مما لاشك فيه أن الإسلام دين التسامح والعدالة وفيه تسود روح التآخي فمنذ أن رفع القرآن شعار (لا إكراه في الدين). تنوعت الدراسات والبحوث التي سلطت الضوء على الإسلام وعلاقة المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى خصوصاً أولئك الذين يعيشون في مجتمع واحد تسوده كلمة الإسلام أو عموماً بالنسبة للغربيين الذين يسمعون عن الإسلام كدين يعتنقه كمّ هائل يشكل نسبة عالية من شعوب الأرض.
وكان مدار هذه الدراسات لا يخرج عن نطاق التعريف بحقيقة الإسلام وشريعته السمحاء في حين نهجت دراسات أخرى نهجاً آخراً، محاولة النيل منه وشجب تعاليمه والتنديد بمبادئه باعتباره ديناً قام على السيف وبذا فقد خرجت بمحصلة من ذلك كله مفادها أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع العنف الدموي تسوده حياة البداوة المبنية على سفك الدماء والسلب والنهب وهذه الدراسات بالذات تبنتها سياسات الدول الغربية لتبين لشعوبها وتبرر فعل الاحتلال للدول الإسلامية الذي ما انفكت ترزح تحت وطئته لمئات السنين.
اليوم يقف العالم الغربي بأكمله يراقب المسلمين ويحذر من أفعالهم وكلما ظهر في الأفق الغربي من أعمال شغب أو قتل كان المسلمون أول من يُتهم وأول من يُساءل وتدور حوله الشبهات، وقد يحكم عليهم بالجرم قبل أن توجه إليهم أصابع الاتهام وكأنما أصبحت ثنائية العنف ـ الإسلام متلازمة اصطلاحية واحدة لا يكاد المسلمون تهشيم أواصرها مهما أبدوا من تصريحات وبيانات تشير إلى أنهم بعيدون كل البعد عن العنف وأنهم يدعون إلى مجتمع السلام، وهنا ينبغي علينا التوقف عند سؤال يثير الاستفهام وهو لماذا ينظر الغرب إلى المسلمين بهذا المنظار؟ ومن المسئول عن توجيه عقلية الإنسان الغربي نحو بغض المسلمين؟ سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة ضمن محورين:
أولاً: محاولات المستشرقين الذين اعتنوا بدراسة الإسلام تعميم النظرة الخاطئة اتجاه المسلمين.
ثانياً: تاريخ الإسلام الذي كُتب بطريقة تبين وجهة نظر فرقة دون أخرى والتي عممت ما تبنته كصورة شاملة للإسلام دون النظر لرأي وحقيقة الفرقة الثانية.
المحور الأول:
الاستشراق طلب علوم الشرق ولغاتهم وهي لفظة مولدة عصرية من الفعل استشرق ويقال لمن يعنى بذلك من علماء الغرب والمستشرق هو عالم متمكن من المعارف الخاصة بالشرق ولغاته وآدابه(1).
وقد مارس المستشرقون على طول التاريخ أدواراً خطيرة حاولوا فيها رصد التقدم الذي أحرزه الإسلام عندما انتشرت تعاليمه السمحاء وذاعت مفاهيمه حتى وصلت ديارهم وباتت تهدد الكنيسة ذاتها وكان رد الفعل عنيفاً بقدر تسارع خطوات الانتشار الإسلامي تقول الكاتبة كارين أرمسترونغ: (لقد شجب العلماء الغربيون الإسلام بدعوى أنه دين تجديفي وشجبوا نبيه محمد بدعوى أنه المدعي الأكبر الذي أسس ديناً عنيفاً استخدم السيف كيف يفتح العالم وهكذا فقد أصبح اسم (محمد) الذي حرف إلى (موهاند) بعبعاً للناس في أوربا… كما صور في المسرحيات الصامتة على أنه عدو الحضارة الغربية الذي حارب قديسنا جورج)(2).
في حين يقدم أحد المستشرقين رأياً يفسر فيه لماذا يقف علماء الغرب ضد الإسلام قائلاً: (إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية والنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً ونحن بحاجة إلى مئات المراكز لفهم الإسلام لاختراقه في صدق ودهاء ولذلك لا يوجد لدينا أمر أكثر أهمية وأولوية من موضوع تنعير المسلمين…)(3).
يكشف النص المتقدم عن رأي أكثرية المستشرقين الذين غالباً ما يدفعهم رجال الدين والسياسة في الغرب إلى وضع حلول جدية في إيقاف المد الإسلامي وكان ما توصل إليه المستشرقون هو ما ذكر في نهاية النص (تنعير المسلمين) أي إثارة النعرات الطائفية وإيجاد حالة من النزاع المستمر بين فرق الإسلام خصوصاً العقائدي منه، الذي يؤدي غالباً إلى حدوث مواجهات دموية بين تلك الفرق.
لقد خان المستشرقون رسالتهم فقد كانوا يظهرون للمجتمع أنهم باحثون غير منحازين إلا أنهم أصبحوا مجندين لتشويه الإسلام.
اليوم يعد برنارد لويس عميداً لمدرسة الاستشراق وهو يهودي الأصل بريطاني المولد والجنسية اهتم بدراسة التاريخ وبرع في دراسة التاريخ الإسلامي بشكل خاص حتى استطاع أن يقدم عدداً من المؤلفات التي تتخذ من المسلمين بصورة عامة والعرب منهم بصورة خاصة مادة أساسية لموضوعاتها وأطروحاتها، انتقل برنارد لويس من بريطانيا إلى الولايات المتحدة في منتصف السبعينات حيث أصبح محاضراً في جامعة برنستون، وفي عام 1982م حصل على الجنسية الأمريكية وصار مؤثراً في الوسط السياسي، بل عُدّ من صناع القرار الأمريكي، شارك برنارد لويس مع صاموئيل هانتنغتون صاحب نظرية (صراع الحضارات) وفرانسيس فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ) في تكوين حلقة فكرية تثير مخاوف الغرب اتجاه الإسلام، فقد عملت على ربط الإسلام بالإرهاب بطريقة ترعب الغربيين عموماً .
نجحت هذه المجموعة ودعاتها والمروجين لأفكارها ومناهجها الفكرية الاستعلائية في أدلجة التنميط المستشري أصلاً في المجتمع الأمريكي لصورة المسلمين السلبية وقد روجت هذه المجموعة لتعميمات أصبحت فيما بعد متداولة على ألسن النخب كما على ألسنة العامة منها (هذا هو الإسلام)، (المسلمون أعداء التغيير)، (هم هكذا)، (الإسلام ضد الحرية)، (الإسلام نقيض الديمقراطية)، وزاد من تفشي هذه الظاهرة وجود مستشرقين من أمثال برنارد لويس يملكون من الخلفية الثقافية والفكرية والمؤهلات الأكاديمية والبحثية والخبرة في الطرح والنقد والمجادلة وصناعة الرأي ما يسد مراميهم ويؤيد أطروحاتهم المؤدلجة(4).
أكد برنارد لويس على (أن المواجهة القادمة ستكون قائمة بين المسلمين والغربيين لا محالة)(5)، وبذا ستكون الحرب على الإرهاب المبرر الأول لتهيئة الرأي العالمي عامة والغربي بشكل خاص لتقبل فكرة المواجهة وفيما أخال أن بدايات هذه المواجهة كان الحرب على أفغانستان والعراق تحت مسميات (تحرير الشعوب) اللهجة القديمة واللهجة العصرية (محاربة العنف والإرهاب).
يضيف برنارد لويس رأياً آخراً فيقول: (الإسلام الحضارة الوحيدة التي وضعت استمرار الغرب في شك، ولقد فعلت ذلك مرتين على الأقل، الاستيلاء على القسطنطينية في 1453م ومحاصرة فينا سنة 1529م وأن هذا النمط من الصراع لا يكمن في ظاهرة التحولات المسيحية في القرن الثاني عشر أو أصولية القرن العشرين الإسلامية بل أنها تنبع من طبيعة الديانتين والحضارات المؤسسة على مبادئها)(6).
ولعل لويس لم يتطرق في رأيه هذا إلى مبدأ التسامح الإسلامي، والتعايش السلمي فكثيراً ما تعايش المسلمون والمسيحيون في مجتمع واحد بصورة سلمية، بل راح المسلم يحضر مناسبات المسيحي والمسيحي يقابله بالمثل وهذا ما نجده في المجتمعات الغربية نفسها والشواهد اليوم كثيرة فالمسجد والكنيسة قد يتجاوران اليوم في قلب أوربا المسيحية، ولكن ما عسى أن يقدم لويس من صورة مشرقة للإسلام وهو يهودي لا يستطيع التجرد من الانحياز الديني دون تعضيد رأي اليهود في تسويق صورة بشعة للإسلام للمجتمعات الغربية.
يعاضد برنارد لويس صاموئيل هنتينغتون حيث يقول: (أربعة عشر قرناً أثبتت أن العلاقات بين الإسلام والمسيحية كانت غالباً عاصفة، كل واحد منهما كان نقيضاً للآخر)(7).
حيال هذه المواقف التي تعزز فكرة عدوانية الإسلام يقف من يدافع عن الإسلام كما في قول الباحثة كارين أرمسترونغ: (إنه من الخطأ أن نتصور أن الإسلام دين عنف أو تعصب كما يقول البعض أحياناً، إن الإسلام دين عالمي ليس فيه عدوانية شرقية أو شيء ضد الغرب)(8)،
ويتخلص الباحث عادل الجبوري إلى نتيجة خرج بها كمحصلة من بحثه (الإسلام والغرب) ضمن سلسلة قراءات معاصرة فيقول: (…فالكيان الذي وضع أسسه خاتم الأنبياء محمد(صلى الله عليه وآله) وفقاً للإرادة الإلهية لم يك كياناً اجتماعياً فحسب يهدف إلى صياغة منظومة علاقات بين الأفراد تخضع للمعايير الأخلاقية والإنسانية ولم يك كياناً اقتصادياً فحسب بل وجد لتحقيق قدر من المساواة والعدالة في مجتمع كان التفاوت الطبقي فيه هو السمة الغالبة بين أفراده)(9)،
وقد توصل الباحث عادل الجبوري إلى تحليل يعتقد فيه إنه يفك رموز جدلية كيف ينظر الغرب إلى الإسلام حيث يقول: (… أما في الغرب فتوجد رؤيتان فالبعض يعتقدون أن تعزيز الوجود الإسلامي هناك يمكن أن يساهم إلى حد ما في كبح جماح حالة العداء التاريخي وإزالة العقد التي يحملها المسلمون في نفوسهم حيال كل ما هو غربي، وبالتالي تغيير طرائق تفكيرهم وقناعاتهم بينما يحذر فريق آخر بشدة من المخاطر التي يحملها ذلك التدفق البشري الهائل من بقاع العالم الإسلامي إلى البلدان الغربية تلك المخاطر ترتبط بالقيم الثقافية والأنماط السلوكية والاعتبارات الاقتصادية ويدعو إلى البحث عن السب والوسائل الكفيلة للحد من أو القضاء على حالة التدفق هذه)(10).
المحور الثاني:
قد يتداخل المحور الأول والثاني كثيراً حيث يبني المستشرقون الحياديون أطروحاتهم على قراءاتهم لأدبيات الإسلام والتمعن في تاريخه وبالتالي يقدموه نتاجاً جاهزاً للغربيين فيأخذوه كما هو.
ساهم صناع كتابة وتدوين التاريخ الإسلامي ومنذ بداياته في بلورة فكرة معادية للإسلام عند الغربيين عموماً والمستشرقين منهم بشكل خاص فقد كُتب التاريخ الإسلامي بأيدي لم تكن أمينة في طرحها خضعت للميل العاطفي والإغراءات المادية والخوف من السلطة الحاكمة التي غالباً ما شكلت التاريخ الإسلامي بطريقة تخدم مصالحها ووجودها وتبرر كل فعل قد ينعكس سلباً عليها.
إضافة لذلك فقد سرد المؤرخون وكتاب سيرة المسلمين نفسهم قصصاً تثير الآخرين وقد عممها المستشرقون على المسلمين دون أدنى محاولة لاستقراء أراء الفرق الإسلامية الأخرى حول تلك القصص، ولو أخذنا نموذجاً منها لرأينا في قصة مالك بن نويرة ما يعكس صورة العنف والإرهاب بعينه فقد امتنع مالك بن نويرة زعيم بني يربوع التميميين من إعطاء زكاة الأموال إلا للخليفة الشرعي فبعث له الخليفة الأول خالد بن الوليد كي يجبي الزكاة منه أو يناجزه القتال على أنه وقومه ارتدوا بعد إيمانهم فأبى مالك فاتهمه خالد برجوعه عن الإسلام فقال مالك: بل إنا على الإسلام فأمر خالد ضراراً وكان معه أن يقتل مالك فضرب عنقه وجعل رأسه أحد أثافي قدر طبخ فيه الطعام ثم تزوج خالد زوجة مالك في تلك الليلة(11)،
ولما وصل الخبر إلى أبي بكر بواسطة أبي قتادة الأنصاري الذي حلف ألا يسير في جيش فيه خالد قال أبو بكر: (لقد فتنت الغنائم العرب وترك خالد ما أمرته) فقال له عمر ابن الخطاب وكان حاضراً عليك أن تقيده بدم مالك فسكت أبو بكر ولما عاد خالد دخل المسجد وقد صدئت ثيابه من الحديد وفي عمامته ثلاثة أسهم فلما رآه عمر أنكر عليه فعلته وقال: أرياءً يا عدو الله عدوت على رجل من المسلمين فقتلته ونكحت امرأته أما والله إن أمكنني الله فيك لأرجمنك ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها وخالد ساكت لا يرد عليه ظناً أن ذلك عن أمر أبي بكر ورأيه فلما دخل على أبي بكر وحدثه صدقه فيما حكاه وقبل عذره فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد ويشير عليه أن يقتص منه بدم مالك فقال أبو بكر إليه يا عمر ما هو بأول من أخطا ارفع لسانك عنه ثم ودّي مالكاً من بيت مال المسلمين(12).
ترى ما يقول الغربيون لو اطلعوا على هذا النص الذي يكشف عن أفضع صورة للعنف، حيث قتل سيف الله المسلول خالد بن الوليد شخصاً مسلماً امتنع عن إعطاء الزكاة ثم زنى بزوجة القتيل ليلة قتله ثم عمد إلى رأس المقتول فوضعه تحت القدر لكي يطبخ عليه الطعام! ويجد من يدافع عنه بأنه ليس أول من أخطأ ثم تُدفع دية المقتول المظلوم من بيت مال المسلمين وكان شيئاً لم يحدث!، في حين نرى صورة معاكسة تماماً لذلك عند وقوفنا على وصية الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) حينما ضربه عبد الرحمن بن ملجم على رأسه فقال(عليه السلام): (إن بقيت رأيت فيه رأيي وإن هلكت من ضربتي فاضربه ضربة ولا تمثل فيه فإني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور)(13).
هل قرأ الغربيون التاريخ من جهة أخرى غير جهة الطبري والذهبي وابن الأثير وابن خلدون والخطيب البغدادي وابن عساكر وغيرهم؟ هل اطلعوا على الإسلام من منظار أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)؟ يجب عليهم أن يطلعوا على الإسلام من هذا المنظار حتى تتضح لهم رؤية مغايرة عما وصلت إليهم .
نشرت في العدد 33
(1) أحمد رضا، معجم معاني اللغة، 3/311.
(2) الإسلام في مرآة الغرب، ص14.
(3) محمد عمارة، الإسلام في عيون غربية، ص59.
(4) من مقالة (بطريرك الاستشراق)www.bentjbail.com/articales/.
(5) الإسلام والغرب، راجي أنور هيفا، ص226.
(6) المصدر السابق، ص41.
(7) المصدر السابق.
(8) الإسلام في مرآة الغرب، ص14.
(9) الإسلام والغرب، ص143.
(10) المصدر السابق، ص136.
(11) الذهبي، تاريخ الإسلام، 3/33.
(12) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/179.
(13) ابن أبي الفتح الأربلي، كشف الغمة، 2/60.