يعد فضولي البغدادي من العباقرة الأفذاذ، شخصية تاريخية مشهود لها بالصلاح والتقوى، شق طريقه الوعر حتى أصبح ملء السمع والبصر، لا يكاد يجاريه شاعر، وربما لم يحظ أديب إسلامي بما حازه فضولي من شهرة وذيوع صيت. فهو بحر متلاطم الأمواج، جياش العباب، يحتل الصدارة في الشعر العربي والفارسي والتركي، وهو عالم موهوب واسع الاطلاع، طويل الباع، ذو ثقافة إسلامية عالية.
كان يمد العالم بأفكار غنية، ويوحي بالعطاء الذي لا ينضب معينه، ويقدم لامته عصارة فكره، وتجارب نفسه، ونبض قلبه، كما وفق لإيصال أحاسيسه الصادقة إلى العالم، مشحونة بالتفاؤل والثقة والحزم
هو محمد بن سليمان الملقب بـ(فضولي)، لم ترفع كتب التراجم نسبه إلى ما فوق (سليمان) الأمر الذي يدلنا على انه الشخصية الأولى من آبائه الذي يتمتع بشهرة صارت النسبة إليه. سعيا وراء المزيد من التعرف على حياته أقول: إن فضولي أشغل النقاد والباحثين والدارسين ردحا من الزمن، واجمع مترجموه على أن جودة الكلام وفصاحة اللسان، وقوة البيان أهم مزاياه وانه كان محدثا لبقا، وان ما أوتي من فصاحة في الكلام واستشهاده ببعض الأحاديث النبوية الشريفة والحكم والأقوال المأثورة لها تأثير عميق في النفوس، وقد استطاع أن يسجل اسمه في سجل الخالدين، واكتسب شهرة واسعة لا في العراق فحسب بل في البلاد الإسلامية قاطبة.
فضولي أعجوبة زمانه، شخصية أنجزت إبداعات حقيقية، في قمتها الاجتماعية، ولها تأثيرها على الحياة العامة تستحق الوقوف والتأمل والدراسة، وله ذاكرة حادة تلتقط كل ما تسمع من طُرف أدبية مشوقة، إلى جانب ما سجله من وقائع في حياته، فوعى كثيرا، وتعمق في اللغات الشرقية، واشتهر بشعره الفلسفي وفيه قوة وصراحة وحماسة. خالط الصوفيين والباشوات والمشراء. القادمين من اسطنبول واجتمع بهم في (تكية البكتاشية) بصحن الإمام الحسين(عليه السلام)
وتعرف على العلماء والساسة ووقف على عاداتهم وأمثالهم ونوادرهم، فكان من أجمع أهل العلوم وأحسنهم كلاماً، يعظم العلماء والشعراء ويجلهم.
تشير بعض النصوص التي وصلت إلينا إلى علاقة الشاعر بجمهرة من شعراء عصره من أمثال عهدي وكلامي ومحيطي وغيرهم وربما قضى وقتا ممتعا مع بعض هذه الجمهرة في كربلاء، وفي أخريات أيامه كان يقضي معظم الليالي في التأليف والبحث والعبادة قابعا وسط أكوام الأوراق والكتب يمارس وظيفته المقدسة، وفي محرابه يتعبد بالفرائض والنوافل والابتهالات، وكان بسيطا في بحثه، سليم الصدر شديد المحبة للصالحين، كثير الاعتقاد فيهم، شديد التواضع مع الفقراء.
انتسـابه
أما أصل الشاعر فانه ينتمي إلى عشيرة (البيات) كما صرح بذلك مترجموه، يقول الدكتور حسين علي محفوظ (كان فضولي من عشيرة البيات، وهي بطن من قبيلة الغز (اوغوز) التركمانية التي استوطنت العراق قديماً وسكنت قرب واسط ولها ذيول في الشرق وتركيا وهم الآن ألفاف من العرب والترك يقيم فرع منهم في كركوك وبيوتات بغداد وغيرها من البقاع(1).
ويؤكد صاحب موسوعة أعيان الشيعة إلى أنه من عشيرة بيات وهي بطن من أغز، قبيلة من الترك، وهم التركمانية(2).
وقال العلامة الشيخ أغا بزرك الطهراني: (اسمه محمد بن سلمان من قبيلة بيات ولد بكربلاء بحدود 1498م كما في مقدمة مطلع الاعتقاد باكو بقلم حميد أراسلي، ونشأ ببغداد ونسب إليها، ويلقبه الأتراك (رئيس الشعراء)(3).
على الرغم من تجاوزه الستين عاما من عمره فقد كان جم الأخلاق كثير النشاط صحيح البنية، متوقد الفكر والقريحة، ولعل هذه المزايا جعلته موضع اهتمام الناس وعجبهم به، فقد كان رحمه الله لا يعبأ بعرض الدنيا وزينتها، ولا يشغل باله بلذائذها، عفيف النفس، تقيا ورعاً زاهدا من المال، متوجها إلى ربه بخشوع وإخلاص، منصرفاً إلى عمله.
مسقط رأس الشاعر
تضاربت أقوال الأدباء والرواة حول مسقط رأسه بين بغداد أو الحلة أو كربلاء، أما عالي فعنده أن فضولي ولد في بغداد واستوطنها. وأن القصيدة التي تقدم بها إلى إياس باشا والي بغداد تنفي كونه من أهل بغداد، ونفهم منها أنه رحل إلى بغداد للقاء إياس باشا من موطنه الذي قد يكون الحلة أو كربلاء(4). قال عمر رضا كحالة: ولد بالحلة وقطن بغداد واعتكف في كربلاء وتوفي بالطاعون(5). أما أولئك الذين يستدلون على أن مولده في كربلاء من قوله (يا فضولي ما دامت ارض كربلاء مقاما لي، فشعري جدير بالإجلال أينما ينتشر، وهو ليس بفضة ولا ياقوت ولا جوهر، ما شعري إلا تراب ولكنه تراب لكربلاء طاب). هؤلاء يقدمون في ذلك الشعر شاهداً على ما يذهبون إليه، لأنه يصرح بان كربلاء مقامه وليس من الضرورة أن يكون مقامه في مكان مولده.
وقد أورد سليمان نظيف في كتاب له عن فضولي قطعة منها هذا البيت (فضلي الابن وأبوه فضولي شاعران وهما من الحلة الآن)(6).
ومن شديد التحكم وتحميله النصوص ما لا تحتمل أن تنسبه إلى الحلة لمثل قوله في شعره العربي:
لسانك حلو لحظ طرفك ساحر
كأنك حلّي وأرضك بابل(7)
أما الأديب العراقي عزيز سامي فقد نسبه إلى مدينة كركوك حيث قال:
(إن بعض النساء من أسرة فضولي كن مقيمات في الجانب المطل نحو الشمال من قلعة كركوك وأنه مضى إلى ذلك الموضع فرأى الديار مهدمة خاوية من سكانها ـ ثم قال ـ إن ما يعزز اعتقاده صحة نسبة فضولي إلى كركوك أن الكثرة الكاثرة من سكان تلك المدينة يملكون نسخاً من ديوان فضولي ويعتزون به ويحفظون معظم أشعاره.
وكان معظم الموظفين في العهد العثماني من هذه المدينة لعلمهم بالتركية، فيحتمل أن يكون والد فضولي من أهل هذه المدينة)(8) وتبعه في هذا الرأي الأديب عطا ترزي باشي. ولن يكون بعيداً عن الصواب ذلك الرأي القائل إن من أهم أسباب الانتقال هو أنه كركوكي الأصل.
مولــده
لم يتيسر لنا ضبط تاريخ مولده، ولم نقف على كثير من سيرته، لما بينا من طول العهد، يقول الدكتور حسين مجيب المصري: (فكم يبلغ من العمر يوم ذهبت به المنون، هذا ما أغفله الرواة ذكره كما سكتوا عن تاريخ مولده، فإذا قدرنا أنه بلغ الستين من سنيه فلا أمكننا أن نقول ـ على وجه التقريب لا التحديد ـ: إن ميلاده كان عام 900ﻫ -1492م)(9) ويظهر من مجموع أخباره أن مولده في العراق، و الراجح عندي أنه كربلائي المولد بدليل ما صرحت به الروايات التاريخية المتعلقة بالفترة المبكرة من حياة فضولي تشير بشيء من الوضوح إلى أنه ولد في كربلاء، فقد ذكر الأديب حميد اراسلي الذي قدم له في ديوان (مطلع الاعتقاد) المطبوع في باكو أن محمد بن سليمان الملقب بفضولي ولد في مدينة كربلاء عام 888هـ – 1480م.
وقال الشيخ محمد حرز الدين: الشيخ فضولي محمد بن سليمان البكتاشي البغدادي الحائري اختُلف في ولادته قيل: إنه ولد في العراق، وقيل: في إيران، كما اختلف في أنه تركي أو كردي وهو الأشهر حيث عرف بأنه من بيات، وبيات إحدى قبائل الأكراد الشريفة وتاريخ ولادته كما وقفنا عليه أنه ولد في العشرة الأخيرة من القرن التاسع عشر للهجرة النبوية الشريفة سنة 894 ﻫ(10).
أما لقب (البغدادي) الذي لحق به، فإن بغداد كانت مركزاً مهماً من مراكز العلم والأدب وكل من كان يشد الرحال إليها طلباً للمعرفة يلقب بالبغدادي.
أما بالنسبة لما يتخلص فيه أي: لقبه (فضولي) فقد كان من عادة شعرائنا إيجاد لقب شعري يأتي في نهاية كل قصيدة، وكان لكل شاعر مخلصه الشعري الخاص به، إلا أن مخلص شاعرنا محمد بن سليمان باسم (فضولي) جاء نتيجة تفكير وترو، حيث يقول: اخترت هذا التخلص أو المخلص لأكون فريداً في عصري في حمله.