لم ترد قصة شهادة إبراهيم ومحمد ولدي مسلم بن عقيل(عليهم السلام) مفصلة في كتب المقاتل المعروفة، ولعل أقدم من رواها دون ذكر اسميهما أو تحديد مكان شهادتهما هو شيخنا الصدوق ـ أعلى الله مقامه ـ في أماليه، وتعد روايته الأكثر وثوقاً لدى أغلب المؤلفين وخطباء المجالس الحسينية الذين تعرضوا لهذه الواقعة المؤلمة، ورواها الشيخ فخر الدين الطريحي ـ نوّر الله مرقده ـ في منتخبه عن أبي مخنف رغم أن القصة لم ترد في النسخة المطبوعة والمتداولة من كتاب المقتل، وأعاد هذه الرواية مع سندها العلامة محمد باقر المجلسي(قدس سره) في بحار الأنوار، وأعقبها برواية ثانية عن صاحب المناقب القديمة، وتكاد الروايتان لا تختلفان في سير الأحداث إلا أن الرواية الثانية ذكرت اسمي الصبيين، وهما إبراهيم ومحمد، وجعلت نسبهما إلى ولد جعفر(رضي الله عنه)، وهو ما استبعده أغلب المؤرخين لشهادتهما.
ترتبط قصة شهادة ولدي مسلم بن عقيل(عليهم السلام) بواقعة الطف التي حدثت سنة 61هـ، وهما صبيان صغيران رافقا أسرتهما التي انضمت إلى موكب الإمام الحسين(عليه السلام)، وقدمت معه من المدينة المنورة إلى أرض كربلاء، وشهدا انجلاء غبار ساحة القتال عن مصرع أبي الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)، ومجموعة من الأقمار المنيرة من الآل والأنصار، ولما هجم جند ابن سعد (لعنه الله) على المخيم، ونهبوه وأشعلوا فيه النيران، تسلل هذان الصبيان الصغيران إلى خارج المخيم، وهربا على وجهيهما لا يلويان على شيء، إلا أنه سرعان ما قبض عليهما ليودعا في سجن الكوفة.
وبعد مرور عامل كامل على سجنهما، وهما في معاناة شديدة، قررا أن يخبرا السجان ويدعى مشكور بأمرهما فعرفهما، ورقّ لحالهما وأسف لما أصابهما من عذاب وضيق، فقرر إطلاق سراحهما، وفتح لهما باب السجن بعد أن أحضر أطيب ما يستطيع إحضاره من الطعام والشراب ليتجهزا به، وقد أظهر الشفقة عليهما وحسن المعاملة معهما، وقبيل منتصف الليل وقد هدأ المكان، وخلت الطرقات من المارة، أخرج مشكور الصبيين من السجن، وأعطاهما خاتمه، وقال لهما: يا ولديّ إذا وصلتما القادسية عرّفا شخصيكما إلى أخي، وأعرضا عليه خاتمي علامة فهو يكرمكما ويوقفكما على الطريق بل سيوصلكما إلى المدينة، ولم ينس وهو يودعهما أن يوصيهما بالحذر الشديد والسير ليلاً والاختباء نهاراً كي لا يكشف أمرهما، ودعا الله تعالى أن يجعل لهما فرجاً ومخرجاً.
وخرج الصبيان محمد وإبراهيم(عليهما السلام) يبغيان القادسية أملاً في النجاة، وقد لفتهما ظلمة الليل، ولم يكونا خبيرين بالطريق، فكان سيرهما في الاتجاه المعاكس، ولزما شاطئ النهر حتى دخلا بستان وارفة، وكان الصبح قد طلع عليهما، فعثرت عليهم جارية حبشية كانت تروم الاستقاء من ضفة النهر القريبة منهما، وسألتهما عن أمرهما، وعندما سمعت قصتهما رقت لحالهما، وطيّبت خاطرهما، وسارت بهما إلى مولاتها، وهي من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) التي ما أن سمعت بهما حتى هرعت إليهما حافية، واستقبلتهما بالبشرى، ورحبت بمقدمهما، وأنزلتهما خير مكان في الدار، وخدمتهما بنفسها خدمة تليق بحقهما، ولم تكتف بذلك بل أعتقت جاريتها سروراً برؤيتهما، وأوصتها أن تكتم الخبر خشية أن يكتشف زوجها الفاسق وجودهما، ويتسبب في إلحاق الأذى بهما.
وبلغ ابن زياد (لعنه الله) خبر إطلاق مشكور السجان للصبيين من السجن، فأرسل في إحضاره وهو يستشيط غضباً، وسأله عن الصبيين؟ فأجابه بشجاعة: لقد أطلقت سراحهما بعد أن عرفتهما كرامة لرسول الله(صلى الله عليه وآله). فقال ابن زياد والشر والشرر يتطاير من عينيه: أأمنت من سطوتي؟! أما خفت عقوبتي؟.. فقاطعه مشكور بكل هدوء وجرأة: بل خفت عقوبة ربي.. ويلك يا ابن مرجانة قتلت أباهما، وأيتمتهما على صغر سنهما، فما تريد منهما.. فثار ابن زياد ودعا الجلاد في الحال ليجلده خمسمائة جلدة قبل أن يأمر بضرب عنقه، وقد تحمل مشكور عذاب الجلد وأمر الموت بجنان ثابت، وهو يردد: هذا في الله وفي حبّ أهل بيت رسول الله قليل تم راح يسبح لله تعالى ويقدسه ويقول: اللهم أستعين بك وأطلب منك الفرج والروح والصبر، فإنني قتلت في حبّ أهل بيت نبيك، اللهم ألحقني بنبيك وآله.. وطلب شربة ماء فلم يسقوه فسكت وصبر حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى.
ونادى ابن زياد في شوارع الكوفة وخارجها أن من جاءني بولدي مسلم بن عقيل فله الجائزة العظمى، وسوف أعطيه ألف درهم عن كل واحد منهما، وكان زوج تلك المرأة المؤمنة التي آوتهما ويدعى الحارث بن عروة من جملة من طلبهما، وجد كثيراً في البحث عنهما طمعاً في نيل جائزة ابن زياد، ولم يتوقف بحثه وتكالبه إلى أن توارت الشمس في المغيب حزينة، وكأنها تستنكر فعله الشنيع هذا.
وبعد أن مضى شطر من الليل عاد الحارث إلى داره خائباً، وحدّث زوجته عن هروب الصبيين من السجن وجائزة ابن زياد وسعيه للحصول عليها، فحذرته زوجته من عاقبة مساعدة الظالم وجعله لرسول الله(صلى الله عليه وآله) خصماً له يوم القيامة، فنهرها فقامت واجمة، وأحضرت له الطعام والشراب، وبعد أن فرغ منه ولج فراشه لينام، ولكنه أحس بالصبيين فسأل زوجته عنهما فأصابهما الهلع، وحاولت الدفاع عنهما، فضربها وأبعدها بالقوة، وأحضر حبلاً متيناً وشد وثاقهما شداً قوياً، وعند الصباح دعا غلاماً له وناوله السيف، وأمره أن يأخذ الصبيين وينطلق بهما إلى شاطئ الفرات ويضرب عنقيهما، ولكن أبى أن يفعل ذلك بعد أن عرفهما وأنكب مقبلاً أقدامها، ولما علم الحارث بذلك قيل قتل غلامه، ولحقت به زوجته مع ابن لهما، وحاولا ثنيه عن تنفيذ جريمته، لكنه غضب عليهما وحمل على زوجته فضربها بالسيف فسقطت مغشياً عليها، فاستنكر الابن فعلته، فحمل عليه هو الآخر وضربه بالسيف وقتله، ثم اتجه نحو الصبيين يريد إكمال جريمته بقتلهما، فراح يقدم كل منهما نفسه قبل أخيه، فقام الحارث (لعنه الله) بضرب عنق محمد ثم أعقبه بإبراهيم، ورمى ببدنيهما في نهر الفرات، وأخذ رأسيهما ووضعهما في مخلاة، وحملها مسرعاً نحو قصر الإمارة بالكوفة.
ولما دخل ومثل بين يدي ابن زياد بذلة، ثم كشف عن الرأسين الشريفين، وقد غطتهما الدماء، سأله ابن زياد لِمَ قتلتهما يا هذا ؟فأجابه الحارث بلهفة وطمع: من أجل الجائزة!! فسأله أين ظفر بهما؟ فأجابه في داري، وقد أضافتهما امرأة لنا.. قال ابن زياد: أفلا أتيت بهما حيين لنا لكنت ضاعفت لك الجائزة ؟ فأجاب الحارث متلكئاً خشيت الناس أن يخلصوهما من يدي وأحرم من الجائزة.. واستمر الحوار بينهما وقد تصاعد الغضب عند ابن زياد الذي أمر أحد الحاضرين في مجلسه بضرب عنق الحارث، وإعادة الرأسين الشريفين ورميهما في الموضع الذي رمي فيه بدنيهما..
وتقول الرواية إن شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ومحبيهم قاموا فيما بعد بإخراج الجثتين مع رأسيهما من النهر، وتولوا أمر دفنهما في ذات المكان الذي استشهدا فيه ؛ ليكون فيما بعد مشهداً شريفاً ومزاراً مقدساً يقصده المسلمون من شتى بقاع الأرض ليتبركوا بزيارته، ويستذكروا عنده جانباً من وقعة الطف الأليمة والتضحية السخية لأبي الشهداء والأحرار الإمام الحسين(عليه السلام)،
ووقفته الخالدة فيها.
عمارة المرقد
ظلت عمارة مرقد ولدي مسلم بن
عقيل(عليهم السلام) لحقبة من الزمن متواضعة لا تتعدى البناء الطيني، والتسقيف بالحصران وجذوع النخيل حتى حلول سنة 1220هـ إذ أقيم أول بناء لصحن المرقد، وينسب بناؤه إلى الحاج محمد حسين الصدر وزير فتح علي شاه، وكان البناء شبيهاً ببناء الخانات المعدة لاستراحة وإيواء الزائرين حيث أقيم وسط الصحن جدار قسمه إلى نصفين: الأول مما يلي المدخل استخدم كإسطبل لربط وحفظ الحيوانات التي كانت واسطة النقل الوحيدة للزائرين في ذلك الزمن، والنصف الثاني وهو قريب إلى الضريح فكان ساحة ومقراً لجلوس واستراحة الزائرين أنفسهم.
وفي سنة 1355هـ قدم جماعة من الزوار الإيرانيين لأداء مراسيم الزيارة المعتادة للعتبات المقدسة في العراق، وهم: آقا رضا جعفري، والحاج معين خرازي، والحاج قلوم علي التتنجي، والحاج مرتضى كياهي، فاستأذنوا المرجع الديني الأعلى يومذاك السيد أبو الحسن الأصفهاني(قدس سره) في رفع الجدار الفاصل فأذن لهم فرفعوه، وجعلوا الإيوانات غرفاً لإستراحة الزائرين، وكان قد سبق ذلك بناء البهو (الطارمة) سنة 1352هـ من التبرعات العامة بإشراف البناء (الأسطة) حمودي البغدادي.
وقامت عمارة تالية سنة 1376هـ في الجهة الغربية من الصحن بعد أن خصصت الحكومة العراقية آنذاك في ميزانيتها مبالغ لتعمير العتبات المقدسة، فتقدم سادن المرقد وقتها الحاج علي حسين هلال بطلب تحريري إلى الجهة الحكومية المختصة يلتمس فيه منحه مبلغ ألفين وخمسمائة دينار لتعمير الصحن فاستجيب لطلبه. وفي سنة 1381هـ عاد الجماعة الإيرانيون المساهمون في رفع الجدار القديم الفاصل للصحن، وأوصلوا الماء الصافي من الإسالة لخدمة وإرواء الزائرين، كما اتصل التيار الكهربائي بالمرقد الشريف والقرية المجاورة سنة 1384هـ، وكانت قبل ذلك قد نصبت مولدة سنة 1359هـ لإنارة المرقد من تبرعات الأهالي وتولى نصبها وتشغيلها محمود الحاج حمود القنبر.
لم تنقطع أعمال الصيانة والترميمات والتجديد في المرقد الشريف خلال العقود الأربعة الأخيرة، فقد جددت الجدران واستحدثت أبنية جديدة حتى جاءت سنة 1394هـ فجددت عمارة المرقد، وكان للعلامة الشيخ علي القسام مع عدد من مساعديه مسعى مشكور في انجاز هذه العمارة التي توزعت كلفتها بين وزارة الأوقاف والأهالي بما تبرعوه من أموالهم الخاصة.
وعقب سقوط النظام الصدامي البائد سنة 1424هـ بدأت حملة جادة لتوسيع المرقد الشريف تولى أغلب تمويلها الزوار الإيرانيون، فأضيفت مساحة جديدة للحرم من الجهة الشمالية، وأنشئت قاعة كبيرة جانبية ألحقت بالمرقد الشريف، ثم جاء تذهيب القبتين وإنشاء منارتين جديدتين، ثم أبدل الصندوقين الموضوعين على الضريحين الشريفين بآخرين جديدين من الذهب الخالص أرسلا من إيران وقد جرى احتفال كبير بهذه المناسبة حضرته شخصيات دينية وسياسة عديدة .