د. عامر عمران الخفاجي
كلية التربية/ جامعة بابل
د. فيصل علي البصام
كلية العلوم/ جامعة بابل
تمــهيد
في الوقت الذي أخذت العلوم والتكنولوجيا تخطو خطوات واسعة وسريعة نحو التقدم والارتقاء ولاسيما في النصف الثاني من القرن الماضي، كان نصيب علوم الفضاء والفلك الحصة الأكبر في التقدم موازنة ببقية المعارف سواء أكان ذلك من الناحية النظرية أم من الناحية العملية، فبعد أن كان علم الفلك محصوراً في دراسة الكون بواسطة الأجهزة والمراصد الأرضية، شرع ببناء وتصنيع الأجهزة الفضائية لدراسة الأجرام السماوية من خارج الغلاف الجوي الأرضي، ليتضمن الأطوال الموجية كافة، كما استخدم الحاسوب لالتقاط الصور من الفضاء الخارجي، ومن البديهي أن يعالج علم الفلك الكثير من الأسئلة التي حيرت ومازالت تشغل الإنسان ومنها كيفية بدء الكون.
لقد تفتحت الذهنية الإسلامية، فانبرت طلائعها لاحتضان الجهد العلمي المتوجه نحو الكتاب الكريم، فامتدت بدراسات فنية عصرية ميسرة بذلك الفهم القرآني بعيداً عن الجدل الفلسفي والنزاع التقليدي، ووجدنا أن هذه الدراسات مازالت مفتقرة إلى كشف العديد من الظواهر القرآنية في ضوء المفهوم العلمي الحديث، إذ أفصحت آياته عن مشيئته في الكون وظواهره، وهذا يفسر ميل الدراسات العلمية والفضائية وما فيها من غزارة نحو هذا الجانب، لذلك تطلعنا إلى إصدار سلسلة قرآنية تعزز مجدنا الخالد وتتيح المجال لباحثينا ليتوصلوا إلى حقائق التصور العلمي والإنساني من آياته سبحانه.
مقدمة
تكشف مسألة الخلق قدرة القادر الحكيم وإن تفاوتت في الكبر والنوع، دليل ذلك ما جاء في دراسات علم الفلك الراديوي والجيو فيزياء، إذ أثبتت أن خلق الكون أكبر من خلق الناس لما فيه من الأسرار العلمية في جريان أجزائه، وسعة أبعاده، وكبر مجراته قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[غافر:57]، وقوله أيضاً: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا)[النازعات:27].
لقد حاول الإنسان معرفة كيفية نشوء الكون، ولكنه لازال في دور الحدس والتخمين، لذلك نجد قلة من يتصدى من علماء العصر الحاضر إلى وضع نظرية مبنية على أسس علمية من شأنها أن توضح نشوء الكون بأجمعه، وأن ما وضع من نظريات ما يزال عرضة للتعديل في تفسير الحوادث والظواهر الكونية المتزامنة معها وتمدد الكون إحدى تلك الظواهر التي ما تزال مستمرة الحدوث.
إن النظام الكوني ليس مجهولاً تماماً، وحقائق نشوئه وتمدده جعلت عدداً غير قليل من العلماء، لا يعرف بدقة كيف ابتدأ خلق العالم الكوني، لأن المدبر الأعلى لم يشرك معه أحداً في خلق الكون ولا خلق غيره، قال تعالى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ)[الكهف:51]، ولمح سبحانه في قرآنه المجيد إلى كيفية نشوء الكون، وما ورد من نظريات تتوافق لحد ما مع الكلمات القرآنية في هذا الجانب والله الموفق.
قال تعالى: (…وهي دخان) مشيراً إلى الحالة الغازية، وقوله: (وكان عرشه على الماء…) مشيراً إلى القدرة الإلهية في الحالة السائلة، وقوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) مشيراً إلى الحالة الصلبة.. أما إشارة القرآن إلى نظرية الانفجار الهائل في الكون وتكون المجرات والنجوم في قوله: (كانتا رتقاً ففتقناهما…).
المبحث الأول
نظريات نشوء الكون
إن ابتداء خلق الكون وكيفية تطوره وحركته وزمن تشكيل السدم كل ذلك لم يزل غامضاً بعض الشيء، وكل ما دار حوله لا يعدو أن يكون تصورات ونظريات، والنظرية في العلوم الطبيعية ما هي إلا فرض يرجح العلماء صحته بتتابع الوقائع وزيادتها، ولكن ما يزال الاحتمال عندهم بنقص ما فرضوه لما يظهر من تفاوت بين الحقائق الموجودة فعلاً وما خرجوا به من نظريات،
فإذا اكثرت الوقائع واستمرت في الزيادة عندهم البراهين والأدلة في صحة النظرية، تتحول في النهاية إلى قانون، لذلك نلاحظ أن هناك مفاهيم فلسفية عديدة تبحث في هذا العلم، كل منها يبحث ويفترض مبدأ معيناً، ومن هذه المفاهيم مثلاً مفهوم المبدأ الكوني (Cosmological Principle) الذي يفترض أن الكون متجانس (Homogeneous) ومتماثل الخواص الاتجاهية (Isotropic) وكذلك مفهوم المبدأ الكوني المتكامل (Perfect Cosmological Principle) أي متماثل الخواص الاتجاهية ومتجانس في المكان والزمان (لا يتغير مع الزمان)، وإن النظرية التي اتبعت المبدأ الأخير هي نظرية الخلق المستمر (Continuous Creation)، والتي تنص على أن الكون لا يملك لحظة ابتداء أو لحظة انتهاء، وسنعرض النظريات التي دأبت
على كيفية نشوء الكون وتطوره:
1ـ كون أرسطو:
لقد وضع أرسطو (القرن الرابع ق.م) أول نظرية للكون والتي عاشت أفكارها ألفي سنة تقريباً، فاعتقد هو وأقرانه من فلاسفة الإغريق، أن الأرض ثابتة وتقع في مركز الكون ذي الأبعاد المحدودة، وأن الحركة بالنسبة له، على ثلاثة أنواع الحركة الخطية والدائرية والمختلطة، وبما أن الكون محدود الأبعاد،
لذلك فإن الحركة الخطية لا يمكنها الاستمرار إلى ما لا نهاية، لذلك فالحركة الدائرية هي الحركة الوحيدة التي ليس لها بداية أو نهاية، وهذا يفسر حركة النجوم والكواكب بمسارات دائرية، وتأخذ النجوم أشكالاً كروية وهي أزلية لأنها مصنوعة من مادة أزلية سميت بالأثير (Ether) تسمى اليوم بالمادة السوداء (Black Matter).
عدت نظرية أرسطو من أطول النظريات صموداً على الرغم من ضحالتها، ولم تبدأ بوادر انهيارها إلا في القرن السادس عشر على يد الفلكي (كوبرنيكوس)، فلقد استبدل الشمس بالأرض كمركز للكون، وفسر دوران النجوم الظاهري، بدوران الأرض حول محورها وبذلك قوضت مفاهيم (كوبرنيكوس) نظرية أرسطو.
إن رصد النجمة البراقة (المستعرة العظمى) عام (1572م) من قبل الفلكي (تيكوبراهي) مكنته من البرهنة على أنها أبعد من القمر، كذلك برهن من رصده للمذنب الذي ظهر عام (1577م) بأنه يدور حول الشمس بمدار بيضوي خارج مدار الزهرة، كما أن قوانين (كبلر) كانت ضربة قاضية لنظرية أرسطو، وباختراع المرقب الفلكي من قبل (غاليلو)، اكتشف الكلف الشمسي وأقمار المشتري الأربعة، واكتشف العالم (هالي) عام (1718م) حركة بعض النجوم البراقة وتبعه (هيرشل) عام (1783م) فوجد أن الشمس تتحرك أيضاً وأن صغر النجوم ناجم عن بعدها السحيق، وبذلك تقوضت نظرية مركزية الشمس في الكون، وبقدوم نيوتن ووضعه لقانون الجاذبية التثاقلية، استند علم الفلك على أسس سليمة.