Take a fresh look at your lifestyle.

تمـام الحج.. لقـاء الإمـام

0 623

السيد علاء الموسوي
أستاذ في الحوزة العلمية

 

           من يتصفح روايات الحج سيجد واضحاً أن حكمة من الحكم الأساسية لهذه العبادة الهامة ..هي تعبيد الناس وتذليل نفوسهم بين يدي الخالق عز وجل، من خلال الشعائر التي قد يصعب فهم مغزاها على الكثير من الناس، وكأن الشارع المقدس أراد لهم أن يعبدوه بما لا يدركون مغزاه بشكل كامل حتى يستخرج من نفوسهم الكِبْر والأنفة، ويركز فيها حالة التسليم. (فالإسلام هو التسليم).
إن المحاولات المبذولة لتفسير العبادات والالتزامات الشرعية والأحكام العملية والوضعية وبيان مغزاها قد لا يصل أكثرها إلى نتيجة قطعية، على أن بعضها الآخر قد يكون واضح المغزى، إلاّ أنّ القارئ لمجموع أحكام الإسلام وقوانينه يجد أن الالتزام بها والإيمان بمصدرها لا بد أن يقترن بالتسليم. وهو يعني الاستسلام لتلك الأحكام الصادرة من الشارع المقدس دون نقاش ولا تردد حتى وإن خفي فيها وجه الحكمة ووجه الفائدة. إن هذا هو مقتضى العبودية الحقّة التي تجب على العبد إزاء خالقه.
وأمّا التمنع من الالتزام بأحكام الشريعة أو التهرب من بعضها بحجة عدم وضوح حكمتها وخفاء مغزاها فهذا هو مقتضى (الشِّرْكة) لا (العبودية).
فإن الشريك له حق في أن يناقش شريكه ولا ينصاع لأوامره وأحكامه حتى يفهم جيداً دوافع تلك الاحكام ويقتنع تماماً بالمغزى والحكمة والفائدة المرجوة منها .
وأمّا العبد الذي آمَنَ سلفاً بالخالق.. وآمن بحكمته وعلمه وعدله ورأفته ورحمته… وعلم أنّه مملوك لا مالك. وتأكد أن تلك الأحكام صادرة عن الخالق بشكل قطعي.. وأنّها تتضمن حكماً وفوائد قد يدركها وقد لا يدركها. هذا العبد لن يفي لمولاه بحق العبودية إلاّ مع التسليم له والانصياع لأوامره.. سواء ما فهم منها وما لم يفهم… ما أدرك مغزاه وما لم يدرك.
إنّ شعائر الحج وما تحتويه من أعمال محددة زماناً ومكاناً وممارسات غير معتادة ابتداءً من الملبس وحتى الهرولة في السعي، والمكوث في منى وغيرها من الرمي وأمثاله.. كل ذلك يؤكد العبودية لله تعالى ويبعد الحاج عن أوهام (الشراكة) ووهم (أنّه يجب أن يفهم قبل أن يعمل).. و(أن يدرك مغزى كل صغيرة وكبيرة قبل أن يقدم عليها)..
فإن كثيراً من تلك الشعائر المقدسة مما لا يمكن لنا أن ندرك مغزاه بشكل قطعي سوى العبودية والالتزام والتسليم لله تبارك وتعالى، وسوى أن يكون الله تعالى قد أراد منا ذلك وكفى. مع علمنا الإجمالي بالطبع أن وراء كل حكم وكل شعيرة مصلحة وفائدة تعود على العامل بها.
لكننا لن ننتظر حتى يتضح لنا وجه الفائدة. بل سنقدم على الالتزام بتلك الأعمال تسليماً وانقياداً. وهذه الخاصية في عمل المسلم وهي ميزة التسليم مما يعد ميزة يتفوق فيها على أي عمل آخر لا تسليم فيه.
ولو فرض أن أحكام الشريعة عامة كانت واضحة المغزى للإنسان بشكل كامل لما عاد للتسليم والخضوع وجود في أعمالنا (فلا ورَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بينَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيٍْتَ ويُسلِّمُوا تَسْلِيما)(1).
وذلك لأن الإنسان حينذاك قد يعمل واثقا بالفائدة المترتبة على العمل طالبا لتلك الفائدة وقاصدا للمنافع الحاصلة من العمل بغض النظر عن روح الامتثال التي تكون في الطاعات , وبعيدا عن العبودية التي تلازم التسليم والخضوع . فيكون العمل أقرب إلى العمل النفعي الدنيوي , لا العبادي الروحاني.
إنّنا إذ نقدم على المشاعر المقدسة.. نترك وراء ظهورنا الكثير من البهارج والعناوين والاعتبارات. فالمنزلة الاجتماعية والمراتب العلمية والقدرات المالية والسياسية وغير ذلك مما يحيط الإنسان به نفسه من عناوين وألقاب وهالات حقيقية أو مزيفة.. كل ذلك يعد حائلاً دون حقيقة العبودية لا يزيله إلاّ حالة التسليم المطلق التي نجدها في الحج والعبودية الناتجة من الالتزام بالعمل لأن الله أمر به وأراده بغض النظر عن منافعه المحسوسة. وما أجمل ما وصف به أمير المؤمنين عليه السلام حال الناس في الحج بقوله(عليه السلام):
(ألا ترون أن الله سبحانه وتعالى اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً وأقل نتائق الدنيا مدراً وأضيق بطون الأودية قطراً بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة وقرى منقطعة. لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف. ثم أمر آدم(عليه السلام) وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار مثابة لمنتجع أسفارهم وغاية لملقى رحالهم تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة وجزائر بحار منقطعة. حتى يهزوا منكبهم ذللاً. يهللون لله حوله ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم وشوهوا باعفاء الشعور محاسن خلقهم ابتلاء عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً وتمحيصاً بليغاً جعله الله سبباً لرحمته ووصلة إلى جنته ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وأنهار وسهل وقرار جم الأشجار داني الثمار ملتف البنى متصل الثرى، بين برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ولنفى معتلج الريب من الناس ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بألوان المَجَاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للكبر من قلوبهم وإسكاناً للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله وأسباباً ذللاً لعفوه)(2).

تمام الحج
ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام): (تمام الحج لقاء الإمام).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إذا حجّ أحدكم فليختم حجه بزيارتنا لأنّ ذلك من تمام الحج).
وعن الإمام الباقر(عليه السلام): (إنّما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيتطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولائهم ويعرضوا علينا نصرتهم)(3).
وإذا كان الحج تعبيداً للناس فإن التعريج على الأئمة(عليهم السلام) والإقرار لهم بالإمامة وفرض الطاعة هو من تمام تلك العبودية؛ لأنّ الله تعالى رسم الطريق إلى مرضاته وعيّن طرائق عبادته، ولم يرض لعباده أن يعبدوه بطرائق مبتدعة وأساليب مخترعة ولم يرض لهم أن يسلكوا إليه من غير الطريق الذي حدده لهم. وقد حاول إبليس ذلك فقال: اعفني يا ربّ من السجود لآدم وأعبدك بعدها عبادة لا يعبدك بها أحد. فقال تعالى: اخسأ فإنّي إنّما أُطاع من حيث أريد لا من حيث تريد
وإذا كان الخضوع لآدم(عليه السلام) هو شرط قبول العبودية من الملائكة فإن الخضوع لحجج الله هو شرط تمام الحج وثمراته من تسليم وخضوع وإخبات.
إنّ خضوع البشر لبشر مثله يشاكله في ظاهره ويماثله في أطواره ويحاكيه في جملة أحواله، لهو أمر في غاية العُسر والصعوبة.. وهو اختبار حقيقي للطاعة والتسليم وذلك لما جُبل عليه البشر من حسد ومنافرة وتعصب وتكبر.
فإذا استعد هذا الإنسان للهرولة ذليلاً بين الصفا والمروة، وتحمل شدائد المناسك طاعةً وخضوعاً، وطلباً للثواب وخوفاً من الوعيد بالعقاب.. فإن عليه الآن أن يُتم امتحانه بالخضوع والطاعة والتسليم لحجج الله على خلقه، الذين جعل طاعتهم ذروة الامتحان وغاية الاختبار. فرُبّ متدين بصلاة وصيام ومتعبد بأنواع العبادات.. يأنف من متابعة الإمام وينكر فرض طاعته ويحتال للتهرب من هيمنته.
فكان على الحاج وقد أنهى اختبار عبوديته في المناسك وختم امتحان تسليمه في المشاعر أن يتم كل ذلك باختبار نهائي يُظهر فيه تمام تسليمه وكمال طاعته للمولى عز وجل.. بإظهار الخضوع لإمامة من فرض الله إمامته وطاعة من رتب الله طاعته.
وما أكثر الضجيج وأقل الحجيج.. الذين اقتصروا على الهرولة والطواف والحلق والهدي.. ولم يُتموا ذلك كله بالتعريج على من اختاره الله واصطفاه وفرض على الخلق طاعته ورضاه .

نشرت في العدد 33


(1) سورة النساء: 65.
(2) نهج البلاغة الخطبة 192.
(3) وسائل الشيعة ج1 ص252 باب2.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.