكل كبير طبيعة المذهب المعتمد، لذلك يتطلب توضيح وتحديد مدلولات ومميزات كل من العلم والمذهب الاقتصادي وتحديد دور كل واحد منهما في تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.

تعريف علم الاقتصاد
ظهر علم الاقتصاد كعلم مستقل عن علم الاجتماع بحلول منتصف القرن الثامن عشر، بعد أن حصلت تطورات مهمة في الأفكار والمفاهيم الاقتصادية تم بموجبها تحديد الأبعاد الفلسفية والاجتماعية له، حصل ذلك نتيجة الأبحاث والدراسات التي تناولتها المفكرين الاقتصاديين لمعالجة المشاكل وفي تحديد الظواهر الاقتصادية المرتبطة به.
من تعريف علم الاقتصاد بمراحل متعددة عكست المفاهيم السائدة في حينه، فعرفه (آدم سمث) وهو الاقتصادي المعاصر بأنه (علم الثورة) وحصر مفهوم الثروة في السلع المادية فقط. وعرفها الاقتصاديون التقليديون بعلم (المصلحة الشخصية) لكونها تمثل الدافع الوحيد لنشاط الإنسان الاقتصادي في سبيل إشباع حاجاته بأقل التكاليف ولتحقيق الرفاهية المادية باعتبارها الغاية التي يسعى إليها.
في حين عرفه بعض الاقتصاديين المعاصرين بأنه (العلم الذي يدرس عملية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك).
والتعريف المتداول حالياً يعرّف علم الاقتصاد (بعلم الندرة) لأنه يبحث في (كيفية إدارة واستغلال الموارد الاقتصادية النادرة نسبياً والاستخدام الأمثل لوسائل إنتاج السلع والخدمات لإشباع حاجات الأفراد التي تتسع وتنمو باضطراد مستمر ويبحث كذلك بالطريقة التي يتم بموجبها توزيع الناتج الاقتصادي بين المشتركين في العملية الإنتاجية ضمن إطار معين).

المذهب الاقتصادي
المذهب من الناحية الفلسفية عبارة عن مجموع من الآراء والنظريات الفلسفية ارتبطت مع بعضها ارتباطاً منطقياً لتشكل وحدة عضوية متسقة ومتماسكة، وهو يمثل بشكل عام المنهج الذي يشتمل على مجموعة من النظريات والأفكار والمعارف والأسس المراد تطبيقها في الحياة من أجل تحقيق الرفاهية والسعادة والأمن.
واستناداً لذلك يمكن تعريف المذهب الاقتصادي كونه يمثل مجموعة المبادئ والأسس والمفاهيم الاقتصادية التي يتم بموجبها تحديد المنهاج أو الطريقة لتوجيه سلوكيات ونشاطات الأفراد نحو اتجاه معين تحدد الأهداف والغايات الاقتصادية المنشودة يتم بموجبها تحقيق الرفاهية والرخاء والنمو عبر مسيرة الحياة. فعلم الاقتصاد يبين كيف تجري الأحداث والظواهر الاقتصادية في المجتمع، أما المذهب الاقتصادي فإنه يبين كيف تجري الأحداث والظواهر الاقتصادية في المجتمع.
فهناك تفاعل وتداخل وعلاقة متبادلة بين العلم والمذهب.
لذا فإن كثير من المفاهيم والنظريات الاقتصادية العلمية لها قراءات مختلفة باختلاف المذهب الاقتصادي المعتمد.

النمو والتطور الاقتصادي
يمكن تعريف النمو الاقتصادي بأنه يمثل الزيادات الكمية في الإنتاج للأنشطة الاقتصادية، أما التطور فإنه أوسع معنى وشمولاً من النمو يمثل التغيير النوعي في كيفية تحقيق الإنتاج من حيث الوسائل وشكل المؤسسات الإنتاجية ومستوى العلاقات والمستوى الثقافي وكفاءة العاملين ونوعية السلوكيات والأعراف السائدة والتي تحكم العلاقات الإنسانية السائدة بين الأفراد داخل المجتمع.
لذلك فإن العملية التنمية تسعى لتحقيق التطور لتحسين مستوى المعيشة للأفراد داخل المجتمع.
ويصاحب عملية التطور الاقتصادي تغيرات بنيوية في هياكل القطاعات الاقتصادية المختلفة وفي أساليب الإنتاج ينتج عنها تحقيق زيادة مستمرة في الناتج الإجمالي وتوزيع عادل لحصة الفرد منه، حيث يعتبر حصة الفرد من الدخل القومي مؤشر جيد لحصول التطور الاقتصادي.

النظام الاقتصادي
يتكون النظام الاقتصادي من عملية دمج وتطبيق المفاهيم والأفكار الاقتصادية وفق المذهب الاقتصادي المعتمد، (فالنظام الاقتصادي يمثل مجموعة الإجراءات المؤثرة على الاختيار الاقتصادي الذي يستهدف توجيه الموارد نحو الأهداف).
وتتكون هذه الإجراءات من الطرق والأدوات المستخدمة لإدارة العملية الاقتصادية، وتتحدد الوظائف الاقتصادية بالجهة التي تتخذ القرار وكيفية التنسيق بين الوحدات والأنشطة الاقتصادية وفي كيفية وضع أولويات الأهداف والغايات المراد تحقيقها في المجتمع.

التعريف الإسلامي لعلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي

يمكن تعريف علم الاقتصاد في الفكر الإسلامي من اشتقاق كلمة الاقتصاد لغوياً التي تعني (القصد) أي الاستقامة والاعتدال في التصرفات الاقتصادية في حالة الإنفاق والاستثمار والاستهلاك، على مستوى السلوك الفردي وسلوك مجموع أفراد المجتمع.
فعلى المستوى القومي ورد استخدام مفهوم الاقتصاد في منطوق الآية رقم (67) من سورة الفرقان (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، فمفهوم حالة الاعتدال تتحقق من إجراء الموازنة بين الإسراف والتقتير عند ممارسة الأنشطة الاقتصادية.
وتتحقق حالة الاعتدال على المستوى السلوك الشخصي في منطوق الآية رقم (29) من سورة الإسراء: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).
لقد بذلت جهود كبيرة من قبل المفكرين الإسلاميين لتحديد فهم إسلامي خاص للنظريات الاقتصادية، ولكن لتاريخه لم تستطيع تلك الجهود من بلورة نظام اقتصادي متكامل يعالج مختلف المشاكل والأنشطة الاقتصادية بانسجام متناسق.
ولكن على العموم نلاحظ أن الفكر الإسلامي يتضمن وجود تداخل كبير بين النظريات والمفاهيم الاقتصادية بانسجام متناسق.
ولكن على العموم نلاحظ أن الفكر الإسلامي يتضمن وجود تداخل كير بين النظريات والمفاهيم الاقتصادية مع المذهب الاقتصادي، وذلك ناتج من شمولية الفكر الإسلامي ودمجه للمواضيع الاقتصادية مع المواضيع العقائدية والاجتماعية خصوصاً تلك المتعلقة بالعدالة اعتماد على التفسير الفلسفي (لمبدئي العبودية والاستخفاف).
إنَّ المفاهيم التي يتضمنها فلسفة العدالة في الفكر الإسلامي لها دور حاسم في تأثير المذهب الاقتصادي على النظريات العلمية للاقتصاد الإسلامي.
فالنظام الاقتصاد الإسلامي يمثل مجموعة الإجراءات والتطبيقات المذهبية التي يتم بموجبها تحقيق الأهداف الاقتصادية للمجتمع الإسلامي المنشود.
استناداً لذلك فقد حدد الفكر الإسلامي ثلاث أركان تمثل سيرة الإنسان في حياته هي (علاقة الإنسان مع الخالق (سبحانه تعالى) وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وأخيراً علاقة الإنسان مع الطبيعة من ناحية الإنتاج والاستهلاك)، فهذه العلاقات الثلاث تمثل المسيرة التكاملية للإنسان عند ممارسة أنشطته الحياتية.

الخصائص التي تميز كلا النظامين
بعد توضيح المعاني العامة لعلم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي لكلا النظامين بشكل مختصر، سنحاول أدناه توضيح بعض الجوانب التي تميز خصائص كلا النظامين، وهي في الغالب تمثل الاختلاف في التفسير الفلسفي للجوانب العقائدية المعتمدة من قبل مفكري النظامين، حيث نلاحظ في كثير من الأحيان تقارب أو وحدة الوسائل والأهداف المراد تحقيقها ولكنهم يختلفوا في الكيفية والبعد العقائدي لهذه الأهداف والوسائل واختلاف في الأسس الفلسفية المعتمدة لتوزيع الناتج المتحقق.
وذلك كما يلي:
أولاً: العالمية والخصوصية:
إنَّ المقارنة بين الفكرين لا تمثل مقارنة بين منظور خاص بالمسلمين وفكر إنساني عالمي، وإنما هي مقارنة بين خصوصيتان تتنازعان صفة العالمية، تمثل الأولى الفكر الإسلامي المعبر عن رسالة عالمية في الوجه والاتجاه، وتمثل الثانية رؤى ومصالح الفكر الغربي الذي يحاول فرض عالميته بوسائل عديدة.
النموذج الإسلامي مبني على معرفة ممتدة إلى الوحي الإلهي المتجاوز لحدود الزمان والمكان أما النموذج الغربي فإنه مبني على معطيات وإنتاجه متراكمة للعقول البشرية سابقة ومعاصرة، وهي بذلك محدودة بإمكانيات الإنسان العقلية ومحدودة بالزمان والمكان الخاصين
بهما.
فالفكر الإسلامي ذي الطبيعة العالمية طبقاً للمصادر المعرفية له وحسب قواعده الفكرية المستندة على الوحي الإلهي، وضع في إطار الخصوصية، وأصبحت غاياته في الوقت الحالي تسعى للإبقاء على هذه الخصوصية وحفظها من الزوال أو الذوبان أمام التحديات التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة وتطبيقها لمشروعها العولمي الذي يسعى لاحتوائه أو تحجيمه وتذويب خصوصياته وإلغاء دوره العالمي.
أما الفكر الغربي المعبر عن تجربة بشرية منقطعة الصلة والمحددة ضمن إمكانيات العقل البشري وضمن البيئة والتجربة المعاصرة له وضمن ظروفه التاريخية، يسعى لاحتكار صفة العالمية وإضفاء الشرعية لمشروعه في ممارسة هذا الدور، وأكثر من ذلك قام بدور النقد والمحاكمة لتجارب وثقافات المجتمعات البشرية الأخرى ضمن منهجية تعتمد أسس وقواعد ومعايير حددها مسبقاً ليتم بموجبها إجراء النقد والتقييم لها، وهو يسعى لجعل جميع الحضارات البشرية تدور في فلكه، مستفيداً من النجاحات الكبيرة التي حققها في مجالات العلم والتقنية الحديثة.
وبذلك فإنه يهدف إلى تحويل فكره الخصوصي إلى فكر عولمي، وتخصيص الفكر الإسلامي ذي الصفة العالمية.

ثانياً: مصادر المعرفة ونظرية الوجود:
نظرية الوجود في الفكر الإسلامي تعتمد في جوهرها على رؤية للعالم ضمن مبدأ العبودية وما يتبعها من مفاهيم وممارسات، فالإسلامي ينظر إلى الكون بأنه مخلوق إلهي يتم تقديره وتدبيره من قبله وهو عليم فعال لما يريد، والإنسان هو سيد مخلوقات استخلفه الله (سبحانه وتعالى) لهذا الكون وهو معنى بتعمير الأرض والاستفادة من خيراتها المتعددة، وتتضمن فكرة العبودية كون الإنسان عبد مطلق لله أي أنه متحرر من الخضوع لأي أمر أو منهج غير أوامره أو منهاجه الذي شرعه الله (سبحانه وتعالى) له. وتضمنت الشريعة الإسلامية مختلف الأحكام والنظم التي تنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أو مع الطبيعة إضافة لعلاقته مع الله(سبحانه وتعالى)، ضمن مبدئي الثواب والحساب في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وبموجب مبدأ الاستخلاف يتطلب من الإنسان القيام بتنمية هذه الثروات المتاحة لغرض الاستفادة المثلى منها طبقاً للضوابط المحددة في الشريعة وضمن مبدأ التوازن والحفاظ على الدورات الحياتية للمخلوقات لتجديدها.
لذلك فإن الشريعة الإسلامية ضمن مبادئها وأحكامها تنظر لعملية التنمية نظرة تكاملية مستدامة شاملة ومتوازنة لجميع الأنشطة والعوامل المشتركة في العملية التنموية حسب أوزانها النسبية، دون أن تحدث ضرر في أي جانب منها، ويشتمل مفهوم التوازن أبعاد متعددة منها حصة الأجيال المتعاقبة.
أما الرؤية الغربية فإنها بسبب أفكارها المادية تتجاهل مسألة الخلق أو تقف منه موقف الحياد، وتعتمد بدلاً عن ذلك على (مفهوم أن الإنسان موجود لذاته)، واعتمدت لتنظيم علاقاته البينية ومع الطبيعة على قوانين وضعية تعتمد مبدأ البقاء للأصلح، وبموجبها تسود حالة الصراع المصلحي في تنظيم علاقاته الإنسانية سواءًً بين الأفراد داخل المجتمع أو بين المجتمعات العالمية، وفي علاقاته مع الموجودات في الطبيعة، وفق مصالحه الذاتية، واعتبر هذا الأسلوب التنافسي العلة الأساسية الذي تم بموجبها تحقيق مستويات عالية التقدم والتطور في حضارته المعاصرة في مختلف الجوانب خصوصاً الاقتصادية.
لذلك نلاحظ البعد المادي في مفاهيمه الاعتيادية، فنموذج المعرفة لديه تعتمد قيم الصراع والتنافس المادي ذات الأبعاد المحدودة ضمن حياته ووجوده، والتوازن الحاصل في العملية التنموية والنموذج الأخلاقي المعتمد كمظهر لحضارته تتسق مع مفاهيمه المادية التي تهدف لتحقيق المصالح التي يرتئيها.

ثالثاً: التطور الخارجي:
تعتمد الفلسفة الغربية على فكرة تحرك التطور الاجتماعي وحركة التاريخ ضمن مسار تقدمي تطوري صاعد في اتجاه واحد. وإزاء ذلك تحتل المجتمعات الإنسانية مواقع متفاوتة ضمن هذا الخط، فالمجتمع المتقد يحتل موقع الصدارة وتتبعه المجتمعات الأقل تطوراً، فعلى هذا الأساس يكون المجتمع الغربي في القمة وتمثل الحضارة الغربية المعاصرة موضع القائد، ويجب عل المجتمعات والحضارات الأخرى إتباعها والسير على نفس الأسس والمسارات التي اعتمدتها.
إنَّ هذه الأفكار تحولت إلى ظاهرة معتمدة ومنتشرة في الحضارة الغربية واعتمدها المستشرقين وعلماء الأنثرويولوجية وشملت كذلك نماذج التنمية التي يجري تعميم تطبيقها عالمياً.
فالاستشراق اعتمد قاعدة أساسية تقول بأن اتجاه حركة التاريخ بدأت من الشرق واتجهت نحو الغرب وهي بذلك تمثل نهاية التاريخ، وتجلت هذه الأفكار عند كثير من المفكرين الغربيين أشهرهم (فرانسيس فوكوياما) في كتابه الشهير(نهاية التاريخ والرجل الأخير).
وكما وإن علم الأنثريولوجي استبطن هذه الأفكار ضمن تحليلاته، وبموجبها قام بتقسيم شعوب العالم إلى (بربرية ومتقدمة، زراعية وصناعية، خرافية وعقلانية…الخ). وظهرت بموجبها نظرية المراحل التاريخية، التي تبناها ماديين آخرين، مثل ماركس وروستو.
واستناداً لهذه الأفكار اعتبر النموذج الغربي للتنمية النموذج المعياري، يجب على المجتمعات الأخرى الأقل تطوراً الاقتداء به إنْ هي أرادت تحقيق مستويات التقدم في مجتمعاتها، وعليها اعتماد فكرة المراحل لتحقيق هذه الغاية، وعليها الاقتداء بالنموذج والنسق الغربي عند تنفيذ عملية التنمية لديها، وعليها التخلي عن المفاهيم والقيم الحضارية الموجودة لديها وإعادة تشكيل مجتمعاتها كأنها تخلق من جديد.
أما المنظور الإسلامي لحركة التاريخ فإنه يعتمد أسس ومبادئ تعتمد السنن التاريخية ولهذه السنن أشكال متعددة(أشارت إليها الآيات القرآنية)، وهي مقابل لتحليل المادي الديلكتيكي، واعتمد الفكر الإسلامي على مبدئي التكامل والتفاضل الإنساني نحو الرقي وذلك ضمن الشروط والظروف والموضوعية له من الناحية المادية والمعنوية ضمن رؤيا وتحليل عميق تعتمد المكان والزمان عند تحديد حركة التاريخ التي سميت بالحركة الجوهرية للوجود (يتطلب تحليل وتوضيح هذا الموضوع بشكل عميق وشامل بحث تحليلي ليست من اختصاص الباحث).
وتستند تنفيذ العملية التنموية في المنظور الإسلامي على الإمكانيات الذاتية للمجتمع المنسجمة مع المفاهيم العقائدية له، وضمن التطور الطبيعي لإمكانات المجتمع الذاتية وإنمائها، وليس النقل الحرفي لنموذج معين مستورد من الخارج غريب عن القيم والثقافية والعقائدية للمجتمع الإسلامي، لأن مضمون الحضارة في اللغة العربية تنبع من الذات الإنسانية، لا يتم غرسها من خارجها.
وتعني الثقافة في المفهوم الإسلامي بتنمية الفطرة الإنسانية وتشذيبها وتقويم اعوجاجها ثم دفعها لتولد المعاني والمعارف التي يحتاجها الإنسان طبقاً لظروف وحاجات مجتمعه.

رابعاً: من يقوم بمهام التنمية:
تتفق الحضارة الغربية المادية بجانبيها (الاشتراكي والرأسمالي) مع الفكر الإسلامي بوجود دور مهم للدولة في تنفيذ وتوجيه العملية التنموية في المجتمع (يختلف هذا الدور حسب المنطلقات والخلفيات الأيدلوجية لهما)، فالدولة التي تديرها لطبقة البروليتارية يتوسع دور الدولة في جميع مفاصل الحياة لدرجة تحكمها في إدارة وتنفيذ العملية التنموية فيها بشكلاً كامل.
أما الدولة التي يقودها الرأسماليين فإن دور الدولة يتمثل بدور الضامن والحامي لمصالح قوى السوق المتمثلة (بأصحاب الأموال، ونقابات العمال، ومصلحة الضرائب)، إضافة لمهمتهما في حماية ورعاية الموازنات المتعددة لقوى السوق ولمصالح أفراد المجتمع، وتمتد مهمة الحماية إلى خارج الحدود الوطنية لحماية مصالح قوى السوق الوطنية وفق مبدأ التصارع المصلحي.
فالجهة التي تقود تنفيذ عملية التنمية الاقتصادية في النظام الرأسمالي هم رجال الأعمال بالتنسيق مع قوى السوق الأخرى، وذلك حسب الأدوار والوزن النسبي لكلا منهما.
كما وتتميز الحضارة الغربية الرأسمالية بإعطاء دور مهم للمجتمع في تحديد عمليات ومسارات التنمية، وذلك باعتماد صيغ ديمقراطية معينة، وضمن وجود مؤسسات اجتماعية مستقلة أطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني، تمارس هذه المؤسسات دوراً مهماً في توجيه ومراقبة الخطط والسياسات في تحقيق أهدافها أو ضمن عملية الدفاع عن مصالح وأفكار المنتسبين إليها، ويلاحظ أن الأفكار والمفاهيم التي تعتمدها هذه المؤسسات منسجمة مع المفاهيم المادية لحضارتها.
أما المجتمع فإنه لم يوفق من الناحية الفكرية في تحديد النموذج الملائم لدور الدولة أو الجهة التي تقود تنفيذ عملية التنمية الاقتصادية تكون منسجمة مع حضارته وظروف مجتمعه، بسبب عدم توفر الفرص الملائمة للجهة الممثلة حقاً للفكر الإسلامي (عدا ظروف محددة في التاريخ) من قيادة الدولة الإسلامية، وبذلك فلم يتم صياغة نظريات اقتصادية متكاملة تمثل نموذج إسلامي لتنفيذ عمليات التنمية وفق الفكر الإسلامي في الظروف السابقة والحالية.
لذلك فقد اعتمدت المجتمعات الإسلامية الحالية لتنفيذ عملية التنمية في مجتمعاتها على نقل نماذج تنموية غربية (اشتراكية أو رأسمالية) جرى تطبيقها بشكل مشوش لم توفق بموجبها تحقيق تقدم تنموي ملموس في الناتج القومي الإجمالي وفي رفع مستوى معيشة أفراده.
حددت الشريعة الإسلامية ضمن تراث ضخم من الأفكار والآراء الفقهية منحت بموجبها القيادة السياسية للمجتمع دوراً مميزاً وكبيراً في توجيه ومسارات الانفاق والتنمية، وفي حفظ الموازنات والمصالح العامة للمواطنين والدولة دون حصول تجاوز بينهما، يتطلب من القيادة السياسية والمفكرين الاقتصاديين إجهاد أنفسهم في صياغة وبناء نموذج تنموي يتناسب مع القيم والمفاهيم الفكرية المستمدة جذورها من الشريعة الإسلامية.

خامساً: السلوك الاقتصادي للإنسان في المجتمع:
تفق الحضارة الغربية المادية(الرأسمالية والاشتراكية) والحضارة الإسلامية على أن الإنسان هو الهدف والغاية، وهو المحرك للعملية الاقتصادية، ولكنهم يختلفوا في تحديد سلوكه وشخصية وتركيبة هذا الإنسان.
كما يلي:
أ ـ في النظام الرأسمالي:
تفترض النظريات الاقتصادية للنظام الرأسمالي على وجود الإنسان الاقتصادي وتعرفه بكونه ذلك الكائن الذي يسعى بعقله وفطرته لخير نفسه، وحاول
(آدم سمث) تصوير العلاقات الاقتصادية المركبة والمتشابكة كونها مبنية على فكرة الغريزة الاقتصادية المتأصلة في الإنسان التي تجعل منه يتجه دائماً في سلوكه وتصرفه باتجاه البحث عن مصلحته ومنفعته الشخصية.
يتصف الرجل الاقتصادي طبقاً لمفاهيم المذهب الرأسمالي بخصائص مميزة تنبع من نظرته للحياة والكون والآلة والعلاقات المتداخلة بينهما، وذلك كما يلي:
1ـ تتحدد سلوكيات المنتج والمستهلك كونه رجل رشيد يسعى إلى تحقيق أكبر منفعة له بأقل التكاليف الممكنة.
2ـ تحكم ممارسته للأنشطة الاقتصادية إطار الحرية، وإن سلوكيته الاقتصادية تعكس حرية الإنسان وإرادته الحرة في اتخاذ القرارات الاقتصادية وفي تنفيذها.
3ـ تحكم ممارسته للأنشطة الاقتصادية النظرة المادية، وليس للجانب الروحي دور مهم مع وجود نظام أخلاقي متطور.
4ـ المصلحة الشخصية الذاتية هي المحرك الأساسي لممارسة العملية الاقتصادية وهذه المصلحة كفيلة بتحقيق أهدافه الشخصية وأهداف المجتمع في آن واحد.
ب ـ في النظام الاشتراكي:
تحكم سلوكية الإنسان في تصرفاته الاقتصادية سمات وخصائص تتصف بالديناميكية والتغير طبقاً للمقتضيات والعوامل التي تفرضها طبيعة الصراع والتناقض المرير بين أدوات وأشكال الإنتاج من جهة وعلاقات الإنتاج من جهة أخرى.
فالإنسان في كل مرحلة من مراحل التطور نموذج من السلوكيات تميزه وتتجسد بشكل كبير في تحديد سلوكية حياته الاقتصادية والاجتماعية.
ج ـ في النظام الإسلامي:
الإنسان في الفكر الإسلامي(كائن مفكر ومؤمن)، فالمحرك الرئيس لحركة الإنسان الاقتصادية طبقاً لفطرته الإنسانية تتمثل بحبه للخير والسعادة وبغضه للألم والشقاء لنفسه، فيها يتفق النظام الإسلامي والرأسمالي بكون الدافع الذاتي هو المحرك لسلوكيته الاقتصادية، ولكنهم يختلفوا في تحديد مفهوم السعادة والشقاء فالفكر الرأسمالي يحصرها في قيم مادية صرفة في حين يتوسع المضمون في الفكر الإسلامي ليشمل المضمون المادي والروحي في آن واحد وله تفسير معين لمضمون الدافع المادي منسجم مع حركته التكاملية الروحية في الحياة.
استناداً لذلك يمكن تصوير الرجل الاقتصادي في الفكر الإسلامي يتميز بالخصائص التالية:
1ـ الرجل الرشيد الذي يسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من المنفعة المادية والروحية على المستوى الفردي والمجتمع بأقل التكاليف.
2ـ تحكم تصرفاته الاقتصادية الخوف من العقاب والشوق إلى الثواب بانسجام مع فطرته المادية وذلك ضمن مشروع تطور من التربية والتثقيف الإسلامية، لتعزيز إنسانية الإنسان عند ممارسة النشاط الاقتصادي في الإنتاج والاستهلاك.
3ـ تحكم تصرفاته الاقتصادية تطبيق فكرة الاعتدال لا إفراط ولا تفريط واعتماد معايير لتطبيق الرشد في السلوك الاقتصادي.
4ـ اعتماد نموذج للخلاق ينسجم مع ما سبق وطبقاً للقواعد والمفاهيم الإسلامية.
وبخصوص علاقة الفرد مع المجتمع، فقد استند المجتمع الغربي الرأسمالي على مبدأ أساسي هو تعزيز حرية الفرد ضمن مصالح المجتمع لتحقيق العملية التنموية المنشودة، فهي علاقة مادية تعتمد على تحقيق المصالح المشتركة ضمن نموذج أخلاقي خاص بهما، يعتمد هذا النموذج على الأوزان النسبية لقوى السوق مكونة بذلك إطار خاص بها.
تحقق هذا النموذج بعد صراع طويل توصل النظام في نهاية الخط لهذا الإطار والذي يمثل النموذج الاقتصادي المطبق حالياً، ومن خصائص هذا النظام إيفائه بالمتطلبات الإنسانية، قدم بموجبها تجربة إنسانية جديرة بالاحترام وتضمنت خدمات عظيمة في المجال الاجتماعي متمثل بالصرح الكبير من المؤسسات الاجتماعية لخدمة هذا الهدف.
أما الحضارة المادية الاشتراكية فإنها تركز بالدرجة الأولى على تحقيق مصالح المجتمع وتعزيز سلطاته وقدراته على حساب حرية وسلطات الفرد، لاعتقادها بأن مصالح الفرد تتحقق ضمن تعزيز وتعظيم سلطات المجتمع، وذلك ضمن تحليل فلسفي عميق يعتمد التفسير المادي للتاريخ.
لذلك فإن الحضارة الغربية المادية (الرأسمالية والاشتراكية) يقفان موقف النقيضين بخصوص تحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع كما بينا آنفا.
أما الفكر الإسلامي فيمكن أن نلخص نظرته بخصوص علاقة الفرد والمجتمع بأنها تتم وفق (موازنة)، وتتحقق عملية الموازنة من خلال تحديد حقوق ومصالح كل طرف بشكل متوازن طبقاً للأحكام الواردة في الشريعة الإسلامية، وتستند أحكام الشريعة على فكرة الوسطية (التي تعني إعطاء كل عامل وزنه الحقيقي وفق موازين عدل)، ولا يقصد بالوسطية إيجاد توافقية بشكل انتهازي كحل لمشكلة معينة.

سادساً: التوازن في العملية التنموية:
نجحت الحضارة الغربية الرأسمالية في تحقيق التوازن داخل الأنشطة الحياتية للمجتمع، وهي تشمل عملية التوازن المتحققة بين قوى السوق داخل المجتمع، وعملية التوازن المتحققة بين الأنشطة السياسية في مراحلها المتعددة.
فعملية التوازن المتحققة في توزيع الدخل بين الأفراد داخل المجتمع الغربي تمثل انعكاس لعملية التوازن التي استطاع النظام الرأسمالي تحقيقها لضمان بقاءه ولضمان مصالح قوى السوق داخل مجتمعه، مع ضمان مصالح الأفراد الذين هم خارج النشاط الاقتصادي وهم (كبار السن والفقراء والعاطلين عن العمل لأسباب عديدة حيث ضمنت لهم قوانين الضمان الاجتماعي حقوق للعيش الكريم بواسطة مؤسسات اجتماعية ضخمة)، إن عملية التوازن تلك لم تتحقق إلا بعد أن مر النظام الرأسمالي بمراحل متعددة من الصراع الطبقي بين قوى السوق، استطاع في النهاية التوصل إلى الحالة التوافقية للتوازن تضمن مصالح الجميع ضمن مصلحة المجتمع، وتمثل دور الدولة القيام بمهمة الراعي والمحامي لهذه الصيغة التوافقية، وبموجب هذا الاتفاق تم إعداد وصياغة(المفاهيم والأسس الفكرية للحضارة المعاصرة)، فهذه المفاهيم والأسس الفكرية جرى صياغتها بصورة لاحقة أو مترافقة مع هذا الصراع، فهي بذلك منسجمة معه وتمثل انعكاس حقيقي له، وهي لم تعتمد عند صياغتها على أسس فكرية لمبادئ العدالة معتمدة مسبقاً من قبل المجتمع.
أما علاقته الدولية مع المجتمعات العالمية فيحكمها تحقيق المصالح المادية للأطراف الممثلة لقوى السوق الوطنية، ولا نرى تطبيقه الموازنة التي أقرها داخل مجتمعه بل اعتمد بدلاً عنها مبادئ المصالح المادية له، لذلك نرى حالة التصارع في العلاقات الدولية وفق هذه الأسس والمفاهيم المادية.
واستناداً لذلك فإن التوازن الموجود في عناصر عملية التنمية يغلب عليه الهدف الاقتصادي المادي على حساب الأهداف الأخرى (الاجتماعية، البيئة، الثقافية والعسكرية…الخ).
بموجب ذلك برزت مشاكل وأضرار من نوع جديد كنتيجة طبيعية (بسبب النماذج المعتمدة في تحقيق العملية التنموية).
استناداً لذلك ظهرت أصوات لمفكرين من داخل الحضارة الغربية تطالب بمعالجة هذه المشاكل والأضرار الناتجة والمرتبطة بنموذج الحضارة الغربية لعملية التنمية، نشئ عنها نمو وعي واسع شكل عامل ضغط كبير طالب بمعالجة هذه المشاكل وإيجاد الحلول المناسبة لها، انعقدت لأجلها مؤتمرات عالمية متعددة منها على مستوى القمم، تبلور على أثرها تكوين أفكار ومفاهيم لنماذج جديدة ومتطورة لعملية التنمية المتوازنة، لتجاوز المشاكل والسلبيات الناتجة من تنفيذ النماذج التقليدية للتنمية، أطلق على هذه النماذج والمفاهيم الجديدة اسم (التنمية المستدامة).
أما الفكر الإسلامي فإنه يملك حجم كبير من المضامين والأفكار والمبادئ ذات البعد العميق والعلمي في تحقيق التوازن المستندة لمبادئ العدالة، يتطلب تجميعها وصياغتها ضمن نظريات متكاملة ومتراصة، لتكوين مفاهيم متطورة قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة، يتم بموجبها تنفيذ المفاهيم الخاصة بالتنمية المستدامة، إنَّ متطلبات التنمية المستدامة يمكن تحقيقها طبقاً للنموذج المعرفي الإسلامي، لأن مبادئ العدالة والتوازن اللازمة لتحقيق العمليات التنموية ضمن صيغتها المستدامة تنسجم وتتناسق مع المفاهيم الإسلامية، يساعد على تنفيذها التثقيف السليم والمركز لمبدأ عبودية الإنسان لخالقه مما يجعل الإنسان مطيع للأحكام المشرعة طبقاً للشريعة الإسلامية، وليس وفق المصالح المادية الصرفة، كما ويمثل مفهوم خلافة الإنسان في الأرض التخويل الممنوح له من الخالق بعمارة الأرض، حيث تم تسخير جميع موجودات هذا الكون لخدمته وتحقيق هذه الغاية، ضمن مفاهيم وأحكام الشرعية الإسلامية.
من ذلك نستنتج أن نجاح تنفيذ أي عملية تنموية حقيقية تتطلب توفر نوعين من المقومات الأساسية الأولى مادية والثانية معنوية طبقاً للظروف والعوامل السائدة في حينه.
المجموعة الأولى: تمثل مجموعة عناصر الإنتاج المادية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتكنلوجية والطبيعية.
وتمثل المجموعة الثانية: عوامل داخلة في ذاتية الإنسان وتتمثل بمجموعها القيم والمبادئ والمفاهيم الفطرية والمكتسبة التي يعتقد بها الفرد والمجتمع.
إنَّ كلا من المجموعتين لها أهمية متساوية في تحقيق لنجاح في تنفيذ العملية التنموية فالمبادئ والمفاهيم العقائدية تمثل الموجه والمرشد تحكم تصرفات وسلوكيات الأفراد، فيجب أن تكون هذه المفاهيم منسجمة مع طبيعة الإنسان الفطرية ومنسجمة مع التطورات الثقافية الحاصلة، ويتوفر بموجبها قناعة الأفراد بها.
كذلك فإن توفير عناصر الإنتاج المادية بالحجم والنوعية المطلوبين يمثلان عنصر مهم جداً في نجاح أو فشل المشاريع التنموية.
فوجد نظام عقائدي متطور ونموذجي لا يمكن بمفرده تحقيق عملية تنمية حقيقية، ما لم يترافق معه التحضير الجيد لعناصر الإنتاج المادية طبقاً لمتطلبات عملية التنمية المراد تنفيذها .

نشرت في العدد المزدوج 35-36

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.