ذكرنا في حلقة سابقة وتحت نفس هذا العنوان، ما مضمونه: أن هناك مفاهيم وأفكار لمفردات أخذت شكلها ومضمونها وقد تعارف الناس عليها. إلا أن هذه المفاهيم لها معان أعمق وأشمل في فكر أهل البيت(عليهم السلام)، وأن لها درجات ومراتب، ونكرر هنا أن المقصود بفكر أهل البيت(عليهم السلام) هو الفكر أو التشريع الإسلامي النقي النازل من الله سبحانه إلى عباده الخالي من الاجتهاد أو الأهواء، وكان موضوعنا في الحلقة الأولى حول مفهوم (الزهد)، ونخصص هذه الحلقة حول مفهوم (حسن الجوار).
إن حسن الجوار من المفاهيم الإنسانية التي ينفرد بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، فالإنسان اجتماعي بالطبع ـ كما يقول علماء الاجتماع ـ ولأن الإحساس بالجيرة واحتياج الإنسان لأخيه الإنسان ـ خصوصاً القريب منه ـ جعلت موضوع الجار يشغل حيزاً من اهتمام الإنسان وتفكيره، وهذه سمة غالبة لجميع المجتمعات في الأرض ولو بنسب متفاوتة بين الشعوب كل حسب ثقافته، إلا أنها تشترك جميعاً بهذا الأمر. وقد قالوا الكثير حول ما ينبغي للجار سلوكه، فقالوا: على الجار أن يتعرف على جاره إذا حلّ في جواره، وأن يبدأه بالسلام إذا خرج أو دخل، وأن يشاركه أفراحه وأتراحه، ويتفقده إذا غاب أو مرض ويعوده إذا مرض أو أحد من أهله. وأن يشيع جنازته إذا توفي، وأن لا يؤذيه. ولا يتجسس ولا يتحسس عليه.
وأن يجيب دعوته إذا دعاه. وأن يصون حرمته ويستر عيبه. ويعينه عند الشدائد. ويواسيه ويكثر برّه ويحسن إليه، وأن ينصح له. ويحسن عشرته. وكل ذلك صحيح وأنه من حسن الجوار.
إن حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة وقد حفز الإسلام وشجع ورغب على الاهتمام بالجار والإحسان إليه من خلال الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار من أهل بيته(عليهم السلام). قال تعالى على لسان آسيا بنت مزاحم(رضي الله عنهم): (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا للذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)(1).. فقد قدمت جوار الله على الدار التي طلبت.
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (الجوار ثم الدار)(2). وقال(صلى الله عليه وآله): (ما زال جبرائيل(عليه السلام) يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)(3).
وعن الإمام علي(عليه السلام): (سل عن الجار قبل الدار)(4).
وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أيضاً: (أحسن مجاورة من جاورك، تكن مؤمنا)(5).
وعن الإمام الصادق(عليه السلام): (حسن الجوار يزيد في الرزق)(6). وعنه(عليه السلام): (حسن الجوار يعمر الديار، ويزيد في الأعمار)(7).
وعن الإمام علي(عليه السلام): (من أحسن إلى جيرانه كثر خدمه)(8).. إلا أن الإسلام لم يكتف بذلك ولم يجعله من الكماليات أو من ترف العيش، بل جعل ذلك من الواجبات المهمة على المسلم، فقد أوصى بالجار وبحسن معاشرته والإحسان إليه وكف الأذى عنه، وقرن القران الكريم توحيد الله وعبادته بالإحسان إلى الجار قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ)(9)، وعن حرمة الجار، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار على الجار كحرمة أمّه)(10). وعن حسن الجوار قال الإمام الصادق(عليه السلام): (عليكم بحســن الجـوار فإن الله أمــر بذلك)(11).
وعن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: (قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع)(12).
وكما أمر الإسلام بالإحسان إلى الجار وجعله من أولويات واجبات المسلم وقرنه بتوحيد الله وعبادته، كذلك حذّر من إيذاء الجار والإساءة إليه وجعله من الذنوب العظيمة، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)(13).
وقد شدد الإسلام في موضوع إيذاء الجار فاعتبر أن أي إضرار بالجار سواء في الأمور المادية والمعنوية يعد إيذاءً، ونهى عنه، وقد بينت أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) أن هناك حدّ أدنى للإيذاء، فاعتبرت رائحة الطعام التي يشمها الجار من جاره إيذاءً ما لم يطعمه من ذلك الطعام، فالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)
يعدد حقوق الجار على جاره حتى يقول: (ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها)(14). ثم تأتي مراحل ودرجات أعلى من ذلك، يقول(صلى الله عليه وآله): (وإذا اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا تخرج بها ولدك تغيظ بها ولده)(15)، ثم يفهم من الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) أنه: (لا يجوز لكل واحد من المتجاورين في الملك أن يتصرف في ملكه تصرفاً يوجب وقوع الضرر على جاره)(16)
ومثال ذلك: (أن يتخذ الجار في بيته مخبزاً إن استوجب أذية الجار بالدخان، أو يتخذ في ملكه محلاً لدباغة الجلود وإن استلزم أذاه بالروائح، ونحو ذلك)(17) أو كما ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله): (…ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه)(18).
هكذا تتنوع أشكال الإيذاء للجار حتى يصل مرحلة يتعوذ فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) من جار السوء فيقول: (أعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة)(19) ثم يصف(صلى الله عليه وآله) جار السوء بقوله: (تراك عيناه ويرعاك قلبه إن رآك بخير ساءه وإن رآك بشر سره)(20)، أو كما يقول الإمام الباقر(عليه السلام): (من القواصم الفواقر التي تقصم الظهر جار السوء إن رأى حسنة أخفاها، وإن رأى سيئة أفشاها)(21).
ومقابل ذلك نرى مراتب ودرجات حسن الجوار، فتبدأ من التعرف على الجار حين ينزل بالجوار والسلام عليه وتفقده في مرضه ومشاركته في أفراحه وأتراحه، حتى تصل إلى تحمل أذاه والصبر عليه وعدم مقابلته بالمثل.
فقد اعتبر الإسلام الجار الذي يؤذي جاره (جار سوء). وقد ورد عن الإمام علي(عليه السلام):
(جار السوء أعظم الضراء وأشد البلاء)(22).
وعن النبي(صلى الله عليه وآله): (لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه)(23) فالدار مهما بلغت من العمران والجودة والقرب فإنها تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار البسيطة الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بجار حسن.
نخلص من كل ما تقدم أن حسن الجوار له عدة وجوه وله درجات ومراتب، حتى يبلغ أعلى مراتبه في فكر أهل البيت(عليهم السلام)
على لسان الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) فيقول: (ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى)(24). أي بمعنى: ألاّ يكتفي المسلم بعدم إيذاء جاره ليكون جاراً حسناً، بل يبادر بالإحسان إلى جاره ويستمر على ذلك في إحسانه حتى يصل إلى مرحلة الصبر على أذى جاره إن آذاه، ولا يقابله بالمثل، وبذلك يكون جاراً حسناً بحسب فكر ورؤيا أهل البيت(عليهم السلام).
إن حسن الجوار من الأخلاق الفاضلة النبيلة التي دعا إليها الإسلام، لكن وللأسف الشديد ضُيِّع كغيره من الواجبات والأخلاق الحميدة الأخرى في عصرنا الحالي خصوصاً في المدن الكبيرة، ونحن في عصر العلم والنور وتوفر كل أسباب التعلم والتواصل. ويبدو مخجلاً حقاً أن تكون أخلاق أهل الجاهلية أفضل من أخلاقنا، فهذا شاعرهم (مسكين الدارمي) يقول:
ناري ونار الجـار واحـدة
وإليه قَبْلي تنـزل القـدر
ما ضر جار لي أني أجاوره
أن لا يكـون لبابه ستـر
أعمى إذا ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر(25)
أو قول حاتم الطائي وهو أيضاً من العصر الجاهلي:
سأقدح من قدري نصيباً لجارتي
وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي
إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي
يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل(26).
نشرت في العدد المزدوج 30-29
(1) سورة التحريم الآية: 11.
(2) مستدرك الوسائل: ج3 ص471.
(3) أمالي الشيخ الصدوق: ص 514.
(4) غرر الحكم: 5598 .
(5) أمالي الصدوق: 168 / 13.
(6) الكافي للكليني: ج2 ص.666
(7) الكافي: 2ج ص 667.
(8) غرر الحكم: ح7967، ح 7762.
(9) القران الكريم: النساء: 36.
(10) الوسائل ج/8 ص487.
(11) بحار الأنوار ج71 ص 150. أمالي الصدوق: ص216.
(12) الكافي للكليني ج2 ص 668.
(13) الكافي للكليني ج2 ص 667.
(14) بحار الأنوار ج79 ص 94.
(15) نفس المصدر.
(16) كلمة التقوى محمد أمين زين الدين ج5 ص 175.
(17) نفس المصدر.
(18) مسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص 105.
(19) الكافي للكليني ج2 ص 669.
(20) نفس المصدر.
(21) الكافي للكليني ج2 ص 668.
(22) ميزان الحكمة ج1 ص487.
(23) نفس المصدر.
(24) بحار الأنوار ج75 ص 220.
(25) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص10.
(26) رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين / السدي ص59.