لقد وجد الإنسان على وجه المعمورة حتى يكون داخل المجتمع الإنساني ويعمل لأجل الوصول إلى غاياته وأهدافه ونجد من أبرز النماذج التفسيرية لعملية التناسل وتحديد النوع، ما وضحه أرسطو لنا عن طريق النموذج الفلسفي المدعم بالأسانيد العقلانية، حيث تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع. إضافة إلى أن نمط التفكير الأرسطي ليس في واقع الأمر غريبا عن خطابنا الحديث، لاسيما العلمي منه، فمازلنا حتى الآن نجهل على وجه اليقين مكمن القدرة على تحديد النوع، فلذلك اتضح أن الإنسان هو أعلى قيمة في كونه يعمل على تكاثر المجتمع الإنساني وتشعب مفاهيم الحركة. والأنسنية كحركة أعادت تقييم الأوضاع السائدة في القدم، ثم لم تلبث أن تحدت المعنى الذي خلعه على الوجود زعماء اللاهوت في ذلك العصر. وكانت الانطلاقة الأولى في الحركة ظهور جماعة من المفكرين الأنسنيين، أعلنوا توضيحاً للحياة يتفق مع المفاهيم الإنسانية. إذ مضت تلك الجماعة الأنسنية قُدما في تحدي الازدراء الذي نظر به الغير إلى عالمنا، وأكدت جزماً أن
الأرض مقام جميل طيب، وأن الوجود الإنساني هبة ثمينة للغاية، وأنه ليس أمراً عرضياً وبغيضاً كما يُروج لذلك الآخر. ولما كان للقدامى نفس الوضع، فإن الأنسنيين التجئوا لدعم منطقهم الجريء إلى نفوذ الإغريق واللاتين، ومن ثم اتخذت الحركة الأنسنية من زاوية تلك الحاجة شكل إحياء التراث القديم. ويمكن اعتبار أولئك الأنسنيين الثائرين، ابتداء من بتراركه، جماعة من المجددين، اتصفوا بالإدراك والتبصر، ونجحوا على تردد بعضهم في سحق قيود القرون السالفة، لذلك كانت الأنسنية نهج يحترم الإنسان وينزله المنزلة اللائقة به، فهى تقول بالانسان كأعلى قيمة في الوجود، كما أنها تهدف إلى التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسباً لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. ففي رحاب الأنسنية لا يوجد سوء تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على عقب، ولا يوجد كذلك تاريخ لا يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما فيه من عذابات وإنجازات.
ولو طرح سؤال هنا : ما هي الأنسنية؟ فيجدر الجواب على أنها تعد الإنسان أنسنياً (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافياً وقد نجدها تخرق المفهوم القائل بأن تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حتما مع التجديد المستمر للمعطيات المعاصرة. وإذا اتخذنا التاريخ كمثال،
نجد أن الأنسنيين يرونه مساراً غير محسوم، قيد التكوين، لا يزال مفتوحاً على حضور الناشئ والمتمرد وغير المستكشف وغير المقدر حق قدره وما يطرحه من تحديات. كما أنهم يرون أن الإنسان هو صانع التاريخ، لذلك كان لزاماً على الإنسان العربي أن يجد نفسه وسط تحديات الأنسنة لأن فرصته ليست أقل من فرص غيره من إخوته فى الإنسانية، فالعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وعليه يصير مقبولاً، ويجب أن لا نفرق بين العقل العربي وبين غيره من عقول الغرب وذلك كونه حامل رسالة الإنسانية السامية من السماء.