اهتم القرآن الكريم بمكارم الأخلاق وذم مساوئها في آياته المتكررة وسوره المتتالية، بحيث بلغ مجموع الآيات التي تحدثت عن الأخلاق صراحة أو إشارة، أمراً أو نهياً ما يقرب من ربع العدد الإجمالي لآيات القرآن الكريم، ولعل من أهم المشاهد القرآنية التي حثت على الأخلاق الحسنة وحذرت من الأخلاق السيئة ما جاء في أول سورة الشمس،
هذه الآيات القصيرة تتضمن لمسات وجدانية، وعندما نتدبر فيها وتتأمل محتواها ونقارن بين أجزائها ومفرداتها تظهر لنا الحقيقة وتتجلى أمامنا، فمشاهدة سير الآيات وهي تتحدث عن مشاهدة الكون وظواهره ـ والتي تبدأ بها السورة ـ وهي تعطي صورة كبيرة وواسعة للحقيقة التي نتحدث عنها، وفي وسط تلك الصورة ذكر الآيات التي تتعلق بحقيقة النفس واستعداداتها الفطرية ودور الإنسان في شأن نفسه ومصيره.
هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون ومشاهده الثابتة. حيث يقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الخلائق والمشاهد الكونية كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها، ومن شأن هذا القسم أن يضفي على هذه الخلائق قيمة كبرى ويوجه القلوب إليها وتتدبر فيها وماذا بها من دلالة؟
حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم فلذا نرى القسم بالشمس وضحاها: أي امتداد ضوئها وانبساطه وإشراقه، وبالقمر إذا تلاها: إذا تلا الشمس بعد غروبها بنوره اللطيف الصافي، ويقسم بالنهار إذا جلاها فإنه تبرز فيه عند انبساط النهار مجلياً لها لظهور جرمها فيه. والليل إذا يغشاها: أي يغشى الشمس فيظلم الآفاق ويلبسها سواده والتغشية هي مقابل التجلية والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه وهو مشهد له وقع في النفس وفي حياة الإنسان أثر كالنهار سواء، ثم يقسم بالسماء وبنائها وكذلك بالأرض وطحوها والطحو، كالدحو: البسط والتمهيد للحياة وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياة الإنسان وسائر الحيوانات، ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم مرتبطة بالكون ومشاهدة وظواهره، وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق(1).
والمراد من النفس في الآية المباركة هي النفس الإنسانية والتي وردت بلفظ نكرة في قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) لأنه أراد نفسًا خاصة من بين النفوس وهي نفس(2) آدم (عليه السلام)، المقصود هو الإنسان المكلف الذي يترتب على عمله الثواب والعقاب(3) وقوله: (وَمَا سَوَّاهَا) أي عدل خلقها، وقوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)، أي عرّفها طريق الفجور والتقوى وأن أحدها قبيح والآخر حسن، ومكنها من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتولّيها والتزكية هي الإنماء والإعلاء بالتقوى والتدسية هي النقص والإخفاء بالفجور(4)،
ومن النكات التي تعرض لها الآية أنها قدمت القسم بالمخلوق وهو النفس على القسم بالخالق (وَمَا سَوَّاهَا) فإن الذي سوى النفس هو الله سبحانه وتعالى، كما ورد في سورة الأعلى قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:2ـ 3).
وأشار البعض(5) إلى أن هذا التقديم بالقسم بالمخلوق على القسم بالخالق لعله لا نجد موردًا مشابهًا له ومن هنا قد يفهم ـ والله العالم ـ إن من أفضل الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى يمر من خلال معرفة النفس، وهذا ما أكدته الروايات الكثيرة الواردة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
والحاصل ـ إن آيات هذا المقطع من سورة الشمس المباركة أكدت أهمية الأخلاق والتقوى بما لا نجده في آيات أخرى من القرآن الكريم حيث قررت أن خلق الإنسان لأجل الأخلاق الإلهية والتخلق بها حتى يتسامى ويتكامل في مسيرته نحو الحق ويصل إلى مقام يكون فيه مظهراً لجميع الأسماء والصفات الإلهية.
ما هي النفس؟
إن الحديث عن نفس الإنسان حديث له عدة جوانب، منها أن يكون الحديث عن خصائص هذه النفس، أمرًا أساسيًا في علم الأخلاق ففي الحديث الشريف عن الإمام علي (عليه السلام): (من عرف نفسه عرف ربه)(6).
وفي الحديث عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) في كلام له: (ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال)(7)، إذ يوضح الحديث أن الحجاب الأساسي بين الإنسان والله تعالى هو نفس الإنسان، فما دام الإنسان يرى نفسه متصرفًا وينسب إلى نفسه كل أمر يقوم به وما دامت نفس الإنسان هي مدار الرحى التي يبني عليها معتقداته وتصرفاته، فإن هذه النفس ستكون الحجاب الكبير الذي لا يسهل اختراقه.
ولذا كانت النفس وإصلاحها من أهم الأمور في علم الأخلاق، بل إن علم الأخلاق هو تهذيب النفس بالدرجة الأولى للوصول بها إلى الكمال المرجو لها،
فقد (رُوِيَ في بَعضِ الأَخبارِ أنَّهُ دَخَلَ عَلى رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) رَجُلٌ اسمُهُ مُجاشِعٌ،
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ كَيفَ الطَّريقُ إِلى مَعرِفَةِ الحَقِّ؟
فَقالَ (صلى الله عليه وآله): مَعرِفَةُ النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كَيفَ الطَّريقُ إِلى مُوافَقَةِ الحَقِّ؟
قالَ: مُخالَفَةُ النَّفسِ.
قالَ: يا رَسولَ اللهِ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى رِضاءِ الحَقِّ؟
قالَ: سُخطُ النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى وَصلِ الحَقِّ؟
قالَ: هَجرُ النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى طاعَةِ الحَقِّ؟
قالَ: عِصيانُ النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى ذِكرِ الحَقِّ؟
قالَ: نِسيانُ النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى قُربِ الحَقِّ؟
قالَ: التَّباعُدُ عَن النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، فكَيفَ الطَّريقُ إِلى أُنسِ الحَقِّ؟
قالَ: الوَحشَةُ مِنَ النَّفسِ.
فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كَيفَ الطَّريقُ إِلى ذلِكَ؟
قالَ: الاستِعانَةُ بِالحَقِّ عَلَى النَّفسِ)(8).
ومن المناسب أن نذكر سؤالًا استنكاريًا سأله أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: (كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟)(9).
لذلك من خلال هذا السؤال عرفنا أن النفس التي أكرم الله تعالى بها الإنسان عن غيره من المخلوقات تتميز بأنها جمعت العقل مضافًا إلى الغريزة والشهوة، خلافًا للحيوانات التي وضع الله فيها الغريزة والشهوة فقط، أو للملائكة التي أكرمها الله بعقل دون غريزة وشهوة، ومن هنا فإن الإنسان لا بد وأن يستخدم العقل في تعديل المتطلبات التي تمليها الشهوة والغريزة حتى يسلك حد الاعتدال، قال الله تعالى: (ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(الشمس:7-8).
وعندما نطالع الآيات القرآنية التي تحدثت عن النفس نراها قد تحدثت عن ثلاث حالات للنفس كما أنها وصفتها بصفات مختلفة منها:
الأمارة بالسوء:
يقول الله تعالى في محكم بيانه (وَمَا أُبَرِّىُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(يوسف:53)، فالنفس الأمارة بالسوء هي التي تتبع هواها بحيث لا ترى أمامها سوى ما تتمنى الحصول عليه من الشهوات بدون أي التفات للشريعة أو للمفاسد الدنيوية والأخروية، ولذا فإن اتباع النفس الأمارة بالسوء يجلب الظلم والضلال، يقول الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(القصص:50).
النفس اللوامة:
يقول الله تعالى في محكم آياته: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:1-2). والمراد بالنفس اللوامة، نفس الإنسان المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية، والتثاقل في أداء الطاعات. وقد يطلق علماء النفس عليها اسم الضمير الذي يؤنب الإنسان على ما فعله من القبائح.
النفس المطمئنة:
يقول الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)(الفجر:27-30)، والنفس المطمئنة كما وصفها العلامة الطباطبائي في تفسيره (هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبدًا لا يملك لنفسه شيئًا من خير أو شر أو نفع أو ضر ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ابتلاءً وامتحانًا إلهيًا فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلو والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هو في مستقَرٍّ من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط…
وتوصيفها بالراضية لأن اطمئنانها إلى ربها يستلزم رضاها بما قدَّر وقضى تكوينًا أو حكم به تشريعًا فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه، إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيِّ العبودية، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضا ربه ولذا عقب قوله (رَاضِيَةً) بقوله: (مَّرْضِيَّةً).
الحذر من النفس الأمارة، بعد أن عرفنا النفس الأمارة بالسوء وميزتها لا بد من مواجهتها وعدم الركون لها، إذ أن لبّ علم الأخلاق قهر النفس الأمارة وكبح جماحها، لأنها كما تقدم لا ترى إلّا ما تريد وتشتهي، ولو خلفت كل شيء خرابًا من خلفها، فإذا كانت النفس الأمارة خطيرة لهذه الدرجة فلا بد من أن نجد لها علاجًا لإصلاحها وتليين طبعها الشرس، لذلك فالطرق والمسالك إلى الله كثيرة، بل هي بعدد أنفاس الخلائق إلّا أنها كلها تبدأ من خلال تهذيب النفس وإصلاحها.
فينبغي بالدرجة الأولى على من يريد إصلاح نفسه أن يرغِّب نفسه بالأعمال الصالحة، ويكون ذلك من خلال التفكر في الأعمال وما تستتبع من رضا أو سخط للمولى العزيز، وما يترتب عليها من آثار في الآخرة، فتطمع النفس بثواب الآخرة، وتخاف من عقاب الأعمال القبيحة.
وبما أن كثيرًا من الناس يميلون إلى الربح السريع ويفضلون الربح القريب ولو كان قليلًا وتافهًا على الربح البعيد ولو كان كبيرًا وعظيمًا، وهذه حقيقة في الإنسان قد ذكرها الله تعالى في كتابه حيث يقول جل شأنه: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ)(القيامة:20-21)، (وَيَدْعُ الْإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإنْسَانُ عَجُولًا)(الإسراء:11).
فبسب شقاء هذا الإنسان تراه يستعجل ما يتصوره ربحًا في الدنيا ويترك فوز الآخرة، وهنا يتضح دور العقل في السيطرة على الأهواء النفسية السيئة، فلا بد من التنبيه الدائم للنفس على الدوام، لما وعد به الله تعالى أهل طاعته، وحذر منه أهل معصيته، لأن مجرد عدم الالتفات إلى الجانب الأخروي من الأعمال والاستغراق في أمور الدنيا وتفاصيلها، يدخل الإنسان في نفق الغفلة المظلم ولا يستيقظ منه إلّا بعد الموت في الكثير من الأحيان ولعل هذا هو المراد من قول الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(10)،
وأما كيفية التفكر في أمر الدنيا وزوالها فهو كما يروى أن الإمام الباقر (عليه السلام) قال لصاحبه جابر في حديث طويل: (...يَا جَابِرُ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَطْمَئِنُّوا إِلَى الدُّنْيَا بِبَقَائِهِمْ فِيهَا، ولَمْ يَأْمَنُوا قُدُومَهُمُ الآخِرَةَ، يَا جَابِرُ الآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ، والدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وزَوَالٍ، ولَكِنْ أَهْلُ الدُّنْيَا أَهْلُ غَفْلَةٍ، وكَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْفُقَهَاءُ أَهْلُ فِكْرَةٍ وعِبْرَةٍ، لَمْ يُصِمَّهُمْ عَنْ ذِكْرِ الله جَلَّ اسْمُه مَا سَمِعُوا بِآذَانِهِمْ ولَمْ يُعْمِهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ مَا رَأَوْا مِنَ الزِّينَةِ بِأَعْيُنِهِمْ فَفَازُوا بِثَوَابِ الآخِرَةِ كَمَا فَازُوا بِذَلِكَ الْعِلْمِ،
إن على الإنسان أن يجعل قلبه متعلقًا بالله تعالى وحده قال تعالى: (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب:4)، إذ لا يجتمع حب الله تعالى وحب الدنيا في قلب واحد، وإذا حصلت المحبة في قلب الإنسان لله أخذ إيمانه بالاشتداد والازدياد وانجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذابًا، وتترقى مراتبه حتى صار يعبد الله كأنه يراه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) انظر: تفسير جوامع الجامع/للطبرسي/ص543. 2) م.ن. 3) مقدمة في علم الأخلاق/ص16. 4) تفسير الجوامع/ ص543. 5) مقدمة في علم الأخلاق/ص20. 6) عيون الحكم والمواعظ/الليثي الواسطي/ص430. 7) التوحيد/الشيخ الصدوق/ص179. 8) عوالي اللئالي/ ابن أبي جمهور الإحسائي/ج1ص246. 9) عيون الحكم والمواعظ/ الليثي الواسطي/ص380. 10) خصائص الأئمة/ الشريف الرضي/ ص113. 11) الكافي/ الكليني/ ج2ص133.