مقدمة لا بد منها
لا شك أن ثنائية الثقلين من القرآن والعترة الطاهرة من أهل البيت(عليهم السلام) هي إرث الرسالة الذي خلفه رسول الله(صلى الله عليه وآله)
لأمته من بعده، تركها رسول الله لكي تكوّن (منظومة ممانعةٍ) تجاه كل بدعة وضلالة يمكن أن تتسرب إلى مفاصل الجسد الإسلامي الفتي تحصيناً له على الصعيدين الفكري والعملي، وقد ضمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)
لمن تمسك بالثقلين أن يكون بمنجى عن مضلات الفتن وحوازب الدهور التي جرت سنة الله تعالى أن تفتن الناس فتميز الصادق عن الكاذب، والخبيث عن الطيب، وراسخ القدم وثابت العقيدة عن المتذبذب المرتاب.
ومن الطبيعي جداً أن تشغَل هذه الثنائية حيزاً واسعاً من تدابير الخطة الانقلابية التي قادها أئمة الضلال ومن جاء بعدهم من وعاظ السلاطين وفقهاء السوء، فقد حاول الجهاز الانقلابي فك عرى الارتباط العضوي بين مفردتي (الثقلين) حتى يفرغ منظومة الحماية من قدرتها الكاملة في التحصين ورفع مستوى الممانعة الذي لا يمكن أن يكتمل إلا عندما تعمل (ثنائية الثقلين) كوحدة واحدة متكاملة الأهلية، متناسقة العمل. لقد توسل التيار الانقلابي لتحييد منظومة الممانعة النبوية بمجموعة من التدابير كان من أهمها:
أولاً: منع عملية التوثيق النصي الرسمي من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) لوثيقة الحماية عندما قال لهم: (ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما له أهجر! استفهموه!) البخاري 4\66، وتكفل بهذه المهمة الخليفة الثاني (عمر بن الخطاب) لأنه كان أكثرهم جرأة على رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ثانياً: تبنى (أئمة الجور) ومن جاء بعدهم مهمة إزاحة أهل البيت(عليهم السلام) عن قيادة المجتمع الإسلامي بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعزلهم عن الجيل الناشئ في صدر الإسلام الذي فتح عينيه على تقديس (سنة الشيخين) وتقديمها حتى على سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) التي أصدرت السلطات الحاكمة قرارات قاسية بمنع تدوينها وروايتها بحجة عدم اختلاطها بالقرآن الكريم! ولهذا صاح المسلمون (واسنة عمراه) عندما أصدر أمير المؤمنين(عليه السلام) قراراً حكومياً بمنع (صلاة التراويح) جماعة في شهر رمضان سنة 36 هجرية!! شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 12\283.
ثالثاً: سعت السلطات الحاكمة إلى تقريب (طبقة من علماء السوء) ممن شروا دينهم بثمن بخس مقابل عرض زائل وحياة فانية ونعيم لا يدوم، وحظيت هذه الطبقة العلمائية بامتيازات مكنتها من أداء مهمة صعبة استطاعت من خلالها (اختراق) منظومة الحماية (القرآنية) لتسيير بوصلتها الضابطة باتجاه مصلحة السلطة وبعيداً عن الهدف الذي وضعت من أجله.
و في ظل هذه الفوضى والفراغ الفكري نشأت ما تسمى (المدارس التفسيرية) على أكناف مجموعة من الصحابة والتابعين ممن وردوا غير موردهم ونهلوا من الملح الأجاج إما بسبب الفضول العلمي وحب الظهور وتقمص المراتب العلمية أو بغرض التزلف للحاكم ونيل حظوته والتقوي بسيفه المسلط على رقاب المسلمين.
وهكذا خضع القرآن الكريم لأكبر (عملية تحريف) على مستوى (الفكر والمضمون) وهو ما نسميه (تحريف التأويل) أو التحريف في المنهج التفسيري، وقد وقف الأئمة(عليهم السلام) موقفاً متشدداً من هذه المدارس لما شكلته من خطر قد يوازي مسألة إقصاء أهل البيت عن الخلافة فقد روى الشيخ الكليني(رحمه الله) في الكافي 8\311 (عن زيد الشحام قال: دخل قتادة بن دعامة ـ وهو من كبار مفسري تلك الحقبة ـ على أبي جعفر(عليه السلام) فقال: يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال: هكذا يزعمون فقال أبو جعفر(عليه السلام): بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم… فقال أبو جعفر(عليه السلام): ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت… ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به).
النبأ العظيم..
ضحية المناهج التفسيرية
كان لابد من هذه المقدمة للولوج إلى موضوعة (النبأ العظيم) وطريقة تعاطي المناهج التفسيرية معها كمفردة قرآنية تحتاج إلى فك رموزها، وهل كانت المناهج التفسيرية موفقة في طرح رؤيتها لهذا الاصطلاح القرآني؟! وهل يحق لها أصلاً أن تطرح رؤيتها بعيداً عن رؤية أهل البيت (الثقل المكمل لمنظومة الثقلين)؟!
تكرر النبأ العظيم كتركيب لغوي في آيتين من القرآن الكريم:
الأولى: في سورة ص \ 67 – 68: (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون).
وللمفسرين فيه قولان: أولهما: القرآن قاله ابن عباس (ت68)، ومجاهد (ت101)، والجمهور. والثاني: أنه البعث بعد الموت، قاله قتادة (ت112). (زاد المسير لان الجوزي 6\348).
الثانية: في سورة النبأ \ 1 – 3: (عم يتساءلون * عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مختلفون).
وانقسم فيه المفسرون أقوالاً سنذكرها تفصيلاً إن شاء الله.
وفي اللغة قيل: النبأ هو (الخبر الذي له شأن عظيم) الفروق اللغوية لأبي الهلال العسكري 529، وقد اعتمدت المنظومة التفسيرية المخالفة لأهل البيت(عليهم السلام) في تفسير هذه المفردة القرآنية على ملائمة السياق القرآني أو قل ما يفهمه المفسر من السياق القرآني، فإذا كان السياق يتحدث عن (يوم البعث) قالوا: هو يوم البعث! وإذا فهموا من شيء آخر قالوا: شيء آخر ! كما فسروا (أهل البيت) بأزواج النبي لملائمة السياق ! ولا ندري من الذي شرع لهم أن يأخذوا تفسير القرآن من السياق فقط ؟! أنزل به الوحي أم قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله) أم هي بدعة ابتدعوها، وطريقة استحدثوها لمواجهة منظومة القرآن والعترة الطاهرة؟
وفي كل الأحوال لم يسعفهم السياق ليتفقوا على تفسير واحد وسينصب بحثنا على سورة النبأ المباركة لنعرض لتفسير مقارن لمدرسة الخلفاء مع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وعموماً انقسمت آراؤهم في تفسير النبأ العظيم إلى أقوال عدة (انظر: تفسير السمعاني 6\135):
الأول: قال بعضهم: أريد به القرآن: قاله ابن عباس، مجاهد.
الثاني: قال آخرون: عني به البعث: قاله قتادة، الربيع بن أنس (ت139)، أبو العالية البراء (ت190)، كما رجحه أبو الليث السمرقندي (ت383)، والواحدي (ت468).
الثالث: النبوة: قاله الحسن البصري (110)، والزجاج (ت311).
الترقيع في أسباب النزول
لم يذكر مفسرو العامة في طيات الحديث عن هذه السورة وتفسيرها أي رواية منسوبة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) استشهاداً لتقوية هذا القول أو ذاك مما يكشف أنهم أعملوا رأيهم الشخصي في استنطاق القرآن وتفسيره وابتعدوا بذلك عن الطريق الصحيح الذي خطه رسول
الله(صلى الله عليه وآله) بالأخذ بثنائية (القرآن والعترة) وهي الثنائية الضامنة بعدم الوقوع في الزلل والضلال وقد اقتضت الخطة الانقلابية لحكام الجور فصل هذين التركيبين عن بعضهما ليتيح لفقهاء السوء مساحة أوسع من الحركة باتجاه خدمة السلطان ورغباته.
وقد رووا في أسباب نزول هذه السورة المباركة بعض الروايات الركيكة والعامة والمرسلة غير المسندة التي يوحي ظاهرها بوضعها وعدم لياقتها، فمما رووه قول الحسن البصري: (لما بعث النبي(صلى الله عليه وآله) جعلوا يتساءلون بينهم فنزلت: عم يتساءلون عن النبأ العظيم)!! تفسير الرازي 10\3394، فمن هم الذين جعلوا يتساءلون؟ وهل كانت الدعوة علنية أول ما بعث النبي؟ ومن أين سمع الحسن البصري هذا الكلام ؟!
وفي تفسير القرطبي 19\170 (وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت (عم يتساءلون)؟) وهو أيضاً معارض بما مر قبله من أن الدعوة في أول أمرها لم تكن علنية حتى تجلس وتتحدث قريش بأمر القرآن، أضف إليه تعارضها برواية الحسن البصري ومع التعارض تسقط الروايتان معاً ولا أسف عليهما!
مفسرو الشيعة.. وقفة مراجعة
وإذا كان ثمة عتبٌ على مفسري أهل السنة والجماعة فالعتب على مفسري الشيعة أكبر فهم إتباع الثقلين وتلامذة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) العريقة بتراثها الأصيل ومعينها الصافي ومنبعها العذب.
المتتبع لما طرحه المفسرون الشيعة المعاصرون يجد فيه (نسخة تقليدية معدلة) عن الطراز السني في التعاطي مع قضية (النبأ العظيم) وذلك لأسباب ما زالت مجهولة بالنسبة لنا.
وحتى يكون كلامنا موضوعياً نعرض لأقوال ثلاثة من كبار مفسري الشيعة المعاصرين ونناقشها وفق المنهجية التي قدمنا لها في مقدمة الموضوع.
أولاً: السيد الطباطبائي (ت1412) في (الميزان).
يقول السيد الطباطبائي في تفسيره الكبير الميزان 20\159: (والمراد بالنبأ العظيم نبأ البعث والقيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سوره المكية ولا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام. ويؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفه يوم الفصل وما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع).
وهنا اعتمد السيد الطباطبائي(رحمه الله) بشكل فاعل على (منهجية السياق) فكل ما ساق إليه السياق لا بد أن يكون هو التفسير الحق وسبق أن قلنا في مناقشة أقوال مفسري السنة أن لا دليل يقطع بقدسية وأولولية السياق في العمل التفسيري البعيد عن (ثنائية الثقلين) والذي يتعامل مع القرآن كتركيب مفرد بمعزل عن أهل البيت عليهم السلام.
ثم لم يبين السيد(قدس سره) (دليله) على كون سورة النبأ المباركة من (العتائق النازلة في أوائل البعثة) فإذا كان السياق ـ كما هي عادته في تعيين ترتيب السور ـ فقد رجع الدليل مرة أخرى للسياق.
وفي بحثه الروائي يقول السيد الطباطبائي: (في بعض الأخبار أن النبأ العظيم علي(عليه السلام) وهو من الباطن) وسنأتي لبحث معنى التفسير الباطني إن شاء الله تعالى.
ولو سألنا السيد الطباطبائي: كيف كان المشركون مختلفين في نبأ البعث ويوم القيامة والكل مصر على نفيه وإنكاره؟ فسيجيبنا بقوله:
(وقوله: (الذي هم فيه مختلفون) إنما اختلفوا في نحو إنكاره وهم متفقون في نفيه فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله: (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد) سبأ: 7، ومنهم من كان يستبعده فينكره وهو قوله: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون) المؤمنون: 36، ومنهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها) النمل 66، ومنهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عناداً فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد والنبوة وسائر فروع الدين بعد تمام الحجة عناداً قال تعالى: (بل لجوا في عتو ونفور) الملك:21).
وهذا الكلام بعينه هو ما برر به المفسر السني الفخر الرازي (ت606) مسألة اختلاف المشركين فقال في تفسيره 31\3: (هب أنهم كانوا منكرين له لكن لعلهم اختلفوا في كيفية إنكاره، فمنهم من كان ينكره لأنه كان ينكر الصانع المختار، ومنهم من كان ينكره لاعتقاده أن إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها والقادر المختار إنما يكون قادرا على ما يكون ممكنا في نفسه، وهذا هو المراد بقوله: (هم فيه مختلفون))، واستخدام عبارة (لعلهم) تدل أن الرازي نفسه غير مقتنع تماماً بطرحه!
ثانياً: السيد ناصر مكارم شيرازي في (الأمثل).
يقول صاحب الأمثل في تفسيره 19\319: (أورد المفسرون آراء متباينة في المقصود من (النبأ العظيم)، فمنهم من اعتبره إشارة إلى يوم القيامة، ومنهم من قال بأنه إشارة إلى القرآن الكريم، ومنهم من اعتبره إشارة إلى أصول الدين من التوحيد حتى المعاد. وقد فسرته الروايات بالولاية والإمامة… وبنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها، وما ذكرته الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض، وبعد هذا العرض تؤكد إحدى الآيات، إن يوم الفصل كان ميقاتاً ثم مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ (المعاد)، كل ذلك يدعم التفسير الأول القائل: بأن النبأ العظيم هو يوم القيامة).
فهو يتبنى أيضاً التفسير القائل بيوم القيامة ويلمح ـ في مكان آخر ـ أن ما ذكرته الروايات من تفسيره بالولاية هو من تفسير الباطن القرآني ويحاول أن يجمع بين تلك الروايات وبين تفسيره بالمعاد بقوله: ((النبأ العظيم) كمفهوم قرآني ـ مثل سائر المفاهيم القرآنية ـ له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان، وإذا كانت قرائن السورة تدل على أن المقصود منه (المعاد)، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق أخرى).
وهو كلام جميل إلا أن ـ كسابقاته ـ يرسخ منهجية (الفصل العضوي) بين عرى ثنائية الثقلين وتفكيك تراكيبها إلى جزئين منفصلين لا يمكن لكل منهما على انفراد أن يعمل كمنظومة ممانعة فاعلة بمعزل عن الثقل الآخر.
ثالثاً: الشيخ محمد جواد مغنية في (الكاشف).
وفي تفسيره (الكاشف) 7\497 يطرح الشيخ محمد جواد مغنية(رحمه الله) أن المقصود بالنبأ العظيم هي أصول الإسلام الثلاثة فيقول:
(أصول الإسلام ثلاثة: الإيمان بوحدانية الله، ونبوة محمد، وباليوم الآخر، وقوم رسول الله كانوا أبعد الناس عن هذه المبادئ… هذه المبادئ أو الأصول الثلاثة هي (النبأ العظيم) الذي كان المشركون يسأل بعضهم بعضاً عنه).
والقاسم المشترك بين هذه التفاسير الثلاثة أنها لم تشر إلى ما يربط مصطلح (النبأ العظيم) في سورة النبأ المباركة مع قوله تعالى (قال هو نبأ عظيم) التي قراناها في سورة ص كما إنها اعتمدت السياق منهجية متقدمة في تحقيق النتائج التفسيرية، تمايزت هذه المناهج عن التفاسير السنية بجعلها مفهوم الولاية إما تفسيراً باطنا للآية أو تفسيراً ظاهراً يضاف للتفاسير التي قدمتها المجموعة السنية.
أهل البيت(عليهم السلام) وتفسير (النبأ العظيم)
وبعد أن عرضنا بحثاً مقارناً عن منهجيات المدارس التفسيرية في تفسير النبأ العظيم لا بد بنا أن نعود للثقل الثاني في منظومة الثقلين الشريفة فنسأله عن تفسير هذا الاصطلاح القرآني إتباعاً للمسلك الصحيح الذي رسمه النبي الكريم أهل بيت الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وقد ورد في ذلك روايات متضافرة (فسرت) النبأ العظيم بأنه (نبأ أمير المؤمنين(عليه السلام) وولايته) الذي اختلفت فيه قريش ومن بعدها من الأمم، ومن بين تلك المرويات الشريفة:
أولاً: صحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: (قلت له: جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) قال: ذلك إلي إن شئت أخبرتهم وإن شئت لم اخبرهم، ثم قال: لكني أخبرك بتفسيرها، قلت: (عم يتساءلون)؟ قال: فقال: هي في أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول: ما لله عز وجل آية هي أكبر مني ولا لله من نبأ أعظم مني) الكافي 1\3\207.
وتشير هذه الرواية أن النقاش كان حامياً في الأوساط الشيعية حول المعنى الاصطلاحي ﻠـ(النبأ العظيم) وقد قطع الإمام الباقر(عليه السلام) الطريق على تلكم الحوارات مفسراً ذلك النبأ بالولاية واستدل على ذلك برواية عن أمير المؤمنين(عليه السلام) فهي روايتان في رواية واحدة.
ثانياً: في الكافي 1\418: (عن عبد [الرحمن] بن كثير، عن أبي عبد الله(عليه السلام) في قوله تعالى: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم) قال: النبأ العظيم الولاية، وسألته عن قوله: (هنالك الولاية لله الحق) قال: ولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)).
ثالثاً: في الكافي 8\30 في خطبة لأمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (إني النبأ العظيم والصديق الأكبر وعن قليل ستعلمون ما توعدون).
رابعاً: روى الشيخ الصدوق (ت 381) في عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1\9: (عن الحسين بن علي(عليهما السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)
لعلي(عليه السلام): يا علي أنت حجة الله وأنت باب الله وأنت الطريق إلى الله وأنت النبأ العظيم وأنت الصراط المستقيم…).
خامساً: روى الخصيبي (ت334) في الهداية الكبرى ص 92: (قول أمير
المؤمنين(عليه السلام) لعلي بن دراع الأسدي وقد دخل عليه وهو محتب في جامع الكوفة فوقف بين يديه، فقال: قد أرقت مدى ليلتك، فقال له: ما أعلمك يا أمير المؤمنين بأرقي؟ فقال: ذكرتني والله في أرقك، فإن شئت ذكرتك وأخبرتك به، فقال علي بن دراع: أنعم عليَّ يا أمير المؤمنين بذلك، فقال له: ذكرت في ليلتك هذه قول الله (عز وجل): (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون) فأرقك وفكرك فيه وتالله يا علي ما اختلف الملأ إلى بي وما لله نبأ هو أعظم مني، ولي ثلاثمائة اسم، لا يمكن التصريح بها لئلا يكبر على قوم لا يؤمنون بفضل الله (عز وجل) على رسوله وأمير المؤمنين والأئمة الراشدين).
سادساً: روى شرف الدين الحسيني (ت965) في تأويل الآيات 2\758 عن (محمد بن العباس، بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله عز وجل (عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون) قال أبو عبد الله(عليه السلام): كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ما لله نبأ هو أعظم مني، ولقد عرض فضلي على الأمم الماضية باختلاف ألسنتها.
سابعاً: وفي نفس المصدر قال: عن أبان بن تغلب قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون)؟ قال: هو علي(عليه السلام) لان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليس فيه خلاف.
ثامناً: في مناقب ابن شهرآشوب 277: (روى علقمة انه خرج يوم صفين رجل من عسكر الشام وعليه سلاح ومصحف فوقه وهو يقول: عم يتساءلون، فأردت البراز فقال(عليه السلام): مكانك وخرج بنفسه وقال: أتعرف النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟ قال: لا، قال: والله أني أنا النبأ العظيم الذي في اختلفتم وعلى ولايتي تنازعتم وعن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم وببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي نجوتم ويوم غدير قد علمتم ويوم القيامة تعلمون ما علمتم).
تاسعاً: وقال ابن شهرآشوب أيضاً: (وفي رواية الأصبغ: والله إني أنا النبأ العظيم الذي هم مختلفون كلا سيعلمون حين أقف بين الجنة والنار فأقول: هذا لي وهذا لك).
عاشراً: روى المشهدي (ت610) في المزار ص 421 رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)
في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام): (السلام عليك أيها الوصي البر التقي، السلام عليك أيها النبأ العظيم، السلام عليك أيها الصديق الشهيد، السلام عليك أيها البر الزكي، السلام عليك يا وصي رسول رب العالمين).
ولم ينكر مفسرو الشيعة هذه الأحاديث الشريفة المستفيضة المفسرة لمصطلح النبأ العظيم وإنما اعتبروا أنها تشير إلى تفسير الباطن… فما تفسير الباطن الذي عنوه؟!
التفسير الباطني: هو شكل من أشكال التأويل يعطي تفسيراً لا يتفق مع المعنى الظاهري للكلمة.
ومثاله تفسير الإمام الكاظم(عليه السلام) لقوله تعالى: (وبئر معطلة وقصر مشيد) الحج \44 قال: البئر المعطلة الإمام الصامت والقصر المشيد الإمام الناطق. «الكافي 1\427».
فمن حيث (الظاهر) فإن البئر المعطلة: هي بئر معطلة، والقصر المشيد: هو قصر مشيد!! وبالتالي جاء (التفسير الباطني) بمعنى لا يمكن توقعه من الألفاظ الظاهرية للكلمات القرآنية. ويمكن الاستدلال بمجموعة من الأدلة على عدم صحة ما ذهب إليه البعض من تصنيف الروايات المفسرة للنبأ العظيم ضمن خانة التفسير الباطني وكما يلي:
أولاً: لو أسقطنا مفهوم التفسير الباطن الذي قدمناه على مصطلح (النبأ العظيم) لوجدناه من المرونة بمكان بحيث يستوعب في كنفه موضوعة (الولاية) باعتبارها نبأً له شأن عظيم لا يقل أهمية عن التوحيد والإيمان بالقيامة ويوم البعث ونبوة الأنبياء والرسل.. فلماذا قبلوا أن يفسر النبأ العظيم (ظاهراً) في هذه الموضوعات وجعلوه (باطناً) في موضوعة الولاية؟!
ثانياً: إن الإمام الباقر سلام الله عليه عندما فسر (النبأ العظيم) لم يشر إليه باعتباره تفسيراً باطناً كما يفعل أحياناً مع ما سواه من التفاسير بل قال: (لكني أخبرك بتفسيرها).
ثالثاً: إن سورة النبأ صحيح تحدثت عن يوم القيامة ولكنها تحدثت عنه من باب يرتبط بأهل البيت(عليهم السلام) كقوله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) (38) النبأ، يقول الإمام الصادق سلام الله عليه: (نحن والله المأذون لهم في ذلك اليوم والقائلون صواباً) المحاسن 1\183.
رابعاً: إن روايات أهل البيت(عليهم السلام) لم تشر لا تصريحاً ولا تلميحاً لاحتمال وجود تفسير آخر للنبأ العظيم غير التفسير الذي قدمه الأئمة(عليهم السلام).
خامساً: في ما يخص سبب النزول فقد روى العامة عن (تفسير القطان عن وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب قال: أقبل [أبو سفيان] صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد هذا الأمر بعدك لنا أم لمن؟ قال: يا صخر! الأمر بعدي لمن هو بمنزلة هارون من موسى، قال: فأنزل الله تعالى (عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون) منهم المصدق بولايته وخلافته، ومنهم المكذب بهما، ثم قال: كلا ورد هو عليهم سيعلمون خلافته بعدك أنها حق ثم كلا سيعلمون، ويقول: يعرفون ولايته وخلافته إذ يُسألون عنها في قبورهم فلا يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألانه عن الولاية لأمير المؤمنين بعد الموت يقولان للميت من ربك وما دينك ومن نبيك ومن إمامك) رواه ابن شهر آشوب في مناقبه 2\276، والحسيني في تأويل الآيات 2\758 والسيد هاشم البحراني في البرهان 8\195 وآخرون.
وهذا الخبر مقبول ومعقول من الناحية التاريخية فلقد كان السؤال عن ولاية الأمر بعد رسول(صلى الله عليه وآله) يشكل نقطة المحك لدى رؤساء القبائل وأصحاب النفوذ والسطلة في مكة والجزيرة الذين رأوا في نبوة محمد بن عبد الله الهاشمي خطراً يهدد عروش المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال ويقطع يد الاستعباد التي كانت تمارسها القياديات القرشية الظالمة وبالتالي فالمعركة في نظرهم هي (معركة صراع الإرادات) ولو وعدهم رسول
الله(صلى الله عليه وآله) بشيء من الأمر من بعده لرأيتهم يدخلون في دين الله طمعاً كما دخلوه بعد فتح مكة تحت سطوة السيف وقهر الهزيمة!!
وبعد هذا، لا نستغرب أبداً أن ينعقد القرار الأموي المتحالف مع بعض البيوتات القرشية على إضمار العداء لأمير المؤمنين(عليه السلام) ولأهل بيته من بعده والتعاطي مع مسالة ولاية الأمر بعد رسول الله كمغنم يتقاسمه رجال القوم فيفضي به كل إلى صاحبه حتى آل الأمر إلى بني أمية فأرجعوا الأمر جاهلية ثانية حتى قال قائلهم:
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
إننا ندعو كل المثقفين وأصحاب الأقلام والمؤسسات العلمية والدينية الشيعية إلى إزالة الرواسب التي يمكن أن تكون قد علقت بالأدبيات الشيعية من هنا أو هناك نتيجة للتأثير المتبادل بين المذاهب الإسلامية وحالة التلاقح الفكري التي كانت وما زالت قائمة بين المدرستين ففيما بسط الله لنا من نعمة محمد وآل محمد وهدايتهم غنى عن كل ما سواهم مع تسجيل احترامنا لكل من يخالفنا الطرح الذي طرحناه فإن الحالة الشيعية ليس منغلقة على نفسها بل تعيش هامشاً واسعاً من الرأي والرأي الآخر الذي يمكّنني وأمثالي أن نطرح وجهة نظرنا أمام الآخرين.