Take a fresh look at your lifestyle.

المنهج التوحيدي في النهضة الحسينية المباركة

0 516

إحسان العارضي

          المطلع على مفهوم الخلافة الربانية ـ أي الموحدة لله تعالى ـ وخصائصها ومواصفات المستخَلف وما يلزمه للقيام بدوره المطلوب منه، لابد له أن يتساءل عن تطبيق المنهج التوحيدي الذي يريده الله سبحانه وتعالى من خليفته الأرضي.

         وهنا يتعين علينا بداية ً أن نستحضر الآية القرآنية الكريمة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَة)(البقرة:30) فالخليفة يجب أن يكون في أعلى مراتب التوحيد لله في زمانه وهكذا كان الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين كونهم قد بينوا للناس وعلموهم الفرق بين أن يكون الإنسان موحِدًّا أو مشركًا، لأن المنزلق الخطير للبشر والذي يريد الشيطان وأتباعه إيقاع الناس فيه، هو الخلط بين التوحيد والشرك، قال الإمـام الصادق(عليه السلام): (إن بني أمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوا).

          لقد حسب أولئك الظلمة أن من الممكن أن يتخذهم عباد الله من دونه أولياء، وقد غفلوا أو تغافلوا عن الحقيقة الحقة التي تؤكد أن ذلك يعني إلغاء الإيمان بالله سبحانه وتعالى من الأصل.

          قال تعالى: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً).

        إن محور المعركة العظمى وموضوعها الرئيس بين الأنبياء وأوليائهم(عليهم السلام) وبين الشيطان وأوليائه، هو إقامة التوحيد ونفي الشرك بمراتبه كافة من الحياة الإنسانية، لأن بذلك وحده فقط يتحقق السير والوصول إلى الكمال المنشود ونيل مرضاة الله تعالى .

         إن إدراك هذه الحقيقة والنظر من خلالها إلى أي صراع في الساحة الإنسانية على طول الزمن، يمكّن من معرفة المحق من المبطل والتفريق بين أهل الحق وأهل الباطل.

      ومن خلال ما تقدم يمكننا أن نورد بعضاً من خطب الإمام الحسين(عليه السلام) في المواقف المختلفة لنتبين الدور التوحيدي لهذا السبط الشهيد الذي يأبى الزمان أن يجود بنظير له .

   1- من خطبة له (عليه السلام) في الحث على التوحيد الحق والابتعاد عن المزيفين له:

         (أيها الناس اتقوا هؤلاء المارقة الذين يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير…) الخ.

         وقال (عليه السلام) أيضًا: (أوصيكم بتقوى الله وأحذركم أيامه وأرفع إليكم أعلامه فكأن المخوف قد افد بمهول وروده ونكير حلوله وبشع مذاقه فاعتلق مهجكم وحال بين العمل وبينكم، فبادروا بصحة الأجسام في مدة الأعمار كأنكم ببغتات طوارقه فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها ومن علوها إلى سفلها ومن أنسها إلى وحشتها ومن روحها وضوئها إلى ظلمتها ومن سعتها إلى ضيقها حيث لا يزار حميم ولا يعاد سقيم ولا يجاب صريخ…) الخ الموعظة.

   2- ومن خطبة له (عليه السلام) يبرر سبب خروجه بوجه الطاغية يزيد لإظهار معالم الدين وإصلاح حال الأمة المنكوبة بظلم بني أمية: (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن منا تنافسًا في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك...).

        ثم وجه خطابه إلى الناس الذين طلبوا منه أن يخلصهم من ظلم يزيد وعماله فقال(عليه السلام): (فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم، وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير).

   3- ومن أهم صفات المؤمن الموحد لله سبحانه وتعالى رفض الظلم وعدم قبوله تحت أي مسوغ، وأن يكون عزيزًا لا تأخذه بالله لومة لائم ولا يهاب الظالمين أبدًا ويفضل الاستشهاد عزيزا على البقاء ذليلًا خانعًا مستسلمًا لإرادة الظالم.

             وقد عبر عن ذلك كله الإمام الحسين(عليه السلام) بقوله: (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد…الخ، وقال أيضًا في هذه الخطبة: (ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين القلة (وفي بعض المصادر القتلة، السلة) والذلة وهيهات ما آخذ الدنية أبى الله ذلك ورسوله وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا قد أعذرت وأنذرت، ألاإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العتاد وخذلة الأصحاب).

   4- ومن صفات الثائر الموحد لله تعالى هو أن يقاوم الانحراف ويظهر الإصلاح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لكي يقام العدل ويشاع الإحسان والرحمة بين الناس، وبذلك تستقيم المسيرة الإنسانية في سيرها إلى الله تبارك وتعالى، وتحصل على كمالها المنشود.

            قال الإمام الحسين(عليه السلام): (إني لم أخرج أشرًا ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).

   5- ومن رسالة منه(عليه السلام) إلى أخيه محمد بن الحنفية يؤكد فيها على معاني الشهادة في سبيل الإسلام وأن هذه الشهادة هي أعظم فتوحات الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، حيث بلغ الانحراف أوجه في زمن معاوية وابنه الفاسق الظالم يزيد عليهما اللعنة، فقال(عليه السلام): (من الحسين بن علي إلىأخيه محمد ومن قبله من بني هاشم: أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام).

             وهذا غيض من فيض، نكتفي منه بهذا المقدار لأن المجال لا يسع للإطناب.

 

   شروط النهضة الربانية:

   1- إنها لا تنبع من مصلحة شخصية ولا من منظور شخصي وإنما يجب أن تنطلق من المصلحة العليا للدين ولا تكون المصلحة الذاتية هي دافعها الأول والأخير، بل هي خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.

   2- إنها تستند إلى رؤية واضحة مرتكزة على أصول الدين وفروعه وتستمد طاقتها وحركتها من الدين نفسه وممثليه الأصليين لا المدعين.

   3- إنها تمثل صرخة حق مدوية بوجه الباطل وان تمرد وتجبر .

   4- إنها تمثل ضوءًا ساطعًا وسط الظلام والجهل، وتقوم بكشف حقيقة المزيفين والطغاة وأدعياء الدين وفضحهم وإظهار حقيقتهم المزرية التي يحاولون سترها بلباس القدسية والتدين المزيف.

   5- يكون قائدها هو أكثر رجالها توحيداً لله تبارك وتعالى في زمانه.

   6- حدوثها في زمن خاص واستثنائي بحيث إذا لم تقم خسرت الأمة والإنسانية جميعاً أعظم فرض الوعي والتحرر من الطغيان والظلم.

   7- أن يكون هدفها إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ودحض كلمة الشيطان وأتباعه .

   8- حيازتها على الدرجة المطلوبة من الرشد والحكمة .

   9- إنها تضع الإنسان المناسب في موقعه المناسب وكما يستحقه ضمن حركتها الغائية الرشيدة بحيث يكون دوره لا غنى عنه في أي حال من الأحوال.

   10- تستطيع أن تكُوًن توافقاً وانسجامًا بين حاجات الفرد والمجتمع، وتوازن بين الفطرة الإنسانية وحب طلب الكمال الذي تستطيع تشخيصه بشكل حقيقي لأتباعها وللآخرين أيضًا.

          ومن خلال ما تقدم يمكن لنا القول بشكل قاطع إن النهضة الحسينية المباركة قد حازت شروط ومقومات الخلافة الربانية المطلوبة للإنسان من خلال مراجعة سيرة وحياة الإمام السبط الشهيد(عليه السلام) في كل أدوار حياته وبذلك جسد مفهوم هذه الخلافة بشكل تام، بينما أجمعت كلمة الأمة الإسلامية – إلا ما ندر من شذاذها – على فسق وجور الخلافة الأموية وظلمها وابتعادها عن المراد الإلهي من جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفته في الأرض، لاسيما خلافة الطاغية يزيد ومن شايعه وشيد أركان سلطانه ووقف معه، وبذلك فقدت الأمة الإسلامية مرة أخرى فرصة نادرة للتقدم الحقيقي والوصول إلى الكمال المطلوب لها ربانيًا.

 

  أثر التوحيد الأفعالي في السلوك الإنساني:

          إن أثر الإيمان بالتوحيد الأفعالى في النفس الإنسانية له نتائج عظيمة على الحياة الإنسانية وقد يكون هذا التأثير مباشرًا كما هو واضح في حركة الأنبياء(عليهم السلام) لاسيما أولو العزم منهم وخاتمهم الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، أو يكون التأثير غير مباشر، أي بعد حين من الزمن كما كان دور أئمة أهل البيت(عليه السلام) الذين قاموا بنشر معارف الدين الإلهي بين الناس وإحياء سننه بعدما حاول الطغاة تضييعه ومحقه من الواقع الإنساني،

          فلولا جهود وتضحيات هؤلاء الربانيين لما بقي للإسلام رسم أو أثر منذ زمن بعيد، وكما جاء بالقول المشهور الذي يمثل واقع حال الإمام الشهيد (عليه السلام) (إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني)، فالمقصود بالتوحيد الأفعالي هو الإيمان الراسخ بأنه لا مؤثر في الوجود سوى الله تعالى.

          وبعبارة أخرى الإيمان النظري الراسخ عن قبول وقناعة تامة بأن ما من فعل في هذا الوجود طبيعي أو اختياري علة كان أو معلولًا يصدر عن أي موجود مجرداً كان أو مادياً، شاعرًا به فاعله أم لا،إلا هو بإرادة الله سبحانه وتعالى حدوثاً وبقاءً.

        ولو أخذنا قضية الشرك بأنواعه المختلفة في الحياة الإنسانية العملية على سبيل المثال لوجدناه يرتبط بشكل وثيق بالتوحيد الأفعالي كون الفهم الإنساني غير الصحيح له ولمراتبه المختلفة يوقع الإنسان في مطبات نظرية وعملية تبعده عن الإيمان التوحيدي الحق، وبالتالي يقع في الشرك وما يترتب عليه من آثار جسيمة على الإنسان والإنسانية معاً.

         ولنأخذ مثالا من القرآن عن سحرة فرعون ونقارن وضعهم وأحوالهم بوضع وأحوال الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام) وأنصاره.

         قال تعالى: (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

          من الآيات الشريفة السالفة نستطيع أن نجري موازنة موجزة لبيان أثر التوحيد الأفعالي بين سحرة فرعون الشهداء والإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته(عليهم السلام) وأنصاره الأبرار وبحسب ألآتي:

   1- الإمام الحسين(عليه السلام) وأولياؤه هم مؤمنون موحدون بأعلى درجات التوحيد، ابتداءً وإلى حين شهادتهم الدموية واحداً بعد الآخر، بينما كان سحرة فرعون مشركين ومشعوذين ابتداءً وموحدين مؤمنين انتهاءً.

   2- كان هدف الإمام الحسين(عليه السلام) وجماعته إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ودحض كلمة الباطل ومحاربة الطاغوت، وهم يعلمون أن ذلك الأمر يكلفهم حياتهم، فأقدموا على ذلك بوعي وعزيمة لا تلين، بينما كان هدف السحرة هدفًا ماديًا ونيلًا للقرب من الطاغية فرعون.

   3- كان الإمام الحسين(عليه السلام) وجمعه المؤمن من أعلام الأمة وصفوتها النبيلة وهم علماء ربانيون أبرار، بينما كان سحرة فرعون من علماء السحر المادي في زمانهم.

   4- إن الإمام الحسين(عليه السلام) وجمعه المؤمن كان معارضًا ورافضًا للظلم والظالمين منذ البداية إلى النهاية إلا قليلًا من الذين التحق بمعسكر الإمام بعد أن شعر بموقفه الخاطئ كالحر بن يزيد الرياحي، بينما كان السحرة أجمعين من أنصار فرعون في البداية .

   5- قاتل الإمام (عليه السلام) وجمعه المؤمن جميعًا واستشهدوا في ساحة القتال بينما قتل السحرة صبرًا وجبراً أي إنهم لم يختاروا القتال والمقاومة ابتداءً.

   6- الاثنان معا أقبلوا على الشهادة بموقف ثابت وعزيمة لا تلين طمعًا بالأجر الأخروي من عند الله تعالى.

   7- أحدثت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)وجمعه المؤمن بالله تبارك وتعالى هزة عنيفة في الأمة الإسلامية، وكشفت زيف وخداع وظلم يزيد ووحشيتهم وبعدهم عن دين الإسلام، مما مهد لحدوث ثورات وانتفاضات دامية أضعفت سلطان وحكومة الأمويين، وبالتالي سقوط دولتهم ولحقتهم اللعنة على مر الزمان وإلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، بينما لم تؤثر شهادة السحرة على فرعون وملئه، ولم تحدث تغييرًا في السلوك الإيماني العام للمجتمع الفرعوني آنذاك، بدليل استطاعة فرعون حشد الجيوش الجرارة لملاحقة موسى(عليه السلام) وأتباعه إلى البحر حيث أغرقهم الله تعالى.

           هذا غيض من فيض ذكرناه لبيان أثر التوحيد الأفعالي في السلوك الفردي والجماعي للإنسان والانسانية.

         والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم اجمعين إلى يوم الدين والعاقبة للمتقين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.