الشيخ عبد الرزاق فرج الله الأسدي
أستاذ في الحوزة العلمية
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ
إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾
سورة يوسف الآية: 87
يحدثنا القرآن الكريم عن
يعقوب(عليه السلام)، الذي غاب عنه ولده يوسف(عليه السلام) مدة لا تقل عن ثمانية عشر عاماً لا يعرف عنه خبرا، وهو مع ما فيه من الحزن والاحتراق العاطفي على ولده، لم تنطفئ جذوة الأمل في نفسه، فقال لبنيه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
يؤكد لنا هذا الحدث، أن الأمل ليس مجرد عملية انفعال نفسية، تهدئ من الواقع النفسي المضطرب لإنسان داهمته مشكلة، أو أصابته صدمة في الحياة، وإنما هو حقيقة ترتبط بخط العقيدة الإسلامية.
فكون الإنسان مؤمنا فهو والأمل، وكونه كافرا فهو واليأس، وكونه آملا متفائلاً فهو والإيمان، وكونه يائساً متشائماً فهو على شفا الكفر.
فما دخل الإيمان بالله عز وجل قلب المؤمن إلا وهو يختزن في حقيقته روح التفاؤل والأمل، والانفتاح على الحياة، والثقة بمصدر العناية والرعاية الذي يمد الحياة بخزين لا ينفد من الخير واليسر والأمان.
فيعتبر الأمل هو الومضة التي نتحرك بها في الحياة الدنيا لا من أجل الدنيا، وإنما من أجل أن نوجه الدنيا، ونخضع هامها للقيم والمفاهيم العالية، التي تتحرك بدورها بحياتنا باتجاه خدمة الدار الآخرة.
فالقرآن عندما يحدثنا عن الأمل، فهو يريد منا أن نكون في لحظة الضعف على مشارف القوة، لإيماننا بمصدر القوة (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) البقرة:165.، وفي لحظة الذل على مشارف العزة، لإيماننا بمصدر العزة (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) النساء:138.
بمعنى أننا إّذا ما ضعفنا وقوي علينا الآخرون، فهناك فرصة بأن نقوى (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران:139.
فالآية تعطي الإنسان المؤمن شعورا بالمدد والعناية الربانية، وتمنحه إرادة قوية، تتحدى الاستسلام للواقع.
بشرط أن يكون في خط الإيمان والتقوى (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) الأنفال:29، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الطلاق:2ـ3.
لأن الإيمان يستبطن في حقيقته الأمل بقدرة الله عز وجل على تغيير الأحوال (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) بينما يستبطن الكفر اليأس من روح الله، وعدم الثقة بقدرة الله عز وجل، (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
إذن، هذا هو الأمل الذي ينسجم مع المسؤولية الرسالية للإنسان المؤمن، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (الأمل رحمة لأمتي، ولولا الأمل ما أرضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة)، فكذلك ـ إذن ـ لولا الأمل ما أدى مؤمن حقا للرسالة والأمة.
فالأمل هو العنصر الذي من خلاله يستطيع المؤمن أن يحرك الدنيا باتجاه الصنع الإيجابي، والأداء الرسالي الذي يتحرك به نحو الله عز وجل، وباتجاه القيم والتكامل الروحي والأخلاقي.
وكل أمل لا يسعى بالمرء بهذا الاتجاه فليس من القرآن، وليس من الرسالة والمسؤولية في شيء. وهو الأمل الداعي إلى الغفلة، والى التعلق بالمفاهيم الخيالية وغير الواقعية، الأمل الذي يقعد الإنسان عن التخطيط للغاية التي من أجلها يجب أن يتحمل المسؤولية (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وقال الإمام علي(عليه السلام): (إتقوا باطل الأمل فربّ مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليل قامت بواكيه في آخره).
وقال(عليه السلام): (إتقوا خداع الآمال، فكم من مؤمل يوم لم يدركه، وباني بناء لم يسكنه، وجامع مال لم يأكله).
فهنا يضعنا الإمام علي(عليه السلام) أمام مسؤولية الأمل من ناحية، وأمام خداعه من ناحية، وبهذا ينبغي أن نتحرك بالأمل ولا ننسى خداعه.
إذن، فالنتيجة التي نخرج بها، من خلال ما يطرحه القرآن الكريم والقادة المعصومون(عليهم السلام) هي: أن الإسلام يعطي للأمة خط التوازن بين آمالها وتطلعاتها، بين دنياها وآخرتها، وبين حياتها وموتها، لتعطي الأمة الحياة دورها وحركتها في خط المسؤولية التي أراد الله عز وجل منها، فلا أمل يسقطها في هوة الضياع والمتاهات، لا يأس يأسرها ويقيدها في دائرة القعود والجمود.
ففي كل الأحداث التأريخية التي انتصر بها الحق على الباطل، كان للحق حملته وللباطل حملته، وكان حملة الحق يتحركون نحو أهدافهم وغاياتهم التي رسمها الله عز وجل لهم في خط المسؤولية.
فكان الأمل في حركتهم، يعني ما رسمه الله تعالى لهم من مستقبل يتحدى كل الصعوبات التي تعترض الطريق، وتربك الخطوات، وتجهض الحركة والمسير نحو الله عز وجل.
سواء كانت الحركة على مستوى التطبيق الفردي للعبد المؤمن الذي يسعى إلى الله تعالى بأداء التزاماته وواجباته، فهو يسعى على أساس ما وعده الله من الرحمة التي يرجوها ويتحدى بها عقبة اليأس (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر:9، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر:53.
أو كانت الحركة على مستوى مسؤولية الأمة نحو الغاية المشتركة التي يتوقف عليها مصيرها، فإن الأمل يتحرك في صميم مسؤوليتها، متحديا كل العقبات والأهوال، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران:173ـ174.
فهنا يحدثنا القرآن الكريم بأن هذه الثلة، قد بلغت بحركتها ما ترمي إليه من غاية، وهي رضوان الله عز وجل في خط مسؤوليتها، وذلك بإيمانها الذي يستبطن الأمل بما عند الله من نعمة وفضل، ثم حدثنا القرآن في هذا السياق، أن الشيطان يترصد لهذا الخط، لينشر الخوف أمامكم، ويزرع اليأس في نفوسكم، ولكنه لا سبيل له إلا على أوليائه، يخوفهم بأسكم (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ) لأنهم بولائهم للشيطان ضعفاء مخذولون يائسون (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).