Take a fresh look at your lifestyle.

الخط العربي والعمارة الإسلامية بين البعد التشكيلي والعمق الروحي

0 5٬137

الخط العربي والعمارة الإسلامية
بين البعد التشكيلي والعمق الروحي

م. محاسن هادي خلف
استشاري وباحث/ وزارة الإعمار والإسكان

           قال الإمام علي(عليه السلام): «الخطُ الْحَسِن يُزيدُ الحقَ وضوحاً»

   ارتبط البعد الجمالي والتشكيلي للعمارة الإسلامية إضافة إلى خصائصها الوظيفية والفنية بالتشكيلات الرمزية للخط العربي المرتبط بعدة معاني متجسدة بالقرآن الكريم، فتكاد لا تخلو العمارة الإسلامية من الخط العربي كأحد معالمها البارزة التي تنطوي في ثناياها القدسية والجلال مضيفاً عليها بعداً روحياً، فقد جسّد الخطاط العربي النسبة والتناسب وفن استلهام الطبيعة دون تقليدها وجوهرها الهندسي والإيقاعي حسب النسب الفاضلة والقياسات السليمة بصورة جلية وتمثل النقطة الوحدة النموذجية القياسية له، فلم يبتعد الخط عن العمارة في معنى إدراك أهمية محاكاة الطبيعة وتناسب وحدات المبنى بشكل يحقق ارتباطه الواضح بقيم عليا مطلقة، وقد امتلك الخط العربي قدسيته من خلال ارتباطه بالمتعالي فليس بغائب عن الذهن محافظة اللغة العربية بحروفها وتراكيبها ومفرداتها على شبابها رغم شيخوخة اللغات الأخرى فهي وإن طُمس استعمال أحد مفرداتها فليس عسيراً على الفرد العربي استنباط معناها من أصل اللغة وروحها الكامنة فيه، من هذا التحديد يمكننا القيام بمحاولة متواضعة لقراءة الخصائص التشكيلية والروحية للخط العربي والعمارة الإسلامية وارتباطهما من الداخل وما يقف خلفه من قيم فكرية وحضارية عبر ثلاث محاور.

المحور الأول: البعد التشكيلي للخط العربي في العمارة الاسلامية
يعد الحرف العربى، واحدا من أهم العناصر التشكيلية للفن العربى، واتفق مع توجهات الكثير من الفنانين فى بحثهم عن هوية تشكيلية عبر صراع الحضارات التي تفرضه آليات العصر وتنامي النزاعات الثقافية المختلفة، وإن كان هذا التوجه قد اتخذ عدة مسارات؛ أولها أنه دعا الى المحافظة على أصالة الخط وقواعده وأيضا قياساته، فانتقدوا الخطاط واللوحة الخطية، وهو المسار الذى أكد على أن أي خروج على هذه التراثية سيفقد الحرف الجلال والرصانة، والعمق الروحي، الذى تآلف مع أعمال خطاطينا القدامى. أما المسار الثاني محاولة الموائمة ما بين التقاليد العميقة للخط العربى وبين تجريدية الخلفيات التشكيلية فى اطار من التوليف يجمع بين الزخرفة والخط على حد سواء، أن الحرف العربى لم يكشف عن مكنوناته سواء الجمالية أو التعبيرية، وسيظل مصدرا للإلهام، خاصة فى ظل غياب جهد تنظيري يواكب حركة احيائه دون الابتعاد عن خصائصه التشكيلية والتنظيمية وعلاقته بالعمارة الإسلامية.

تهدف الدراسة إلى تحليل التكوين الفني للخط العربي وفق أسس التصميم؛ الوحدة، التوازن، التوافق،التألف، والوحدة والتنوع، وقدسية الحرف العربي والتدرج في الخطوط العربية لتكون تجريداً وتجسيداً في الوقت نفسه ومن الفنون التشكيلية ذات البعدين أوالأبعاد الثلاثة. فالتكوين الخطي يعطي نصف المعلومات للمتلقي، أما النصف المتمم فيبحث عن المعنى محاولاً القراءة والتأويل والتخيل في الشكل العام للتكوين أشياء ليولد قراءات قد تبتعد تماماً عما تخيل الخطاط. آنذاك يضع حقيقته في العمل الفني كأنه مساهم في عمل التكوين. فظهرت تكوينات تتسم بالجرأة في المعالم المعمارية في آسيا الوسطى ثم إيران والعراق ومصر لا يمكن قراءتها من قبل المتلقي، الهدف منها متعة العين والتعمق في التأملات.

تلغي تكوينات الخط الكوفي الهندسي التي عملت من الطابوق أهم ما كان معروفاًفي الخط العربي، ألا وهو النحافة والسمك داخل كل حرف، هنا الحرف يكتب بالطابوق فقط وكذلك الفراغ المحيط بالحرف يكون بسمك الطابوق أيضاً. إنه تشكيل جديد للخط أدخله معماريو تلك المرحلة في معظم المعالم المعمارية دون فقدان الخصائص التشكيلية والتظيمية له، وبهذا تكون الكتابة بالطابوق قد وضعت حلول عديدة للمساحات التشكيلية في العمارة، وبعد ذلك واصل الخطاط إبداعه فأعطى حيوية أكبر للخطوط على معظم العناصر المعمارية كالقبة والمنارة فجعلها تنزل مائلة بشكل حلزوني وحتى المربعات المخطوطة أخذت فيما بعد أشكال مفروكة بالارتكاز على نقطة واحدة، وهكذا فإن خط المصاحف بقي في المصاحف، أما العمارة فأنها وجدت ما يلائمها.
يعد التكوين الشكلي للخط العربي حاملاً لقيم صوتية كما إن صياغته في الواقع تضيف إلى هذه القيمة الصوتية قيم فكرية وحضارية وأخلاقية وفلسفية، فإذا أخذنا على سبيل لمثال الحرف أ، كتعبير لصوت معين، فإن وقوفه واستناده على السطر عموديا دون سائر الحروف، بالإضافة إلى وجوده في مقدمة الكلمة يضفي عليه خصائص وجدانية، كأن يكون هو الدعامة الأساسية في بناء الأحرف كلها يماثل العمود في العمارة، لذا نجد أن هذا الحرف يتكرر كثيرا في الخط العربي، مثلاً: (لا إله إلا الله)، يمثل الجزء الأكبرمنها هو ألف إذا اعتبرنا أن الألف يدخل أيضا في تركيب حرف اللام، بنسقها العمودي والمتنزل من الأعلى، الذي لا يحتاج إلى الامتداد إلى الآخرين، المتنزه،السماوي، الآتي من الغيب، المتفضل على من سواه. وإن إستخدام النقطة كوحدة قياس يلخص فكرة الفن الاسلامي الذي بهجره التشخيصية يهجررسم الآدمي، ويسعى الى قياس المجرد المحض، الكلمة الالهية، السامي والرفيع، الروحي والمقدس.

يؤكد اليوم المزيد من الباحثين الأوربيين ان دور الخطاط العربي كان يماثل دور الرسام الأوربي ولكن برؤية مختلفة للعالم، وأن هذا الفن كان يناظر في الحقيقة فن الرسم، بالمعاني الممنوحة لمفردة (رسم) في القاموس الغربي، تناظر يمكن إقامته حتى في الأمور التقنية والحرفية عند الغربين والعرب المسلمين، فقد كان الفنان المسلم يستخدم القصبة بدل فرشاة الرسام الغربي،والمحبرة بدلاً من الباليته، والحرف والشكل الهندسي بدلاً عن الجسد والرؤية الدنيوية المهيمنة على الرسم الغربي، ففي الفن الاسلامي رؤية قدسية أو دينية بالمعنى العميق للكلمة، فقد كان التشخيص يهيمن في أوربا بشكل مطلق وكان يهيمن التجريد هنا بشكل شبه مطلق حتى الفراغ نفسه في الفن الاسلامي كان ينبغي عليه الامتلاء بحضور المقدس، إن لم يكن هو نفسه تعبيراً عن المقدس، ويعبر عنه تجريديا، بتكرارات شكلية لانهائية مستوحاة من لانهائية المقدس.

المحور الثاني: العمق الروحي في الخط العربي
يصف القدماء الخط على أنه هندسة روحانية بآلة جسمانية أو الروح في الجسد، وكان لإرتباطه الوثيق بالقرآن الكريم منذ عهد النبي(صلى الله عليه وآله) أضفى عليه قدسية حسية ومهابة وجلالاً. كما ارتبط بقواعد صارمة اكتسبت صفة الثبات عبر مدة زمنية امتدت منذ عصر الرسالة إلى عصرنا الحالي، وعدت هذه القواعد المنطق الجمالي له والخروج على هذه القواعد هو انهيار لمنطقه الجمالي فالإبداع والخلق يتم في أجواء من القيم الروحانية والاخلاقية بتأثير متبادل بين الخطاط والمجتمع فالفن هو تكثيف للطاقات التي تنمي الذائقة الجمالية للمجتمع ليتحول في عين المتلقي إلى طاقة إيجابية.

استلهم الخط العربي الطبيعة دون تقليدها بالولوج إلى جوهرها الهندسي والإيقاعي حسب النسب الفاضلة والقياسات السليمة، وتتأثر الخطوط بمظاهر العمارة. فالحروف العربية ليست ثابتة الأشكال في الخط، بل تتطلب تحولاً جديداً في كل مرة تتغير فيها الكلمات، فلابد من استعداد فطري، ومقدرة يدوية على رسم الحروف. أن المنفعة تعانق الجمال في كل صور الفنون الإسلامية، فلم ينفصل تذوق الجمال فيها عن تحقيق كثير من الفوائد والمنافع والوظائف، فارتبط الجمال بتحقيق نوع من الكمال مرتبطاً ارتباطاً وظيفياً بتحقيق الوظائف والغايات العملية في آن واحد، ولذلك فلم يواجه الفن الإسلامي مشكلة الانفصال بين الشكل والمضمون أو الصورة والمادة، وهذا الفن يقف في منتصف الطريق تماماً بين الإدراك الوجداني الحسي، والفهم العقلي المجرد. ويمثل الجسد البشري نموذجاً للقياس، إذ أنه بذراعين أو ساقين ممدودين يمثل شكلين هندسيين متكاملين وهما المربع والدائرة.
يحقق كل نوع من أنواع الخطوط العربية فكرة تتوافق ومكوناته، فيساهم في بناء الشكل المشهدي اضافة الى دوره اللغوي،

فيُختزل الخط لصالح المعنى الفني. فالفكرة في الخط العربي لا تسعى الى التجسيم والمحاكاة كما في الفن الغربي بل تستلهم عناصر فنون الخط والزخرفة بكل مكوناتها سواء في التشكيل والتنظيم من حيث التكرار والايقاع والتناوب، او من حيث احتوائها على الزخارف النباتية والهندسية والكتابية المنفذة بمواد والوان مختلفة تشكل بمجموعها أحدى خصائص العمارة الاسلامية. فالفكرة وهي تتحول الى كتلة بواسطة الخط تضيف الى القيمة البصرية قيمة روحية، ولكل خط خصائص شكلية ودور وحاجة ومعنى، فالخطوط التي تأخذ شكلاً افقياً تتسم بحالة من السكون العميق والاستقرار وتشكل الحد بين السماء والارض بين الروح والمادة. اما الخطوط العمودية فتثير احساساً بالرفعة والتماسك وتعطي احساساً باللاواقعية في الاحساس عند توازنها في السطر.

اما الخطوط المنحنية فتسعى الى احداث تأثير انفعالي بطريقة اندفاعية وسريعة. فالخطوط التي تستخدم في موقعها بذائقة فنية راقية تضفي على العمل الفني قدرة اضافية للتعبير، كحروف وكلغة. فكل كتابة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل مكونات اللوحة وعناصرها، من اجل زيادة التعبير في الشكل واللون فضلاً عن المضمون. فالخط العربي ليس رديفاً للتصوير بل منطلقاً لسبر اغوار الكون ليستكشف المعمار المسلم من تشكيلاته أبعاداً غير المحددة بالزمان والمكان (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)(1)،

وكذلك في العمارة من خلال اعتماد قيم مفاهيمية تمكن من تأويل المباني كتكرار للظواهر الكونية وتكرار لأنماط عليا « إلهية « من خلال مفهوم التعالي المطلق، ويتبنى هذا التوجه فكرة وجود عالم فوقي « إلهي « ومقدس، والتواصل مع هذا العالم غير المرئي يكون بقيم اخلاقية مرتبطة بالمثل الأعلى.
يعبر الحرف العربي عن العلاقة الوثيقة بين الأفراد ككتلة جماعية قائمة على الحوار مع الآخر ومشاركته وجدانيا، حيث يصعب أن نجد مفهوما للفردانية في المجتمعات العربية، وهو ما عبر عنه الحرف اصدق تعبير، فحرف « ن « مثلاً بشكله المنحني المعبر عن الرغبة في الاحتواء مع الاحتفاظ بالخصوصية، فالنقطة الوحيدة التي تقوم عليه من دون أن تسقط فيه أو تلتصق به تعبر بشكل فلسفي عن الكونية التي لا تلتصق فيها الكواكب ببعضها، أو بالأرضية التي يؤدي وجودها إلى الإحساس بالنقص والحاجة إلى الإسناد، وإنما تبقى معلقة في السماء سابحة في الفلك اللامرئي، وقد أقسم الله جل جلاله بهذا الحرف لقيمته الكبرى في قوله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)(2)،
راسما النون بالشكل وليس بالصوت، وإذن فقد شبه الله تعالى احتضانه لنبيه بهذا الحرف بالذات، بما يعبر عنه من حنان ودفء، ورغبة في العودة إلى الأصل، وهكذا نجد معظم الحروف ذات الإنحناء تحاول ضم الأحاسيس أو استدعائها، حيث نقوم بملأ الفراغات التي تتركها عن طريق الانحناء، وحروف الهاء والقاف، والميم، والحاء، والراء، والواو، تترك فراغاً سواء كان مغلقاً أو مفتوحاً، واحداً أم متعدداً، بما يتيح الشعور بالتنوع أيضا. وإن الميلان يعبر عن الإحساس بالحرية في الفضاء اللامتناهي الحامل لقيم أخلاقية دافئة لا وجود للسقوط أو للاصطدام الحاد فيها، وإنما للقدرة الفائقة على التكيف والتناغم مع الآخر وعدم الصراع معه، وهو ما يقوم به الخط العربي بصورة معجزة حق، وهذا ما لا نجده في الخط اللاتيني مثلا، حيث تمثل الزاوية الحادة بعدا أساسيا فيه بما ينبئ عن قيم مختلفة تماما، كالصراع والانقطاع، وبهذا يمكن للخط العربي أن يلعب دورا كبيرا حتى في حقول معرفية أخرى كالفلسفة والفن والعمارة وفي مجال العلاج النفسي للتوترات والأمراض النفسية لما فيه من قيم الدفء والتواصل، وذلك بممارسة ما يمكن تسميته بالخط الروحي الذي يتيح الشعور بالحرية والانتماء إلى الكون، وليس الانقطاع الذي يتسبب في معظم الأمراض النفسية.
حظي الحرف العربي بحصانة إلهية عظيمة تتمثل في القرآن الكريم إذ لا يمكن أن يندثر هذا الحرف أو يتبدل أو تتغير قيمته وقوة تعبيره وقدسية استخدامه، حيث أصبح رمزاً وعلامة ثابتة في جبين الحضارة الإسلامية موجداً لها موقعاً عظيماً من بين بقية الثقافات، حينما نجد  ثقافة الصورة في الحضارة الأوروبية وثقافة العلامة في الحضارة الهندية والصينية, وثقافة الخيال في الحضارة الإفريقية بأساطيرها، فوجد الفنان العربي في الخط وفنونه مصدرإلهام ومرجعية متجددة، ولم يتوقف الخطاطون عند الكتابة وفنونها فقط بقدر ما أوجدوا للنصوص دلالات أصبحت أنماطاً لتزيين العمارة وزخرفتها, جامعين فيها بين الخط كهدف للمعنى وبين الشكل الزخرفي متحررين من خلالها من مسار الحرف المخطوط، مع ما يشتمل عليه من إيقاع وحجم معاً إلى تحقيق رغبة جمالية متكاملة البناء، كما قال عنها فرانسوا شانغ: (إن سطوة فن الخط الرائعة تبرز على مستويين، فهو يقوم بتحويل اللغة إلى مرحلة من الخيال الشعري كما يقوم في الوقت نفسه بإعادة تشكيل وصياغة الفضاء المجرد إلى أشكال زخرفية).

المحور الثالث: الخصائص المشتركة بين الخط العربي والعمارة الاسلامية
يشترك الخط العربي مع العمارة الاسلامية بمجموعة من الخصائص الشكلية والتنظيمية ويبتعد عنها في الخصائص الوظيفية والتنطيق الفضائي ومحاور الحركة، حيث لكل منهما وظيفته الأدائية الخاصة به فضلاً عن الأبعاد الرمزية والمعنوية، وتتمثل في الخصائص التالية:

– خاصية التشكيل
تأثرت التكوينات الخطية سابقاً بشكل المعالم المعمارية، فقد كان المعماري يعمل مع الخطاط، في كيفية وضع الخطوط على الجدران وبهذا تعلم الخطاط كثيراً من المعماري في هندسته للأشكال وكيفية املاء الفضاء والصعود عالياً بالحروف مع مراعاة قانون الجاذبية، وبهذا عمل الخطاط تكوينات للمكان المطلوب على جدران البناية تشغل المساحة المخصصة لها، ومن الخطاطين اللذين عملوا مع المعماريين الخطاط راقم(3) الذي كان له جرأة كبيرة في كسر العبارة وإعادة تركيبها حسب تخيلاته. ومن تكويناته المشهورة (لا حول ولا قوة الا بالله) فقد وضع في وسط هذا التكوين الثلاث لاءات المتباعدة في العبارة ولكنه لصق بعضها ببعض، ثم عمل ألف ولام على اليمين وألف وباء على اليسار، العبارة فيها ألف منفردة واحدة، بينما تكوينه احتاج إلى اثنين فأضاف عبارة أخرى هي (العلي العظيم) في الأعلى وخطها بشكل صغير جداً، ولكنه اقترض منها ألِفاً ليستعملها في تكوينه للحروف الكبيرة.
وترك لنا الخطاطون القدماء الكثير من التكوينات في المعالم المعمارية، ففي حدائق  قصر الحمراء خط  صغير كُتبتْ  فيه: (لا غالب إلا الله) وقد أضاف الخطاط في الأعلى امتداد للحروف  وزخارف تشابه الحروف بما يعادل ثلاث مرات حجم التكوين.
لم تعد الكلمات تكتب على شكل سطور في بعض التكوينات، بل على شكل هياكل وكتل تصعد للأعلى كالتماثيل التجريدية في الفضاء، فأخذت الحروف تتشابك فيما بينها تشابكاً مدروساً للحروف وللفراغ المحيط بها. وجاء في مقدمة ابن خلدون: (إن الخط هو من جملة الصنائع المدنية المعاشة فهو لذلك ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان وحيث أن الخط والكتابة هما المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية فإنها بذلك تكون تابعة في نموها وتطورها لتقدم العمران شأن كثير من الصناعات المختلفة ولهذا السبب نجد أن الخط والكتابة ينعدمان في القرى والبدو البعيدين عن المدنية، وتكتسب بالتحضّر والمدنية والعمران) ليعكس الوجود الحضاري للخط، ويأتي التوافق والتآلف عند الخطاطين القدماء من النسب التي تخط بها الحروف وقد ذكر (أخوان الصفا) في القرن العاشر: (أصل الحروف والكتابات كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطها، وأجود الخطوط وأصح الكتابات وأحسن المؤلفات ما كان مقادير حروفها بعضها من بعض على النسبة الأفضل، فينبغي لمن يريد أن يكون خطه جيداً وكتابته صحيحة أن يجعل لها أصلاً يبني عليه حروفه، وقانون يقيس عليه خطوطه والمثال: أن يخط الآلف بأي قدر شاء ويجعل غلظه مناسباً لطوله، وهو الثـُمن وأسفله أدق من أعلاه، ثم يجعل الألف قطر الدائرة، ثم يبني عليه سائر الحروف) و(النسب الفاضلة) هي أفضل العلاقات بين طول وعرض الأشكال. وقد تم الاتفاق عليها منذ القدم ما بين الفنانين والمعماريين والشعراء والموسيقيين عبر دراسات لنسب كل ما هو في الطبيعة من حيوانات ونباتات وبالتالي ترجمت هذه النسب إلى
حسابات رياضية.

– خاصية التشكيل الجمالي:
يمتلك الخط العربي مقومات الفنون التشكيلية، ابتداء بشكله التجريدي وانطلاقاً من ابتعاده عن التشخيص والمحاكاة، والعلاقات الشائكة بين الجوانب المشتركة للخط العربي بتحليل التكوين الفني وفق أسس التصميم؛ الوحدة، التوازن، التوافق، التضاد، والتدرج، والاستفادة من نتائج هذا التحليل في بناء أعمال فنية تشكيلية، تبرز المزيد من الجوانب الجمالية والتعبيرية للخط العربي مما ينقله من عالم التدوين كفن تطبيقي يؤدي وظيفة معينة لها علاقة بخدمة الإنسان، إلى فن من أجل حيوية التعبير، أي نقله من موقعه الذي يتوسط الفنون التطبيقية والفنون الجميلة إلى الفنون الجميلة، مما يغني الفنانين في فنون الرسم والنحت والعمارة وغيرها، يضع خصائص مشتركة بين الخط والعمارة، فقد ارتبط الخط العربي على مدى التاريخ بعلم الهندسة، وأوجد هذا الارتباط علاقة تناسبية بين الحروف وأجزائها، عبّرت عن العلاقة الجمالية والوظيفية بينهما، وكان لهذه العلاقة تأثير في اعتماد مقاييس معينة للحروف من حيث الأبعاد والانتظام والتسلسل. وهذا الارتباط حفز مخيلة البنائين العرب على الإبداع في فن العمارة فقد استخدموا مخيلة الحرف وبعده الفني أساساً معمارياً انتج انماطاً من العمارة المتدرجة والمتوحدة والمنبسطة والمنسطحة والمنكبة والمستديرة وغيرها من الأشكال على المساحة المكانية من الأندلس الى أقاصي الصين، وعلى المسافة الزمنية لخمسة عشر قرناً، نجدها واضحة في قبب ومآذن الجوامع التي تشترك إضافة إلى الحروف العربية القرآنية المنقوشة بأنماط وأشكال تؤالف في انسيابها البناء، ليشقا معاً السماء دعوة الى الله.

– خاصية الأداء الوظيفي:
اقترن التصميم سواء في العمارة والخط العربي القيم المادية الصناعية عموما، ولكن القيم المادية في التصميم لا تشبه تلك القيم المادية التي تمتاز بها الأعمال الفنية العظيمة فضلاً عن قيمتها المعنوية. وإنما القيمة المادية في التصميم تبرز من خلال القدرة الأدائية والوظيفية والنفعية وهذه الخصائص والمميزات هي التي تحدد القيم المادية في فن التصميم. هكذا تسعى التصاميم في الغالب إلى تحقيق أعلى قدرة أدائية ووظيفية ونفعية مقابل ارتفاع قيمتها المادية وإشباع حاجات الإنسان الأساسية، ولا يعني ذلك خلو التصاميم من القيم الجمالية المعنوية فالعديد من الرموز والدلالات التاريخية والتراثية تعد من المعاني الخلاقة التي تمثل الأصالة والخبرة التي تستند إلى الماضي العريق والذي تفخر به الشعوب كرموز تحدد انتمائها كما هو الأمر في العمارة فالعديد من التصاميم اليوم تستذكر وبتقنيات عالية جزءاً كبيراً من تراث شعوبها الخالد باستعارة العديد من رموزه في العمارة. والتصميم يؤدي ذلك الدور أسوة بكل الفنون البصرية والجميلة لأن كيانه المادي في الشكل يتكون من ذات العناصر والأسس والعلاقات والقواعد التنظيمية والمكونات التي تتكون منها بقية الفنون، ولكن الاشتراطات الإضافية للتصميم عن بقية الفنون تجعل من أدائه الوظيفي ضرورة لا يمكن التخلي عنها لصالح الجمال أو لصالح إي شئ أخر.

– خاصية التناسب والاتزان:
اعتمدت المنظومات التناسبية في كل من العمارة الاسلامية والخط العربي علاقات هندسية تعبر عن حضور الانتظام والتوازن والوحدة بين الأجزاء. وقد ارتبطت بمتغير التناسب والاتزان والذي دفعته للجوء الى التناسب الناتج من استخدام وحدات نسبية ومألوفة مشتقة من أبعاد جسم الإنسان وباعتبار أن الطبيعة بلغت حد الكمال في جسم الإنسان وهناك نسب مدهشة للأبعاد المكافئة، مثل اليد التي تغطي الوجه بالضبط والقدم الذي يمثل واحد الى ستة من الجزء الأعلى من الجسم وعرض اليد الذي يقيس أربعة أصابع إبهام ولم يقتصر الهدف على تحقيق ضرورات وظيفية، وإنما توفير نسب عقلانية وجمالية للنتاج. ولقد أكد (فيتروفيس) على أن أحد الحقائق التي اعتمدت في المنظومات التناسبية لدى الإغريق هي المماثلة مع جسم الإنسان وأوصى بتبنيها في حقل العمارة، إلا أنه لم يضع صيغة ثابتة ومحددة، كذلك في عصر النهضة، تم دراسة جسم الإنسان واعتمد في نظريتهم التناسبية إيماناً منهم بأن جسم الإنسان هو من صنع الإله مهندس الكون الأعظم وعليه ترتبط هذه التناسبات (العلاقات الهندسية والعددية لجسم الإنسان) بمبادئ النظام الكوني وتتماثل مع الخط والعمارة.

– خاصية القدسية والجلال:
تأثرت التكوينات الشكلية للخط العربي والعمارة الإسلامية بجدلية العلاقة بين القدسية والجلال فما يحمل صفة المقدس يتضمن بين ثناياه الجلال والسمو، فالجليل Sublime: ما جاوز الحد في الروعة في مجال الفن أو في الأخلاق أو في الفكر. وهو وثيق الصلة بالجميل وكأنه جمال قاهر، وأكد هذه الصلة كثيرون من الفلاسفة المحدثين والمعاصرين. وأن الجميل Beautiful صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سروراً ورضاً،وهو محدود متناه والجليل غير محدود وغير متناه، وبشكل عام فاذا كان الجميل يبعث البهجة والرضا، فالجليل (المقدس) يبعث في النفس الخشية والدهشة والذهول والرهبة، كما أنه يرتبط بمفهوم السمو ومفهوم العظمة، والمقصود بالعظمة معنوياً الكبرياء والجبروت، أما مادياً فهي ما غَلُظ وضَخُم من الأجسام.

– خاصية التميز والتفرد:
ترتبط هذه الخاصية بدرجة التفرد في التعامل مع الخصائص الشكلية والتنظيمية للنتاج سواءً كان عمارة أو تشكيلاً خطياً، وترتبط هذه الخاصية بمجموعة مفردات ثانوية كالتناقض والإزاحة وخرق القواعد التركيبية المألوفة باتجاه تحقيق الخصوصية المبدعة.

– خاصية الوحدة والتنوع:
وترتبط هذه الخاصية بدرجة التنوع ضمن الوحدة في التعامل مع الخصائص الشكيلية والتنظيمية ضمن وحدة كلية شمولية في إطار التعدد والترابط والتكامل في العلاقات.

– خاصية التآلف:
وتوصف بمدى ارتباط الخصائص الشكلية للنتاج بمرجعية مألوفة بالنسبة للمتلقي من خلال استخدام المفردات الشكلية المألوفة ومن ثم دمجها في سياقات جديدة وتحولات غير متوقعة مما يؤدي إلى جذب المتلقي إلى ما يألفه ومن ثم محاولة فهم واستيعاب الهدف وراء التغيير الذي أجري عليه، الا أن تأثيرها يعد قليلاً مقارنة ببقية الخواص.

نشرت في العدد 33


(1) سورة السجدة / الآية 5.
(2) سورة القلم / الآية 1
(3) وُلد مصطفى راقم في استنطبول عام 1757م وتوفى عام 1826م وترك لنا الكثير من التكوينات التي تتميز بالأناقة والكمال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.