لا يختلف اثنان في أن النص التراثي الديني الذي تملكه أي طائفة من الطوائف وأي مذهب من المذاهب، يعد أحد الأعمدة الأساسية لذلك المذهب وتلكم الطائفة على اعتبار أن النص التراثي التشريعي يتضمن بين جوانبه الأسس والنظريات التي تؤطر الفكر العقائدي لذلك الكيان، كما يحوي في سطوره القوانين والأحكام التي تنظم الجانب السلوكي العملي لجميع الأفراد المنضوين تحت الكيان أياً كان شكله وامتداده الجغرافي والحضاري.
وفي الأدبيات الإسلامية يعد (الحديث الشريف للمعصوم) أحد أهم مرتكزات النص التراثي للمذاهب الإسلامية، لذلك نجد أن المسلمين على اختلاف مللهم ونحلهم قد اعتنوا بكتابة الحديث وتدوينه وروايته ودرايته ونقله عبر التاريخ جيلاً بعد جيل وكابراً بعد كابر.
الشيعة وتدوين الحديث
وقد كان للحالة الشيعية موقع متقدم بين تلك المذاهب الإسلامية في العناية بالحديث من عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحتى عصرنا الراهن انطلاقاً من حرص أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على حفظ هذا التراث وصيانته وتعزيز دوره في حياة المسلمين الشيعة وخلق حالة من الثقافة الاجتماعية لدى الوسط الشيعي تعتمد أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) كإطار يحكم كل النظم التنظيرية والتطبيقية بحيث يعد تجاوزه خروجاً عن الخطوط الحمراء التي وضعها الأئمة(عليهم السلام) لإيجاد حالة من الانضباط الفكري تمنع من تسلل البدع وأفكار الضلالة والانحراف إلى داخل المؤسسة الجعفرية والنخب الشيعية.
وبالرغم من تصاعد سطوة الإرهاب السياسي والفكري الذي مارسته الأنظمة الحاكمة على هذه العصابة المحقة، فإن الرواة والمحدثين من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) بذلوا جهداً استثنائياً في تدوين الحديث الشريف وحفظه ونقله، فقد فشلت كل المحاولات التي اتخذها أئمة الجور وحكام الضلال في عزل أئمة أهل البيت(عليهم السلام)
عن المحيط الجماهيري للموالين وعزل أصحاب الأئمة عن اللحاق بركب حركة النشر والتدوين التي روجتها السلطة في مواجهة المد المحمدي الأصيل الذي مثلته الشيعة، وقد تنوعت أساليب العنف الممارس ضد الشيعة وأئمتهم ابتداءً بحالة التصفية الجسدية مروراً بالحبس والتنكيل والتشريد وانتهاءً بإحراق المكتبات النفيسة للمحدثين والفقهاء والتي ساهمت بشكل كبير في ضياع الكثير من المصنفات التي بذل الدم من أجل جمعها وتدوينها، وبالرغم مما نال ذلك التراث من غائلة الزمن وبائقة الدهر فقد ورثت أجيال الشيعة تراثاً ضخماً من الكتب والأصول والرسائل والمصنفات الحديثية فاقت في قوتها ومتانتها كل ما أنتجته بقية الفرق والمذاهب الإسلامية.
ويعد كتاب (الكافي)، من تأليف ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني (ت329هـ)، من أهم وأوسع وأشمل ما صنف من كتب الحديث التي اعتمدت بشكل مباشر على أصول وكتب حديثية خلفها أصحاب الأئمة والتي كان الأئمة عليهم السلام يحرصون على حفظها وتدوينها لتصل إلينا كما وصلت اليوم بهذه القوة والمتانة.
ولا نحتاج إلى مزيد من كيل عبارات المدح والتقريظ لنوضح المكانة العلمية لكتاب الكافي ففيه ما بسط الله تعالى له من الشهرة وعلو الشأن وانتشار الصيت والذكر كفاية عن مدح المادح ووصف الواصف، ورغم ذلك فقد انقسم تقييم المستوى العلمي لروايات الكافي بين أعلام ومحدثي المذهب الشيعي إلى قسمين أساسيين وقعا بين الإفراط والتفريط، وباختصار شديد: اعتبرت المدرسة الإخبارية المنضوية تحت جناج الملا محمد باقر الاسترآبادي (ت1041هـ) أن جميع روايات الكافي بل وجميع روايات الكتب الأربعة قطعية الصدور عن المعصومين(عليهم السلام) وهي صحيحة بلا استثناء.
ووقف في الجانب الآخر مناصرو المدرسة الأصولية ليطرحوا ثلثي روايات الكافي من الاعتبار بحجة ضعف أسانيدها.
وبين هذا الرأي وذاك سيدور نقاشنا الهادئ هذا على طاولة البحث العلمي.
أولاً: تعريف (الحديث الصحيح) بين القدماء والمتأخرين.
أول ما يواجه الباحث عند تحقيقه في مسألة تقييم روايات الكافي ومستوى الاعتبار والحجية التي تمثله هذه الروايات، مسألة التعريف الاصطلاحي للحديث الصحيح، الذي كان منشأ الخلاف في عملية التقييم بين المدرستين.
عرف قدماء الشيعة ممن كانوا في زمن الغيبة الصغرى أو ما بعدها بقليل الحديث الصحيح بأنه: (الحديث الذي يقترن بما يوجب الوثوق به ويعتضد بما يلزمه الاعتماد عليه، أو بما أوجب العلم بمضمونه)، نحو:
1ـ وجوده في كثير من الأصول الأربعمائة التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة(عليهم السلام)، وكانت متداولة في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رابعة النهار.
2ـ تكرره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.
3ـ وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار، أو على تصحيح ما يصح عنهم كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، أو على العمل برواياتهم كعمار الساباطي.
4ـ اندراجه في أحد الكتب التي عرضت على الأئمة صلوات الله عليهم، فأثنوا على مصنفيها، ككتاب عبيد الله بن علي الحلبي الذي عرضه على الصادق(عليه السلام)، وكتابي يونس بن عبد الرحمان والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري(عليه السلام).
5ـ كونه مأخوذاً من الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها، والاعتماد عليها (راجع: وسائل الشيعة 30\198).
وفي حين ظلت هذه المعايير هي الحاكمة على تصنيف الحديث منذ انتهاء الغيبة الصغرى وحتى القرن السابع الهجري، أحدث العلامة الحلي (ت726هـ) انقلاباً في المفهوم الفكري للمصطلح عندما وضع تعريفاً جديداً للحديث الصحيح مناسباً لحالة البعد الزمني عن عصر تدوين وجمع تلك النصوص الروائية على حد ما يبرر مناصرو ومؤيدو مذهب العلامة الحلي في تعريف الحديث (دراسات في الحديث والمحدثين \هاشم الحسني 41).
وقد لوحظ في هذا التعريف الجديد أنه يقترب في ألفاظه ومحتواه من تعريف الحديث الذي سبق وأن وضعه المحدثون والرواة في مذهب أهل السنة وكما يوضح النص التالي:
– تعريف الحديث الصحيح عند السنة: (ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة…). (شرح مسلم للنووي 1\27).
– تعريف الحديث عند الشيعة الأصوليين: (ما اتصل سنده بالعدل الإمامي الضابط حتى يتصل إلى المعصوم من غير شذوذ ولا علة) , (نهاية الدراية للسيد حسن الصدر235).
وانطلاقاً من هذا التغيير المفهومي الجديد فقد قسم العلامة الحلي أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) وفق نظام مشابه للتقسيمات السنية للحديث مع إضافة (الحديث الموثق) لتصبح أقسام الحديث الأساسية كما يلي:
(الحديث الصحيح، الحديث الحسن، الحديث الموثق، الحديث القوي، الحديث الضعيف).
ونتيجة لهذا التصنيف فقد خرجت المدرسة الأصولية بهذه الأحصائية عن تقسيم الأحاديث الواردة في كتاب الكافي (الذريعة إلى تصانيف الشيعة 17\245):
* عدد الكتب : أربعة وثلاثون كتاباً (34 كتاب).
* عدد الأبواب : ثلاثمائة وستة وعشرون باباً (326 باب).
* عدد كل الأحاديث : ستة عشر ألف حديث (16000).
* عدد الصحيح: 5072.
* عدد الحسن: 144.
* عدد الموثق: 178.
* عدد القوي: 302.
* عدد الضعيف: 9485.
* ملاحظة : ولكن مجموع أحاديث الصحيح والحسن والموثوق والقوي والضعيف هي (15181) حديثاً، وبالتالي الظاهر أن رقم ستة عشر ألفاً حديث كان تقريباً، حيث هناك فرق (819) حديثاً.
أما العلامة السيد مرتضى العسكري (ت1428هـ) فقد قدم إحصائية أخرى لمجموع أحاديث الكافي كما في كتابه معالم المدرستين 3\282 حيث قال: (وإن أقدم الكتب الأربعة زماناً وأنبهها ذكراً وأكثرها شهرة هو كتاب الكافي للشيخ الكليني، وقد ذكر المحدثون بمدرسة أهل البيت أن فيها خمسة وثمانين وأربعمائة وتسعة آلاف حديث ضعيف من مجموع 16121 حديث…).
وكيفما كان فإن هذا التصنيف قد اعتبر أن أكثر من (ثلثي) كتاب الكافي هي أحاديث ضعيفة غير معتبرة لا في الأحكام ولا في العقائد، في قبالة الرأي الإخباري الاسترآبادي الذي قطع بصحة جميع الأحاديث، وبين هذا وذاك فإننا نعتقد أن هناك نوعاً من (المظلمة) قد أصابت هذا الكتاب الكبير وجهود مؤلفه العظيم والتي تستحق منا وقفة ولو قصيرة ورحم الله السيد شرف الدين العاملي (ت1377هـ) الذي كان يقول: (إن مضامين الكافي صحيحة) (نقلها عنه الشيخ علي الكوراني في كلام له على قناة المعارف الفضائية).
(الكافي) وقواعد علم الرجال
إن الباحث المنصف ليجد من الصعوبة بمكان القبول بأن الشيخ الكليني أخذ (ثلثي كتاب الكافي) عن مجموعة من الرواة الكذابين والوضاعين والضعفاء والغلاة والمجاهيل وحشا بها كتابه الكافي الذي اعترف الجميع بأنه أفضل كتاب صنف في الحديث على الإطلاق .
قد يحتج علينا البعض أن هذا التقييم الذي طرح ثلثي روايات الكافي قد اعتمد على قواعد وأسس علمية رصينة وضعها (علم الرجال) الذي يبحث في وثاقة الرواة وصدقهم وتثبتهم وأقوال الجرح والتعديل فيهم وبالتالي فالمنهجية صحيحة وسليمة حتى وإن كانت النتيجة غير مرضية للعاطفة والأذواق الشخصية !
في الحقيقة… أي باحث يطالع (علم الرجال) و(قواعده) لا بد له من تسجيل اعتراض هنا وهناك على المنهجية العلمية التي يسلكها منظرو هذا العلم والتي على أساسها يتم تقييم درجة الحجية للحديث ومقدار قوة النص التراثي للرواية، ولهذا نجد في كل جيل أن الفقهاء والمحدثين والرجاليين يضعون استدراكات وقواعد جديدة في علم الرجال ربما تختلف عن تلك التي وضعها السابقون لهم وهكذا دواليك، وأنا شخصياً سمعت من سماحة السيد كمال الحيدري اعتراضات متعددة على قواعد الجرح والتعديل المعتمدة في كتب الرجال، كما يؤكد المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم في كتابه (المحكم من أصول الفقه) 1\9 في حديثه عن (علم الدراية) المختص ببحث الأسانيد ومصطلحاتها أن العديد من تلك المصطلحات مستوردة من أدبيات الدراية عند أهل السنة حيث يقول: (لم يتضح توقف الاستنباط على علم الدراية، لأن مرجع أكثر مسائله إلى تفسير مصطلحات القوم، أو بيان حكم الحديث، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن مقام الحجية، وإنما يبحث عن الحجية في قليل من المسائل التي لا مانع من عدها من علم الأصول وإن لم تحرر فيه).
وحتى نلم بأطراف البحث نلخص للقارئ الكريم جملة الاعتراضات التي نسجلها على قواعد ومبتنيات علم الرجال والتي قادت لهذه النتيجة السيئة لروايات الكافي: أولاً: إن التوثيق والتضعيف عملية تخضع لآراء الأشخاص وأفهامهم وربما أذواقهم في تقييم الراوي ودرجة وثاقته وضعفه ومقدار ما يجوز الأخذ عنه ورده من الحديث والنقل، ولهذا اشتهر لدى الباحثين (تشدد القميين) ونسبتهم الراوي للضعف والوضع والغلو والارتفاع في المذهب لمجرد روايته بعض المقامات الرفيعة للنبي والأئمة صلوات الله عليهم والتي قد تضيق أحلام الرجال بفهمها، يقول السيد حسن الصدر (ت1354هـ) في كتابه (نهاية الدراية) ص382: (لا اعتداد عندي بجرح مثل ابن الغضائري وأمثاله المكثرين من الجرح مع عدم ذكر السبب، ولا بأكثر القميين الجامدين الذين يرمون بالغلو كل من ينفي السهو عن المعصوم(عليه السلام) أو من يروي الروايات المشتملة على المضامين العالية، والعلوم الغامضة)، ويؤكد هذا النتيجة الفقيه السيد مهدي بحر العلوم (ت1212هـ) في الفوائد الرجالية 2\368 قائلاً: (في الاعتماد على تضعيف القميين وقدحهم في الأصول والرجال كلام معروف، فإن طريقتهم في الانتقاد تخالف ما عليه جماهير النقاد، وتسرعهم إلى الطعن بلا سبب ظاهر، مما يريب اللبيب الماهر…).
وعليه قس كل ما سواه فإن كثيراً من التضعيفات المذكورة في علم الرجال لا تعدو كونها اجتهادات شخصية لا توجب علماً ولا يقيناً، كما إن بعض تلك الطعون والتضعيفات غير ناشئة من الشهادة العيانية بحق الراوي بل لعلها معتمدة على الحدس والظن والترجيحات العقلية نتيجة البعد الزمني بين العالم الرجالي وذلك الراوي ومثال ذلك تضعيف علماء الرجال للمحدث الجليل (أبان بن أبي عياش) وهو الذي روى كتاب سُليم بن قيس الهلالي (ت76هـ) الذي يحكي أحداث حقبة حساسة من التاريخ الإسلامي بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فإن أبان توفي سنة 141 والطوسي وابن الغضائري الذين نسباه للضعف عاشا في القرن الرابع والخامس!! فكيف يستقيم تضعيفه مع اعتماد أصحاب الأئمة الثقات الأثبات على روايته ونقلهم لكتاب سليم واعتنائهم به في مختلف الطبقات؟!.
ثانياً: إن كثيراً من تلك القواعد والأسس الرجالية كانت ولا تزال مثار جدل وخلاف بين العديد من الفقهاء وعلماء الحديث والرجال أنفسهم، فمثلاً:
– اختلفوا في كون الراوي كثير الرواية: فاعتبره البعض أمارة على الوثاقة وقال آخرون بل أمارة على المدح فقط أما الباقون فقالوا: لا يدل على المدح ولا على التعديل.
– اختلفوا في كون الراوي من مشايخ الإجازة: عدها البعض من أمارات الوثاقة ونفاها آخرون.
– اختلفوا في كون الرواي وكيلاً لأحد الأئمة(عليهم السلام) فجعلها البعض من أقوى إمارات الوثاقة وتوقف آخرون في ذلك.
– اختلفوا في كلمة (ثبت) هل تدل لوحدها على الوثاقة؟
– ترحم الشيخ الصدوق (ت381هـ) على مشايخه هل يدل على توثيقهم؟ يوجد خلاف في المسألة.
وهكذا قلما تجد اتفاقاً بين الرجاليين على قاعدة من القواعد أو نص من النصوص، والقارئ الكريم يعلم أن الاختلاف في القاعدة يضعف من حجيتها.
ثالثاً: لو قمنا بعملية مسح استقرائي لروايات جملة من الرواة الذين رموا بالضعف والغلو لوجدنا أكثرها روايات مستقيمة وذات مضامين جليلة ومتون قوية، أضف إلى ذلك تكرار رواياتهم في كثير من الكتب الحديثية المعتبرة لدى الشيعة.
الشيخ الكليني أوثق الناس وأثبتهم
وبالعودة لكتاب الكافي فإذا كان ثمه نقاش في روايات الكافي والقوة السندية لها بحسب قواعد علم الرجال الذي عرفنا حالها، فإن الجميع متفقون ومجمعون على أن الشيخ الكليني كان (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث) (رجال النجاشي 377)، وانه كان خبيراً بالأخبار والرجال عارفاً بالسنن والآثار ثبتاً في النقل وثقة في القول لا مطعن فيه ولا مغمز ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير، ومن علامات قوة الكتاب ومتانته أن مؤلفه عاش في زمن الغيبة الصغرى قريباً من السفراء ووكلاء الإمام المهدي(عليه السلام) وخالطهم وأخذ عنهم مما جعله من أكثر المصادر الحديثية قرباً من زمن المعصومين(عليهم السلام).
وفي الحقيقة أود الانطلاق من عبارة (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث)، فتارة يوصف الراوي بأنه (ثقة) ومرة نصفه بأنه (ثقة ثبت) ولكن في حالة الكليني اختلف الوصف تماماً فهو ليس ثقة فقط ولا ثبتاً فقط بل هو: (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث).
لقد كان ديدن الرواة وأرباب الأخبار والحديث أنهم إذا رأوا الثقات قد اعتنوا بروايات شخص ورووها في كتبهم وعملوا بمضمونها فإنهم يعتبرون ذلك من أمارات قبول تلك الروايات وإن كان الراوي لها موصوفاً بالضعف أم متهما بالحديث أو ما شابه ذلك فإن الثقة الثبت لم يكن ليروي حديثه إذا اعتقد فيه الكذب والتخليط أو أن ذلك الثقة الثبت لا يروي من حديثه إلا ما اعتقد بصحته وجزم بسلامة متنه، قال الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا 1\24 بعد أن ذكر حديثاً في سنده محمد بن
عبد الله المسمعي: (كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد(رضي الله عنه) سيئ الرأي في (محمد بن عبد الله المسمعي) راوي الحديث وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي).
أضف إلى ذلك فإن البعض من علماء الرجال وأهل الدراية قد اعتبروا أن رواية الراوي عن الضعفاء والمجاهيل تعتبر من علامات ضعفه في الحديث وقلة ضبطه وتثبته وتدني حاجز الورع عنده في نقل الحديث الصحيح الخالي من الأخطاء والشوائب.
فإذا كانت (رواية الثقات الأثبات) عن راو معين شاهداً على صحة مروياته فكيف بما يرويه (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث)؟!.
وإذا كان كثرة الرواية عن الضعفاء والكذابين والمجاهيل من موارد الطعن على الراوي فكيف ندعي أن (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث) يروي ثلثي كتابه عن الضعفاء؟!.
ومما يؤكد مقولة (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث) أن الشيخ الكليني لم يكن مستعجلاً لتأليف كتاب الكافي في مدة قصيرة ليباهي به الفقهاء وأهل الحديث في المجالس ومنتديات العلم والذكر فقد كان متأنياً صبوراً مجاهداً في طلب الحديث ودرايته والتريث في أخذه والالتزام بضبطه لئلاً يكون لأحد ملجأ للطعن أو طريق للتوهين، ولذلك استمرت عملية تأليف الكتاب وجمعه عشرين سنة… عشرون سنة ليست بالفترة القصيرة ولا بالمدة القليلة بل هي عمر كامل لا يقدر على تحمل مشاقه وشدة وطأته إلا من كان مثابراً شرساً في مواجهة الصعاب وتذليلها كما هو حال شيخنا الكليني، ولقد أحسن وأجاد المحدث الجليل الشيخ حسين النوري الطبرسي (ت1320هـ) في كتابه مستدرك الوسائل 3\476 عندما تحدث عن استحقاقات عبارة (أوثق الناس وأثبتهم في الحديث) قائلاً: (فإذا كان أبو جعفر الكليني(رحمه الله)
أوثقهم وأثبتهم في الحديث، فلا بد وأن يكون جامعاً لكل ما مدح به آحادهم من جهة الرواية، ولا يقصر نفساً، ولا حالاً ورواية عنهم، فلو روى عن مجهول أو ضعيف ممن يترك روايته، أو خبرا يحتاج إلى النظر في سنده، لم يكن أوثقهم وأثبتهم، فإن كل ما قيل في حق الجماعة من المدائح والأوصاف المتعلقة بالسند يرجع إليهما، فإن قيس مع البزنطي وأضرابه، وجعفر بن بشر، فلا بد وأن يحكم بوثاقة مشايخه، وإن قيس مع الطاطري وأصحاب الإجماع فلا مناص من الحكم بصحة حديثه، بالمعنى الذي ذكرناه، وإنه لم يودع في كتابه إلا ما تلقاه من الموثوقين بهم وبرواياتهم، وبذلك يصح إطلاق الحجة عليه، كما مدح بهذه الكلمة بعضهم، وعدوها من الألفاظ الصريحة في التوثيق، وقالوا: إن المراد منها أنه ممن يحتج بحديثه. قال المحقق الكاظمي في عدته: إن هذه الكلمة صارت بين أهل هذا الشأن تدل على علو المكان، لما في التسمية باسم المصدر من المبالغة، كأنه صار من شدة الوثوق، وتمام الاعتماد، هو الحجة بنفسه، وإن كان الاحتجاج بحديثه).
ويضيف الشيخ النوري متحدثاً عن دلالات المدة الزمنية التي قضاها الشيخ الكليني في تأليف كتاب الكافي قائلاً بعد أن ذكر عبارة النجاشي أن الكليني صنف كتابه في عشرين سنة: (وظاهرٌ أن ذكره لمدة تأليف الكافي لبيان أثبتيته، وأنه لم يكن غرضه مجرد جمع شتات الأخبار، فإنه لا يحتاج إلى هذه المدة الطويلة، بل ولا إلى عشرها، بل جمع الأحاديث المعتبرة، المعتمدة، الموثوق بها، وهذا يحتاج إلى هذه المدة، لاحتياجه إلى جمع الأصول والكتب المعتبرة، واتصالها إلى أربابها بالطرق المعتبرة، والنظر في متونها، وتصحيحها وتنقيحها، وغير ذلك مما يحتاج إليه الناقد البصير، العالم الثقة، الذي يريد تأليف ما يستغني به الشيعة في الأصول والفروع إلى يوم القيامة، هذا غرضه وإرادته، وهذا تصديق النقدة ومهرة الفن، وحملة الدين، وتصريحهم بحصول الغرض ووقوعه. ويظهر من أوثقيته وأثبتيته أيضا أنه مبرم عن كل ما قدح به الرواة، وضعفوا به من حيث الرواية، كالرواية عن الضعفاء والمجاهيل، وعمن لم يلقه، وسوء الضبط، واضطراب ألفاظ الحديث، والاعتماد على المراسيل التي لم يتحقق وثاقة الساقط عنده، وأمثال ذلك مما لا ينافي العدالة، ولا يجتمع مع التثبت والوثاقة).
الكليني يشهد بصحة روايات الكافي
ومن موراد القوة التي تميز كتاب الكافي، أن مؤلفه لم يجعله (موسوعة حديثية) يجمع فيها الغث والسمين من الأحاديث والساقط والناهض من الأخبار، بل ذكر المؤلف في ديباجة كتابه أنه صنف هذا الكتاب على أنه (كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن
الصادقين(عليهم السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله)) (مقدمة الكافي 1\8).
فالهدف أن يكون مرجعاً (ويأخذ منه من يريد علم الدين) على المستوى التنظيري و(العمل به بالآثار الصحيحة عن
الصادقين(عليهم السلام)) على المستوى التطبيقي، وهكذا فقد شهد الكليني بصحة ما ورد في كتابه الكافي وأنه يشتمل على ما عليه العمل من السنن القائمة، فإذا قلنا ـ والحال هذه ـ أن الكافي قد اشتمل على أكثر من تسعة آلاف حديث ضعيف فهذا لا يعدو أن يكون أحد أمرين:
أحدهما: أن الكليني ـ وحاشاه ـ شهد بشهادة كاذبة، زوّر بها الحقائق وخدع بها الناس إذ لم يحو كتابه إلا ثلثاً واحداً فقط من الصحيح والباقي ضعيف وموضوع.
وهذه النتيجة لا يقر بها أدنى من له معرفة بثقة الإسلام الكليني فضلاً عن أتباعه ومواليه وأبناء مذهبه ممن خبروه وعرفوا حاله في الوثاقة والصدق والنقاء والعفة.
ثانيهما: أن الكليني لم يكن كاذباً بل كان جاهلاً بالرجال وأحوالهم وبالرواة وأخبارهم عاجزاً عن تمحيص الأسانيد والأخذ ممن يوثق به ويركن إلى صدقه، وهذا القول لا يقلُّ سوءاً وانحطاطاً عن سابقه ولا يمكن أن يلصق بأي (ثقة) من الرواة فضلاً عن أوثق الناس وأثبتهم في الحديث.
فإذا سقط هذان الخياران لم يبق إلا القول: إن الكليني بشهادته كان صادقاً عالماً ذا خبرة ودراية وفهم وعناية وتورع عن رواية المكذوب والضعيف والساقط من الآثار وهمة في نقل الصحيح من أخبار الصادقين(عليهم السلام)
التي عليها السنن القائمة مما عملت به الفرقة الناجية والعصابة المحقة، فإذا اتفقت الكلمة على صحة هذه الشهادة فقد حصل القطع ببطلان القول الذي أسقط ثلثي روايات الكافي عن الاعتبار.
روايات (الكافي) تخضع للتمحيص
لقد أجمعت روايات أهل البيت(عليهم السلام) على وجوب أخذ الحديث من الثقات والصادقين في النقل ـ كما هو حال الكليني كما أثبتنا سابقاً ـ ومع ذلك فقد حرص أئمة أهل البيت(عليهم السلام) على تربية رواة الشيعة وشبابهم والسائرين على خطهم لكي يُخضعوا (روايات الثقات) للفحص والتمحيص والدراية والفهم، فحديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، كما ورد عن العلماء(عليهم السلام).
ونستطيع أن نلخص (قواعد التمحيص) المأثورة عن أهل البيت(عليهم السلام) بما يلي: أولاً: عرض الحديث على كتاب الله العزيز (القرآن الكريم): فما وافق كتاب الله يؤخذ به ويعمل وما خالفه يرفض ويرد، وفي هذا وردت روايات كثيرة منها:
* المحاسن 1\226: عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: (إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله فدعوه).
* الاستبصار 1\190: (إذا جاءكم عنا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاطرحوه). ثانياً: إذا اختلف الحديثان في الحكم يرجح ما كان مخالفاً للعامة ويترك ما كان موافقاً لهم، ففي الوسائل 27\188 عن الصادق(عليه السلام): (فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبراهم فخذوه).
وفي رواية أخرى: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم).
ثالثاً: إذا اختلف حديثان وكان كلاهما مخالفاً أو موافقاً للعامة فيخذ بالمجمع عليه من الأخبار ويترك الشاذ النادر.
ففي مقبولة ابن حنظلة: (ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه) (الكافي 1\68).
وقد لخص الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) تلك الشروط في ما رواه الشيخ الصدوق في عيون أخباره 1\23: (إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل نهي إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين، رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) نهي اعافة أو أمر فضل فذلك يسع استعمال الرخص فيه، إذا ورد عليكم عنا فيه الخبران باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعا أو بأيهما شئت وأحببت موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول(صلى الله عليه وآله) والرد إليه والينا وكان تارك ذلك من باب العناد والانكار وترك التسليم للرسول(صلى الله عليه وآله) مشركاً بالله العظيم، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله فما كان في كتاب موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن النبي فما كان في السنة موجوداً منهياً عنه نهي حرام مأموراً به عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكرهه ولم يحرمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتباع والرد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وما لم تجدوه في شيء من الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا بآرائكم وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا).
وهكذا وقفنا في منتصف الطريق بين الخطين اللذين تعاملا مع الأخبار والروايات الشريفة في كتاب الكافي أعظم مصنف حديثي في تاريخ الإسلام، فلا إفراط في تضعيف روايات الكافي وطرح تسعة آلاف حديث تشتمل بمجموعها على درر الحكم ومجمع المواعظ والفضائل والأحكام والعقائد مما ورثناه عن العلماء
الصادقين(عليهم السلام)، ولا تفريط في قبول الروايات دون تمحيص ودراية وفهم ومعرفة وعرض على الكتاب وإجماع السنة وما عليه العمل، وهذا أقل ما يقتضيه واجب الوفاء للشيخ الجليل أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، رحمه الله تعالى برحمته وجزاه عن دينه وأهل بيت رسوله خير الجزاء والحمد لله رب العالمين.