عالج الإسلام كل قضايا المجتمع بوضع النظريات المختلفة ومنها النظريات التربوية التي تدعو لتماسك الهيئة الاجتماعية، فإن التفسير الخاطئ للألفاظ والحركات مما يوقع المجتمع في تصورات تنازعية وصراعات كلامية قد تؤثر على نوع العلاقات في المجتمع وفي مختلف المراحل الدراسية، وقد يشتد التفسير الخاطئ في المراحل الشبابية التي تكون الروح شرهة ومتطلعة ونازعة إلى التسلق السريع بما تمتلك من نمو وقوة وخلو من ارتباطات اجتماعية أي الفراغ مع وجود التخيل والآمال والتقلبات السريعة عند الشباب أوضح عند غيرهم وإن كان أغلب الفئات العمرية قد تتقلب عندهم الأمور وتتغير الآراء يومياً أو شهرياً أو سنوياً، وهذا التغير والتبدل حالة طبيعية في السلوك فلا تفسر تفسيراً خاطئاً، فالأصح صحة السلوك ما لم يثبت خلافه.
هذه الرؤية الإسلامية لزرع الثقة بين المسلمين فأصل التربية في الإسلام يرجع إلى ركيزة بناء الثقة المتبادلة على المرآتية بين المسلمين المسلم وأخوه المسلم ثم البناء الأخوي وهو أعظم بناء جاء به القانون الإسلامي الذي ريما يعرف اليوم بين الشعوب بالمواطنة وحقوق المواطنين مع الفارق المادي والروحي، بين وضع القانون الإسلامي والقانون الوضعي وعلى هذا تكون المدرسة الإسلامية من أولى المدارس التي وضعت الضوابط الثابتة في فعل الفرد بما يصلح نفسه والجماعة، والجماعة بما تصلح نفسها والفرد وهو بما ينعكس كبرنامج للتعليم المستمد من النص القرآني المحكم والسنة الشارحة له ولا مانع من المدرسة التجريبية أو المبدأ التجريبي في العلوم الطبيعية والإنسانية بل شجع الإسلام على الاستعمال العقلي بكل إدراكاته الكلية والجزئية للكشف عن النظريات والابتكار واحترام الفكر والمساهمة الإنسانية فيه.
وربما يفسر اللفظ أو الفعل ـ
وأكثر ما يقع في اللفظ ـ باتجاهين:
الاتجاه الأول: التفسير الخاطئ باللفظ.
الاتجاه الثاني: التفسير الخاطئ بالسلوك.
الاتجاه الأول التفسير الخاطئ اللفظي
عالج الإسلام بنظامه التربوي ونظرياته بهذا الاتجاه على حمل الألفاظ على ظاهرها في مقام البيان لا الهزل والمزاح والغلط والنسيان وكلها رفع عنها ترتيب الأثر بل المكره والمضطر وعدم العلم (ما لا يعلمون) وكل ما جاء في حديث الرفع وإن كان في بيان رفع المؤاخذة في الحكم فهو من باب أولى في المدرسة التربوية والتعليمية والعلاقات الاجتماعية والمحاورات العرفية ومنه مدرسة تربوية إسلامية في باب العلاقات بين الطالب والمعلم وفي كل المراحل الدراسية بل هي ثقافة إسلامية تهدف إلى روح الألفة والمودة المتبادلة.
إن إطلاق اللفظة أو الكلمة أو بيان منهج أو عرض أمثلة لا تكون مدعاة للسخرية سواء من المعلم أو المتعلم مع مراعاة المؤسسة التعليمية على بث مثل هذه الثقافة لأن الأصل في التعليم هو رفع الوعي الفكري والعلمي التطبيقي للطلبة وهو جزء من هدف أسمى من الأهداف الكبرى للأمة حتى ترقى نحو الحضارة والازدهار.
إن إيجاد الأعذار هو نوع من تقليل التفسير الخاطئ في المحتوى المعطى لبعض الأساتذة من قبل التلاميذ في نقل المعلومات عن مادة إلى أستاذ آخر أقدر منه، فلا يترفع الأستاذ على أخيه ولا ينقض أقواله إلا بالأسلوب العلمي الرصين والأمين مع فرض الاحترام حتى لا يسقط بنظر الطلبة مما يؤثر على تلقيهم العلوم بنسبة أقل لانعكاس ذلك في نفوسهم، فالتفسير اللفظي بعدم القصدية واختلاف النية المعتبرة في العبادات والمعاملات بل القانون المدني الوضعي استمد ذلك من الإسلام وعبر عنها بالإرادة في اللفظ والسلوك.
يمكن لنا ذكر الألفاظ التي قد تقع وتحتاج إلى تفسير فهي إما ظاهر وواضحة فلا تحتاج إلى بيان وإما تحتاج إلى بيان وتفسير وربما تأويل إذ لم يقصد القائل ذكر الظاهر بل هو يقصد سماع الغير يعرض مثل هذه الكلمات أو الأمثلة أو استعمال الاتجاه غير المباشر وهو من الاستعمالات العربية حتى قبل الإسلام فيأتي التفسير على ضوء الرموز أو بعض الكلمات أو الاستعارات أو بعض الكنايات:
ومن هذه الألفاظ التالي:
1ـ اللفظ الهازل الصادر من أي طرف بشرط التزام الحدود في ذلك، ويحمل هذا اللفظ على الهزلية المطلقة للأجواء ولا يترتب عليه أي أثر سواء صدر من الطالب أو الطالبة أو صدر من الأستاذ ولا تعقبه تبعات من الأطراف، لأن الجو التعليمي أسري بحد ذاته، واللفظ الهازل قد يترتب عليه أثر وتبعة إذا كان المقصود منه الانتقاص من أي طرف كان، وقد يقال له المزاح أيضاً وإن كان أخص منه والمزاح صفة المسلم لإدخال السرور على قلب غيره معلماً أو أستاذاً أو عالماً أو متعلماً أو… أو… وعليه فإن اللفظ المفسر بنحو خاطئ قد يسبب الاختلالات في العملية التربوية وتصبح العلاقات مجاملات فارغة من محتواها أو ما يسمى بالنفاق الاجتماعي وهي آفة تسري في المجتمعات لا تعبر عن الود والاحترام الواقعي بعيداً عن الأهداف والغايات الشخصية التي كثيراً ما تحكم سلوكنا في الحياة.
إن الابتعاد عن إطلاق الأحكام أو تعميمها واحترام الآراء وعدم الانتقاص من قائليها فالفكرة واللفظة وصياغة الجملة وإعداد البحث هي جهود من الباحث سواء الطالب أو الأستاذ، والنقاش وسماع الكلمة في هذا الجو العلمي يجب أن تكون على ضوء البناء العلمي وهو ما أكده الإسلام من حرية والفكر وأسلوب المحاورة العلمية، فقد كان الإمامان الباقر
والصادق(عليهما السلام) في أخصب العهود العلمية يتبادلون المحاورات والمناظرات مع مختلف الاتجاهات والرؤى، فالفكر الخارجي والدهري والفرق المتشعبة والمختلفة في أصولها وفروعها تحضر في هذه المدرسة العظيمة وبكل احترام تتبادل الأفكار والرؤى، وقد تسمع كلمة من هنا وهناك فلا ترتب أي أثر عليها خارجي يؤدي إلى الصراع أو الانفكاك من الهيئة الاجتماعية والإنسانية.
وضع الإسلام محددات للهزل والمزاح أن لا يخرج عن هذه المحددات، ونفى عن التنابز بالألقاب وكل محاولات الانتقاص حتى لو لم يسمع المنتقص منه بل جعل ذلك من كبائر الذنوب وعادة غير أخلاقية وأيد علماء التربية من الغرب القضية الأخلاقية يقول هربارت: (إن الهدف الأسمى من التعليم هو الفضيلة)(1).
2ـ الغلط والنسيان: قد يتعرض الطالب أو الأستاذ للغلط اللفظي أو النسيان لبعض الجمل أو القانون أو التصميم أو التحضير أو غيرها من الأمور الداخلة فيهما، وهو مما يثير بعض التفسيرات الخاطئة، فلتقليلها حذر الإسلام بأحكامه التمسك بهذه الهفوات الحادثة عند البشر ولا يسلم منها سوى الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، فلم يؤاخذ المسلمين على الأحكام وهي مرفوعة عنهم فما حاله في غيره، ولا يجوز أن يثير الضحك أو السخرية والاستهزاء أبداً، وهي ثقافة أدركها المجتمع الغربي فتعامل على حفظ كيان الشخصية والتعامل معها باحترام وذوق رفيع.
واعتذر أمير المؤمنين(عليه السلام) لبعض رواة الحديث الذين نقلوا الأحاديث وعملوا بها وهم على وهم ولم يتعمدوا ذلك لأنهم سمعوا ولكن لم يحفظوا ولم يعلم المسلمون أنهم على وهم ولو علموا لم يقبلوا ولو علم هو لرفض ذلك الحديث الموهوم(2)، والوهم: الغلط والخطأ(3).
الاتجاه الثاني التفسير الخاطئ السلوكي
إن النظريات في المدرسة السلوكية قد تتعارض مع ما جاء في نصوص الشريعة وتتقاطع مع وجود الفطرة في الإنسان منذ تكونه وربما قبل ذلك وهو في عالم الذر وهي نظرية وجود الروح البشرية قبل الأجساد، ووجودها لا يمكن أن يخلو من معارف وعلوم وقابليات مخزونة قد تستخرج أثناء اللقاء مع الجسد وتدبيره.
فقد أنكر بعض العلماء وجود الفطرة في الإنسان وأن معارفه تأتي من جهة التعلم، فمن علم الطفل منذ اليوم الأول الرضاعة من ثدي أمه ومن علم النحل البناء العجيب لخلايا العسل ومن علم النمل حفظ الحبوب وما يحتاجه بدون إفساد والأمثلة في ذلك لا تحصى في السماء والأرض والبحار وأسرارها.
إن إنكار الفطرة عند الكائن الحي يتعارض ويتقاطع مع النظرية والقانون الإسلامي بل مع الخلق وتكوينه المدعم بما يوافق أصل الخلقة والنشأة وغاية وهدف الخلق فالحيوان يمكن تغيير سلوكه بالتجارب ولكنه بالذات هو مخلوق لغاية وهدف فيتعود على سلوك آخر بالمران والتكرار وكذا الإنسان ويمكن الاستفادة من هذه التجارب إذا لم يجد الإنسان قواعد وأسس ذكرها الله عز وجل في كتبه السماوية العديدة وآخرها القرآن الكريم الذي يحمل الأسس والقواعد العامة كالنظرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية، ولو أمعنا النظر فيه مع ما جاء في السنة الشريفة يمكن استخراج أكبر نظرية تربوية في العالم تهدف إلى تغيير سلوك الكائن البشري المتأثر بالبيئة والمناخ والحالة الاجتماعية من العادات والتقاليد والقيم مدعومة بالمعلومات المودعة في الكائن الحي وبالذات الكائن البشري أرقى الكائنات ففيه خزائن من العلوم والمعارف لذي يحفزه الله عز وجل باستخراج هذه الخزائن بعدة آيات قرآنية داعية إلى التفكر والتأمل والنظر بما حوله من المحسوسات والتأثر والتعلم من هذه المحسوسات لهدفه الأسمى في حياته هي معرفة الله عز وجل وهي أقصى المعارف التي يجب على هذا الكائن الوصول إليه لأنها الحقيقة التي يجب الوصول إليها والغاية عند أسمى الكائنات وهم الأنبياء والأئمة(عليهم السلام).
إن دعوى أن الإنسان ولد وهو صندوق أجوف ـ وهي دعوى المدرسة الارتباطية السلوكية، فقد أنكر واطسون ما يسمونه بالسلوك الفطري(4)ـ دعوى لا دليل عليها لا في الإنسان ولا في الحيوان ولا في النبات والكل يجري بقدر وعلى تفاوت في النسبة الفطرية لكل واحد منهما، فالإنسان ولد وهو مفطور على التفكير والاستغراب مما حوله يحمل الفطرة السليمة النقية من أي تعلم خارجي يغير سلوكه لذا نجد أن أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول ولدت على الفطرة وفي روايات عديدة متفق عليها كل مولود يولد على الفطرة.
وهناك نظرية تؤيد وجود الفطرة في الإنسان ولكنه يحتاج إلى التعلم وهي تؤيد النظرية الإسلامية ولكنها تختلف عنها بالتفسير، ولا نخوض في النظريات ونؤجله إلى موضوع آخر، فإن كلامنا في التعايش الاجتماعي على نحو الود والاحترام والنية الصادقة، لذلك وضع الإسلام القاعدة المعروفة عند الفقهاء (حمل عمل المسلم على الصحة) وهي القاعدة الأولية في كيفية التعامل مع مختلف الأعمار لإطلاقها ولكنهم أثبتوا ذلك في القواعد الفقهية وهي أشمل من المعاملة المدنية لأن العمل سلوك خارجي يبدأ بفعل سلوكي يمكن تفسيره وتقويمه، وحمله على الصحة بلا قصد العدوانية كاحمل أخاك على سبعين محملاً أي جد له الأعذار حتى لا يسقط في نظرك ونظر الناس ثم إن إيجاد الأعذار للناس من شيم أهل الإباء والحلم وهو مما يزرع الود والاحترام ويزيده وبالأخص عند نقله إلى من صدر منه السلوك وخصوصاً إذا كان قاصداً ومتعمداً بسلوكه وحمله الناس المحمل الحسن لغرض تقويمه وإصلاحه، ولكن ليس كل الأفعال تحمل هكذا، ونجد لها أعذاراً فإن الصدر اليقين بالقصدية والتعمد يؤخذ على ضوء فعله وقصده ويحاسب في القانون الإسلامية بل يردع ـ حفاظاً على المجتمع ـ أن تسود فيه الفوضى والاضطراب وضياع
الحقوق.
وهناك قاعدة فقهية أخرى تسمى قاعدة السلطنة أي الناس مسلطون على أموالهم فالمسلم يتصرف في أملاكه بما يوافق مصالحه، فإذا يتصرف بما يوافق مصالحه ويخالف غيره يمكن أن يعتذر عنه بهذه القاعدة ولكن ذلك التصرف يجب أن يكون خاضعاً لحدود العقل لا السفه، فيعتذر للعاقل ولا يعتذر للسفيه.
وحتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يراعى فيه الإرشاد والتوعية وهو من الأساليب التربوية التي تهدف إلى تغيير السلوك بالتعلم والتعليم لأن الإسلام يعتمد على العملية التعليمية بأوسع نطاقها ويرى السلوك هو معيار الحقيقي للمسلم فأوجب طلب العلم بأن عليه التعلم بأوضح نظرية كانت باكورة الوحي للنبي(صلى الله عليه وآله) بقوله: (اقرأ) والقراءة تتطلب الكتابة السابقة عليها والقراءة والكتابة هما أساسا العملية التعليمية والقراءة مصدر المعرفة والكتابة السلوك الفعلي وأنها الهدف السلوكي من تعلم القراءة لأنها مهارة أو الجانب المهاري للإنسان حسب تصنيف بلوم للمعارف بثلاث مجالات:
1ـ المجال المعرفي (العقلي الإدراكي).
2ـ المجال المهاري (النفس حركي).
3ـ المجال الوجداني (العاطفي، الانفعالي).
هناك جملة من القواعد الفقهية يمكن جعلها من الأساليب الإسلامية لتقليل التفسير الخاطئ في المجتمع منها:
1ـ قاعدة الائتمان (عدم كون الأمين ضامناً عند تلف الأمانة).
2ـ قاعدة الإتلاف.
3ـ قاعدة احترام مال المسلم وعمله.
4ـ قاعدة الإحسان (مساعدة المسلم بعمل وإن لم يجلب منفعة أو يدفع مفسدة).
5ـ قاعدة الإسلام يجب ما قبله.
6ـ قاعدة الحق لمن سبق(5).
والعشرات مثل هذه القواعد التي هي أساليب تحدد التفسيرات وتقلل من التفسير الخاطئ بذكر القاعدة وعلى ضوء العمل .
نشرت في العدد 33
(1) شفشق، محمود عبد الرزاق، الأصول الفلسفية للتربية، (الكويت: دار البحوث العلمية، 1980م)، ص310.
(2) شرح نهج البلاغة، صبحي الصالح ج11 ص38.
(3) الصحاح مادة: وهم.
(4) الرحيم، أحمد حسن، محاضرات في علم النفس، ص56.
(5) للمزيد ينظر: المصطفوي، محمد كاظم، القواعد مائة قاعدة فقهية معنى ومدركاً ومورداً، (قم: جماعة المدرسين، 1427هـ)، فقيه 100 قاعدة.