Take a fresh look at your lifestyle.

التوجيه المبرمج لوسائل الإعلام

0 792

           يعيش الإنسان مذ خلق البشرية متأثرًا بما يحيط به من البيئة الخارجية ومؤثرًا فيها، وتشكل وسائل الإعلام بيئة أساسية تحيط بالفرد، ويحصل التأثر والتأثير بين الإعلام وبين الإنسان، بصور فاعلة ومتداخلة، حتى ليكاد يصعب الفصل بين تأثير طرف منهما على الطرف الآخر، فالإنسان هو صانع الإعلام، وهو منتجه ومبدعه، وهو متلقيه، في الوقت ذاته،

            فإن الإعلام هو صانع لثقافة الناس، ومرشد لتوجهاتهم في شتى مجالات الحياة، وأضحى صعبًا أن يتخلى إنسان العصر الحديث عن متابعة الإعلام بصرف النظر عن محل سكناه أو إقامته بفضل منتجات العصر الحديث ومكتسباته الإلكترونية والفضائية.

           وفي ضوء ذلك يصح القول إن الإعلام يصنع شخصية الفرد ويمنحها أنماطًا سلوكية مختلفة، وللإعلام القدرة على توجيه الناس لأي صوب ولأي تنظيم.

           ومع تطور الحركة الصاعدة للمجتمعات الإنسانية (نتيجة تطور الصناعة وتطور الفكر الإنساني وتوالي المبتكرات العلمية)، والانفتاح العالمي على الحياة، تطورت طرائق الإعلام ووسائله التي تقوم بنقل الأفكار والآراء والثقافات والمعلومات والبرامج والاتجاهات، وبفعلها يحصل التأثير في جمهور المتلقين سلبًا أو إيجابًا،

            وكثيرًا ما يؤدلج ذلك التأثير برامج التنشئة الاجتماعية وسلوك الفرد، وبخاصة الأطفال والشباب، بما فيها السلوكيات المنحرفة التي لا تمت لمجتمعاتهم بصلة، فهم معرضون للتأثر بسلوكيات غير سوية أكثر من غيرهم، ذلك لأن تلك الفئات العمرية ما زالت في طور استقبال التعلم، ومازال عودها رقيقًا إزاء استقبال الأفكار، فهي ليست قادرة على التمييز بين الغث والسمين وبين الجيد والرديء وبين الحلال والحرام، لاسيما أن هذه الأعمار تتوق دائمًا إلى الرغبة في بناء شخصية مستقلة، غالبًا ما تكون قائمة على التمرد.

          وهذا التواجد الكلي لوسائل الإعلام وقدرتها على التأثير في عقول الأفراد ووجدانهم وسلوكياتهم أدى إلى القيام بدراسات وعلى امتداد السبعين سنة الماضية، وقد تضمنت مجالات متنوعة كالحملات الانتخابية ونشر الاستحداثات وتصوير العنف والشبقية والعنصرية والنساء وفي مجالات الصحة والتنمية السياسية والاقتصادية وقضايا الهوية والقيم في البلدان الانتقالية في مراحل المتقدمة نسبيًا وتأثير وسائل الإعلام الإيجابي والسلبي على حد سواء.

          ومن هنا تندرج إشكالية دراستنا التي تتمحور حول مدى أثر وسائل الإعلام على القيم والسلوكيات لدى الفرد والمجتمع، وقبل الخوض في الدراسة لابد من تعريف السلوك، فهو (حصيلة للتنشئة الاجتماعية عبر قنواتها المختلفة والتي يمر بها الطفل داخل الأسرة، فيكتسب من خلالها سلوكًا اجتماعيًا يساعد على التفاعل مع أفراد أسرته ويتعلم أول ما يتعلم وسائل الاستجابة لغيرهِ من الأفراد من خلال إشباعه لحاجاته الحيوية وتتكون لديه فكرة ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه، قبل أن يكون قادرًا على الكلام)(1).

           وهناك تعريف آخر للسلوك الاجتماعي أورده عالم الاجتماع (ماكس فيبر)، وينص على أن السلوك الاجتماعي يعني أي حركة أو فعالية مقصودة يقوم بها الفرد وتأخذ بعين الاعتبار وجود أفراد الأُسرة الآخرين، وقد يكون سببها البيئة أو الأحداث التي تقع عليها، أو الاشخاص الذين يلازمون الفعل الاجتماعي Social Actor الذي يقوم بعملية الحدث أو السلوك(2).

             كما ورد مصطلح السلوك ليدل على أي نشاط يقوم به الكائن الحي. أو أي حركة تصدر عن الأشياء مثل قيام الحيوان بالبحث عن الطعام أو انشغال الطفل باللعب أو سير السفينة في المحيط(3).

            كما ذكر مفهوم السلوك ليدل على فعاليات ذات أسباب ونتائج محددة، إذ أن لكل ممارسة سببًا أو مجموعة أسباب تلزم الفرد على السلوك والحركة(4).

              وقد ورد أيضًا مفهوم السلوك ليدل على اندفاع الشخص نحو القيام بعمل أو فعالية تخدم أغراضه وتشبع حاجاته(5).

           ومن مجمل ما تقدم نستطيع أن نعرف السلوك الاجتماعي على أنه جميع المهام والواجبات التي ينبغي أن يمارسها الفرد أو أي نشاط هادف يؤديه الفرد من خلال الأدوار والمراكز التي يحتلها في المجتمع. ويكون مقبولًا من الأفراد في بيئته ومحيطه متأثرًا في ذلك بعوامل وقنوات التنشئة الاجتماعية وأبرزها وسائل الإعلام.

            ولابد لعملية التفاعل أن تأتي من قناة أو وسيلة لتحدث الأثر المطلوب، أو بكلام آخر: لابد من (اتصال) لإتمام عملية التفاعل. وتعد عملية التنشئة الاجتماعية التي تحدث من خلال وسائل الاتصال إحدى الوظائف المهمة التي تقوم بها تلك الوسائل. وقد وردت في قاموس (لاساويل) بمعنى الترابط بين أفراد المجتمع في الاستجابة للبيئة (Environment)(6)، وتشتمل عملية التنشئة على تفسير وتحليل الأحداث في البيئة وتوجيه السلوك كرد فعل لهذه الأحداث(7).

            إن أهم ما يميز الدور الإيجابي لعملية الاتصال في أطر التنشئة الاجتماعية ومستوياتها في أي مجتمع، يتمثل في قيام تلك الوسائل بإرشاد الأفراد إلى التعامل الذكي الواعي مع وسائل الإعلام (صحافة، وإذاعة، وتلفزيون) بحيث لا يقبلون ولا يعتقدون بما تقدمه لهم وسائل الدعاية دائماً، بل يتفاعلون معها بعقلية راشدة وأفكار واعية.

          وقد أشار إلى ذلك (البرت شرام) عندما ذكر أن لوسائل الاتصال مثل التلفزيون دورًا مهمًا في تنسيق الفهم العام والإدارة العامة والتحكم الاجتماعي(8). أما إذا أراد أحد ما أن يثير معركة حول أجهزة الاتصال فما عليه إلّا أن يستعرض تأثيرها الاجتماعي.

             ونظراً لأهمية التوجيه المبرمج لوسائل الإعلام ومدى أثره في سلوك الفرد والمجتمع، فإن وسائل الإعلام تدرّ ملايين الدولارات أرباحًا لها سنويًا وهي تستخدم أساليب الاتصال الجماهيري لإحداث تغيير مقصود في سلوك الأفراد على مستوى التفكير والاتجاهات إضافة إلى زيادة وتحسين نوعية وكمية المعلومات لدى الأفراد والجماعات(9)، وهو هدف أي عملية تأثير تقوم أو تحاول أن تقوم بها وسيلة إعلامية معينة.

           وتلك التأثيرات التي تحدثها وسائل الإعلام تقسم إلى تأثيرات كامنة وتأثيرات ظاهرة. كما أن هناك تأثيرات مباشرة وأخرى غير مباشرة، أي (التأثير على المدى الطويل)، ونعني بالنوع الأول ؛: الاعتقاد بأن لوسائل الاتصال الجماهيرية تأثيرات مباشرة وفعالة وهي شبيهة بتأثير الرصاصة السحرية.

            ونعني بذلك أن الأفكار والمشاعر تنتقل إلينا من المرسل دون قيود، وتحدث آثارها بشكل أكيد؛ سلبًا أو ايجابًا. لكن الأبحاث العلمية أخيرًا دحضت هذه النظرية، إذ اتضح أن الأفراد لا يتلقون الأفكار بشكل تلقائي بل أنهم ينتقدون ويرفضون أو يقبلون(10). وهذا يعود طبقًا إلى اتساع ساحة الاتصال بين الأفراد ووجود البديل الثقافي والاجتماعي وتزايد الكم المعرفي والفكري والعلمي لشرائح اجتماعية لا حصر لها(11).

أما النوع الثاني : فهو التأثير غير المباشر، ويعني: أن تأثير أجهزة الإعلام في الجمهور تحتاج إلى مدة طويلة كي تظهر أثارها، من خلال عملية تراكمية تقوم على أساس التغيير في الاتجاهات والمواقف(12)، لأن الإنسان يحتاج إلى فترة زمنية طويلة ليتمكن من تغيير أو تعديل نمط حياته، أو أسلوب ونوعية تفكيره. وهذا التغيير لا يحدث إلّا من خلال التعرض لمصادر معلومات تختلف عن تلك التي نشأ عليها وتربى في مرحلة الطفولة المبكرة. وهو ما حققته وسائل الإعلام الموجهة كمصدر من مصادر المعلومات.

              يختلف في الكثير من الأحيان عما هو سائد في المدرسة والأسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى(13).

           لقد أصبح للإعلام في الوقت الحاضر فاعلية مهمة في صياغة ثقافة الأفراد والمجتمعات لأنه أصبح أداة التوجيه الأولى، إذ تراجع أمامها دور الأسرة وتقلص دونها دور التربية في المدارس، والجامعات، وبذلك فقد أصبحت كل مؤسسات التعليم والمعرفة في قبضة وسائل الإعلام تتحكم فيها توجيهًا للأدوار ورسمًا للمسار، ولما كان التلفزيون يقوم بتقديم المادة المرئية والمسموعة والمقروءة أيضا كان أكثر وسائل الإعلام تغييرًا وأعظمها تأثيرًا(14).

           وبهذا تكون وسائل الإعلام قد أثرت بصورة كبيرة في الفرد وبناء سلوكه، فأصبحت بديلاً لأولياء الأمور من آباء ومدارس، لأنها تغريه بقربها، وبتلبية رغباته النفسية، حتى أمست صديقة حميمة للناس، لا يقوون على فراقها مع توفر الإنترنيت، وهذا أدى إلى ظهور التفكك الأسري واكتساب سلوكيات غير صحيحة وبث السلوك العدواني سواء العدوان المادي أو اللفظي أو التمرد على الأسرة والانحراف الديني والأخلاقي.

           وبغياب الرقابة والحصانة من قبل الأسرة بالمرتبة الأولى والدولة بالمرتبة الثانية انتشرت حالات وسلوكيات غير سوية منها تعاطي المخدرات والقتل والتحرش الجنسي، إذ تعمد أغلب وسائل الإعلام إلى رسم صورة شخصية أسطورية خيالية لأفراد العصابات وما تمتلكها من نفوذ وقوة تحببها لدى المتلقي، وتصور العلاقات الجنسية بين الطرفين على أنها ثقافة.

            وهو أمر دفع كثيرًا من الناس وخصوصًا الشباب إلى التخلي عن أصول عقيدتهم ودينهم، وأصبح الدين والانتماء الديني يمثل تقليدًا قديمًا في أذهانهم، لابد من التمرد عليه والتجرد منه والإقبال على كل ما هو جديد والانغماس في المحاكاة والتقليد لما هو وافد من تلك الثقافات التي يروج لها الإعلام الحديث للنيل من المجتمع والشباب لأنهم يمثلون الصرح الأساسي لبناء الأمم، فبدون وجودهم لا صلاح للمجتمع.

            إن تواجد وسائل الإعلام والانفتاح العالمي في المجتمع الجديد أدى إلى عزلة الفرد وانطوائه وجعله طريدة سهلة للمتلاعبين بالعقول عن طريق وسائل الإعلام لأنه – الفرد – لم يعد يجد له تجذرًا في شبكة العلاقات الأسرية والاجتماعية المحيطة به التي يفترض أنها ذات قيم متوازية وتتميز بالاستقرار،

            الأمر الذي أدى إلى ظهور عمليات غسيل مخ لأفراد المجتمع وخصوصًا فئة المراهقين والشباب، وخير مثال على ذلك ما تبثه المنظمات الإرهابية (تنظيم القاعدة، داعش، وغيرها..)

             حيث عملت على بث أفكارها وثقافتها عبر وسائل الإعلام والتي تعد رصاصات كلامية تخترق بعمق عقول ضحاياها من كافة الدول وخاصة النامية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) السلوك الاجتماعي للفرد / د. يوسف مصطفى القاضي / ص 16.
(2) دواء الفكر الاجتماعي /الدكتور احسان محمد الحسن /ص 293.
(3) سيكولوجية الطفولة والمراهقة/ د. مصطفى فهمي /ص 154.
(4) Weber Max ، The Theory of Social and economic organization ، New York ، 1969، p. 25.
(5) الأبعاد الأساسية للشخصية/ د. أحمد محمد عبد الخالق /ص 29.
(6) وسائل الإعلام والتنمية الاجتماعية/شاهيناز طلعت /ص 79.
(7) المصدر نفسه.
(8) المصدر نفسه، ص 12.
(9) الاتصال الجماهيري في المنظور الجديد/ د. هادي نعمان الهيتي/ ص 65.
(10) أدب الأطفال: فلسفته، فنونه، وسائطه/ د. هادي نعمان الهيتي/ص 354.
(١1) الإنترنت، جريدة الحوادث، قضية للمناقشة، العدد 462، 2001م.
(١٢) العنف وبرامج الأطفال التلفزيونية/ د. أسيل عبد اللطيف السامرائي /ص 31.
(١٣) كيف تؤثر وسائل الإعلام/ محمد بن عبد الرحمن الحضيف/ص18.
(١٤) الإنترنت، نزار محمد عثمان، الرسوم المتحركة وأثرها على تنشئة الأفراد، 17/1/2004، ص 1.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.