Take a fresh look at your lifestyle.

قصيدة السيد صادق الفحام في أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)..نص وتحليل

0 1٬155

القصيدة:

عين جودي على الغريب القتيلِ          وأطيلي البكا على ابن الرسولِ  
واستمدي دم الفؤاد إذا ما                  نفد الدمع للمصاب الجليل
لمصاب بكت له الجن والإنـ               ـس بدمع قد سال كل مسيل
لمصاب أبكى السماوات حزناً            بدم هاطل ودمع همول
لمصاب أبكى الرسول وأذكى            حُرَق الحزن في فؤاد البتول
أمصاب الحسين نجل علي                وسليل الزهراء خير سليل
لست أنسى مولاي إذ وقف المهر        بأرض الطفوف دون الخيول
فابتدا قائلاً ألا ما اسم ذي الأر           ض التي قد كرهت فيها نزولي 
قيل ذي كربلا فقال لهم: حطـ              ـوا رحالي قد حان وقت رحيلي
إن في هذه البقاع ابتلائي                  وامتحاني ومثلتي ومثولي
وبها يصبح العزيز من الأطـ             ـهار في قبضة الحقير الذليل
وبها تسفك الدماء من الآ                  ل ببيض الظبى وزرق النصول 
لهف نفسي غداة دارت رحى الـ        بين على صحبه بخطب مهول
وبقى مفرداً ينادي: ألا هل                ناصر مسعد لآل الرسول؟
حُرَّ قلبي له يصول على القو            م وفي القلب منه حَرُّ الغليل
حُرّ قلبي له وقد خرّ للأر                 ض صريعاً يجود فوق الرّمول
ومضى المهر عارياً وهو ينعا           ـه ويبكي بمدمع مطلول
فبرزن النساء منزعجات                 يتعثرن دهشة بالذيول
لهف قلبي على سكينة تدعو:            عمّتا أين واحدي وكفيلي؟
عمّتا من ترين يحمي حريم الـ           مصطفى بعد مصرع المقتول
عمّتا من ترين يرحم أيتاما               يراهم فرط الضنى والنحول؟
أين جدي يرى الحسين قتيلاً            والسبايا في ذلة وخمول؟
أين أمي الزهراء حتى ترى             رأس ابنها فوق رأس رمح طويل؟ 
أين جدي الكرار حتى يرى السـ       جاد في كربة وقيد ثقيل
يشتكي الأسر وهو ظام عليل           حُرَّ قلبي على الأمير العليل 
عمّتا قرّبوا المطيّ فقومي               ودِّعيه من قبل وقت الرحيل
يا لها من مصيبة عمّت الخلق          ورزء على الأنام جليل 
أيُبرّى كريم سبط رسول اللــ            ـه عند جسمه بسيف صقيل
ويعلّى على السنان كبدر                 طالع فوق ذابل محمول
ويزيد يبيت في طيب عيش              تحت ظل من النعيم ظليل
وحسين يبيت ذا جسد ملقى             على الترب بالدماء غسيل
هشمت صدره الخيول فلهفي           لقتل العدا هشيم الخيول 
وثناياه نكّتت بقضيب                      لنكات من وترهم وذحول
وهي كانت محل رشف رسو           ل الله حباً وموضع التقبيل
وتصان النساء من آل حرب            في قصور بساتر مسدول   
وبنات النبي يُشهرن فوق الـ             بدن ما بين أعبُدٍٍ وتغول
مزعجات تحدي بهن المطايا            في حزون من الفلا وسهول 
متعبات في السير شعثا عراهـ          ـن دؤوب من رحلة ونزول
يا بني أحمد مصابكم أضـ                نى فؤادي وهاج حر غليلي
نجلكم صادق بكم مستجير               في غد من عذاب يوم مهول
صلوات الإله تترى عليكم               في مساء وبكرةٍ وأصيل

 

الشاعر:

          هو أبو النجاة السيد صادق الحسيني الأعرجي الحلي النجفي المعروف بالفحام بن علي بن الحسين بن هاشم بن شرف الدين بن نصر الله بن محسن الكبير بن ناصر بن منصور بن عماد الدين موسى بن علي بن محمد بن عمار بن المفضل بن محمد الصالح بن أبي عباس أحمد بن أبي الحسين محمد الأشتر بن عبيد الله الثالث بن أبي الحسن المحدّب بن عبيد الله الثاني بن علي الصالح بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام السجاد بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام).

          ولد الشاعر في سنة 1124هـ في (قرية الحصين) الواقعة جنوب مدينة الحلة، واسمها القديم (حصن ساحة) وقد قال فيها شاعر:

     ولي جسد في حصن ساحة موثق                وقلــب بأكنــاف الغـــري رهيــــن

 

           لكنه حباً في العلم، حلّ في مدينة النجف الأشرف لينهل من معينها، فدرس الفقه والأصول وعلم الكلام على أيدي أساتذة كبار منهم الشيخ خضر الجناجي والد الشيخ جعفر صاحب كتاب: (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء) الذي اشتهرت به الأسرة فيما بعد على أن الشيخ جعفر نفسه هو أحد تلامذة السيد صادق الفحام.

            وقد جد السيد في تحصيل العلوم والمعارف حتى بلغ درجة الاجتهاد، وبرز له تلامذة أعلام منهم الشيخ جعفر المذكور والشيخ محمد رضا النحوي الشاعر المعروف وغيرهم.

           توفي السيد (رحمه الله) في النجف الأشرف سنة (1205هـ) وقد رثاه جمع من الشعراء وأرخ بعضهم وفاته وقد ترك جملة من الآثار في مجال الفقه واللغة وما يتصل بها.

 

مكانته الأدبية:

           كانت للسيد صادق الفحام منزلة أدبية رفيعة في عصره، وقد شارك في مختلف أغراض الشعر إذ كان النظم طبعاً لديه، ولذلك نجد في ديوانه الذي حققه مؤخراً السيد مضر سليمان الحلي تنويعاً بين المديح والرثاء والإخوانيات والتهاني والتاريخ الشعري، وهي الأغراض التي كانت سائدة في ذلك الزمان.

            ومما يدل على رفعة هذه المكانة مشاركته في (معركة الخميس) الأدبية المشهورة، التي هي عبارة عن ندوة أدبية كان يرعاها ويزيد في شدة أوارها السيد مهدي بحر العلوم، وقد شارك فيها أعلام ذلك العصر وكبار شعرائه، وهي تقوم على مبدأ المساجلة الشعرية، ولذلك كانت عاملاً مهمًّا في نهضة الشعر العراقي الحديث بعد أن خبا بريق هذا الشعر في الحقب السابقة.
ومن المساجلات اللطيفة التي يمكن أن تذكر في هذا المجال ما جرى بين السيد صادق الفحام والشيخ محمد رضا النحوي، فقد افتخر السيد بشعره ليفوق به المتنبي فيقول:

     وإني نبي الشعر كم لي معجز                   تجلت به للمبصرين الحقائق

     فدع عنك قول ابن الحسين بمعزل              وإن هدرت فيهن منه الشقائق

     فكم بين من يأتي به الناس كاذب                وكم بين من يأتي به الناس صادق

           وقد كانت للسيد الفحام فضلاً عن ذلك مساجلات مع غيره من الأعلام، منها مع الشيخ كاظم الأزري صاحب الأزرية، وكانت له مشاركات أيضاً في مجال التخميس والتشطير كما فعل بعض الشعراء ذلك بشعره أيضاً.

التحليل:

           يبدو واضحاً دخول الشاعر المباشر إلى موضوعه، مفارقاً بذلك أنماط البناء الفني التقليدي الذي يقسم القصيدة العربية على لوحات متعددة تبدأ بذكر الديار، أو الوقوف على الأطلال والبكاء عليها تمهيداً للانتقال إلى الغرض الرئيسي، وتبدو عاطفة الشاعر المملوءة بالحزن العميق قد هيمنت على نسق الأداء ومقوماته الفنية، ولذلك لم تدع للشاعر فرصة التأمل الطويل، ليكون هذا المدخل الحزين بانتداب العين لسكب الدمع على معرَّف بالألف واللام مع صفتين هما الغربة والقتل، ويستمر خطاب العين وانتدابها على مدى البيتين الأولين، وهو خطاب متجه من الشاعر إلى نفسه، إذ الحزن الفاجع هو حزن هذه النفس بعد استشعارها لهذا المصاب الجلل الذي أصاب الإمام الحسين(عليه السلام) وأهله وصحبه في كربلاء.

          إنَّ هذا المدخل المباشر إلى الغرض في القصيدة لا يمنع النظر لها من زاوية فنية أخرى، فقد بنى الشاعر قصيدته على مبدأ تعدد الأصوات التي أسندها إلى شخصيات تبدو مستقلة داخل القصيدة عن الشاعر الذي يأخذ دور المؤلف المسرحي الموضوعي برغم هيمنته العاطفية الشديدة، فيدير الأحداث ويقدمها كأنها مشاهد أو لوحات متتابعة أمام رؤية المشاهد المفترض، ويمكن تقسيم القصيدة إلى ثلاثة أصوات هي:

  الأول: صوت الراوي الذي يتولاه الشاعر بنفسه وإن كان يبدو مستقلاً عنه من الناحية الفنية.

  الثاني: صوت الإمام الحسين(عليه السلام).

  والثالث: صوت سكينة بنت الإمام الحسين(عليهما السلام).

           وقد أسند الشاعر أو المؤلف إن شئنا الدقة إلى هذه الأصوات المهمات التي تتفق ودورها الفعلي في الحدث الذي يعتمد مرجعيتين في وقت واحد، هما: مرجعية تاريخية تظهر بتوسط السرد، ومرجعية عاطفية تتجلى بالنمط الحزين المهيمن على النص كله. ولذلك سيكون وقوفنا في تحليل القصيدة عند هذه الأصوات بحسب دورها في الأداء وعلى النحو الآتي:

1ـ صوت الراوي: وظهر في الأبيات (1ـ 7) ومهمته هنا تمهيدية، فهو يستجلب الحزن، ويستدعي جوارح النفس والجسد للمشاركة في هذا الحزن من دون أن يبين العلة في ذلك حتى يتجاوز البيت الرابع، وهذا التفجع، مع إخفاء العلة، يثير لدى المتلقي رغبة شديدة في التطلع إلى معرفة دواعي ذلك الحزن، ويعظم في الوقت نفسه من شأن تلك العلة ويعطيها قيمة تستحق معها كل ذلك الحزن، فهو يسنده (لمصاب) بصيغة التنكير، ولكن الأوصاف التي تتبعه تزيده تعظيماً من دون أن تكشف عنه تصريحاً. فهو مصاب أبكى الجن والإنس، وأبكى السماوات بقطر كالدم،

          ثم يتجه به إلى نوع من التخصيص حين يصل إلى البيت الخامس الذي يصرح فيه باسم الرسول(صلى الله عليه وآله)، ثم يقترب من ذلك أكثر حين يصرح في الشطر الثاني باسم (الزهراء(عليها السلام))، وبذلك تصبح الأذهان مهيأة تماماً لاستقبال النبأ العظيم في البيت السادس، وهو مصاب الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام) الذي يأتي بصيغة الاستفهام، ثم التعجب، ويختم البيت السابع هذا البدء من صوت الراوي الذي كان تمهيدياً لينتقل منه إلى صوت جديد.

2ـ صوت الإمام الحسين(عليه السلام): في الأبيات (8ـ12)، إذ يمهد الراوي لصوت الإمام الحسين(عليه السلام) في البيت السابع بقوله: لست أنسى مولاي… ولكنه يسلمه مقود الكلام في البيت الثامن بدءاً (بألا) الاستفتاحية التي يتبعها سؤال الإمام الحسين(عليه السلام) عن الأرض التي وقف عليها مع علمه بها ليستثير من هذه الأرض واسمها ما أودعه لديه من أخبارها وما يجري عليها رسول الله(صلى الله عليه وآله) جدّه وأمير المؤمنين(عليه السلام) أبوه، ولذلك يأتي الأمر:

         (حطوا رحالي) مقروناً بالإيذان بالرحيل بمعناه المجازي، وهو الموت ليجرد المعنى الحقيقي للرحيل، أي السفر، من فاعليته بهيمنة معنى الموت عليه، وليكون هذا الرحيل، الموت مقاماً للتفصيل الذي يورده صوت الإمام(عليه السلام)، وهو تفصيل يتجه بالزمن وجهة جديدة نحو المستقبل عن طريق التنبؤ الذي يورده الإمام(عليه السلام)، مستنداً فيه إلى ما سبق ذكره من أخبار النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) به.

            ويمكن أن نلحظ أن هذا التنبؤ بقدر ما كان موجزاً فقد جاء محملاً بأفعال ضخمة ستجري على الأرض، فيها الابتلاء والامتحان، والتمثيل بالأجساد، وغلبة الحقير الذليل على العزيز، وسفك دماء الحسين وآل بيته(عليهم السلام) وصحبه بسيوف ظالميهم من بني أمية ومن أعانهم.

3ـ صوت الراوي: يعود صوت الراوي مع الأبيات (13ـ19) بعودة الضمير إلى الراوي واستعماله طريقة الإخبار عما يجري ليتساند بذلك فعلاً الزمن المستقبل الذي أخبر به الإمام(عليه السلام)، والماضي الذي يخبر به الراوي بعد حصول الواقعة التي يورد بعض أجزاء مختارة من تفصيلاتها، فالبيت الثالث عشر يخبر بموت أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) مستشهدين بأيدي عدوهم، والبيت الذي يليه يخبر عن وحدة الإمام(عليه السلام) وبقائه فريداً بعد غيبة أصحابه وآل بيته(عليهم السلام)، وهو يورد نداء الإمام:

          ألا هل من ناصر… على سبيل الإخبار أيضاً، ثم يتعمق فعل هذا الصوت باستعمال ضمير المتكلم: حرّ قلبي، المتبوع بوصف ما جرى من صولة الإمام(عليه السلام) على عدوه، وغلبة الإجهاد والعطش عليه، ثم سقوطه في أرض المعركة بين أعدائه، وعودة مهر الإمام(عليه السلام) إلى مخيم النسوة لينتهي هذا الصوت عند بروز النسوة فيختار الراوي من بينهن (سكينة(عليها السلام)) ليسلمها مقود الأداء في استكمال أجزاء الحدث وبيان مفاصله.

4ـ صوت سكينة (عليها السلام): وقد تكفلت به الأبيات (19ـ26) فالشطر الثاني من البيت التاسع عشر يبدأ به صوت سكينة (عليها السلام) بخطابها الموجه إلى عمّتها زينب(عليها السلام) بمجموعة من الأسئلة الفاجعة التي لا تقتصر على استثارة أسئلة واقعية تعبر عن الحيرة في موقف الوحدة بين الأعداء بعد مقتل الأهل(عليهم السلام) والأصحاب، وإنما تعبر عن شدة التفجع واستشعار عظم تلك الوحدة بانتداب الراحلين من الأهل أيضاً، ولاسيما الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين(عليه السلام).

            ويكشف هذا الصوت أيضاً بطريق السؤال، ما نتج عن الواقعة، فقد تحولت النسوة إلى أرامل وهن حريم رسول الله (صلى الله عليه وآله). وتحول الأطفال إلى أيتام وهم أسباط رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهم جميعاً أصبحوا سبايا بإمرة عدو لا يعرف للرحمة طريقاً، أما صفاتهم فقد انقلبت من العز إلى الذل، ومن الأمن إلى الخوف والرعب، ومن الاكتفاء إلى الحاجة،

          وأما السجاد (عليه السلام) وهو الإمام بعد أبيه(عليه السلام)، فقد اجتمعت عليه حبال الأسر والعلة معاً، فضلاً عن فجيعة مقتل الأهل(عليهم السلام) والأصحاب، وينتهي أداء هذا الصوت عند الإخبار ببدء مسيرة الأسر الطويلة التي تحط رحالها في بلاد الشام.

5ـ صوت الراوي: يستكمل الراوي أحداث مسيرة الأسر في الأبيات (27ـ38) بالإشارة الموجزة الدالة على حمل رأس الحسين(عليه السلام) على رمح طويل، يقابله في الوقت نفسه تمتع يزيد بنعيم الدنيا الزائل، إذ يوازن الشاعر بين الحالين: حال جسد الحسين(عليه السلام) المرمل بالدماء ورأسه المفصول عن الجسد ثم المحمول على رمح، وبين حال يزيد الذي يرفل في نعيم زائف ليصل إلى مشهد جرى في قصر يزيد حين يطل وهو يعبث بقضيب له بثنايا رأس الحسين(عليه السلام) الموضوع أمامه،

           وهذه إشارة لها تفصيلها التاريخي الذي يستخرج صفة الشاعر دوافع ذلك الفعل المجرم التي ترجع إلى أحقاد قديمة جاهلية وغير جاهلية، ليستمر في مبدأ الموازنة، فهذه الثنايا التي يعبث بها هذا الدنيء المسمى يزيداً كانت محل تقبيل أشرف خلق الله وأرفعهم النبي محمد(صلى الله عليه وآله).

          وأما النساء فهي محل موازنة أيضاً، إذ نساء النبي مبرزات إلى تصفح الأغراب وجوههن ونساء يزيد مصونات في القصور، ولا يكتفي الراوي بهذا فيواصل الوصف ليكشف عن مزيد من حال النسوة الذي يجسد عظم المصيبة التي حلت على آل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) بأيدي آل أمية ومن والاهم.

6ـ صوت الشاعر: يظهر صوت الشاعر في الأبيات (39ـ41) منفصلاً عن سائر الأحداث وإن ارتبط مع مضمون النص في نقطة التفجع وإظهار الحزن لعظم المصاب، ويفيد الشاعر من هذا في توجيه الخطاب على آل الرسول(صلى الله عليه وآله) لطلب الشفاعة، ويصرح باسمه في البيت الأربعين،

            وهو تصريح يمكن أن يحمل على المعنى الحقيقي طبقاً لاسم الشاعر، وكونه مرتبطًا برابطة الانتماء النسبي إلى بيت النبي(صلى الله عليه وآله)، ويمكن أن يحمل على معنى التورية بإرادة معنى الصدق في الدعوة والاستجارة من هول يوم القيامة، وهو يستعمل الدعاء أيضاً في ختام القصيدة.

   الخصائص الفنية في القصيدة:

            اجتمعت في القصيدة جملة من الخصائص الفنية التي أعطته قوة في التأثير، وتماسكاً في الأداء، جعلت قدرتها على إثارة الاستجابة لدى المتلقي كبيرة، ويمكن أن تجمل هذه الخصائص في النقاط الموجزة الآتية.

    1ـ الحيوية والحركة: يبدو واضحاً بأن القصيدة مبنية على أساس الحركة في نسجها النصي، فمجموع مكوناتها تمتلك عنصر الحركة، فمن حيث بناء الجملة نلاحظ غلبة الجملة الفعلية على الجملة الاسمية، ومن ناحية الزمن نلاحظ تنوعاً في الأزمان به واجتماعاً لها مع السيطرة في التنقل من زمن إلى آخر.

           ولعل أبرز ما يتجلى فيه وصف الحركة في القصيدة، كثرة الشخصيات الفاعلة وتعدد الأصوات الصادرة عنها، وهذا ما يقود إلى توكيد صفة الحوارية في النص، إذ يؤدي اجتماع هذه الشخصيات إلى بروز عنصر الحوار الذي أداره الراوي باستعمال مقول القول، أو جعل الشخصية مصدرًا للسرد بدلاً من الراوي نفسه.

    2ـ اعتمدت القصيدة مبدأ التنويع في نمط الخطاب فلم تقتصر على نوع محدد من الأداء من ناحية الجملة، بل اعتمدت التنوع الذي شمل الجملة الخبرية والجملة الإنشائية، وما انطوى تحت ذلك من استعمال أساليب الاستفهام والتعجب والنداء والدعاء، وهذا ما أعطى النص حيوية في الأداء وتنوعاً في الاستعمال والتوظيف.

    3ـ يبدو كل من الاستفهام والدعاء قد أخذ مجاله في النص لأسباب فنية موضوعية، فحين أسند الراوي مصدر السرد إلى إحدى الشخصيات التي وقفت عليها آثار الفجيعة مباشرة. وهي (سكينة(عليها السلام)) فقد أوكل لها استعمال أسلوب الاستفهام الذي يدل على التعجب والانشداه مما يجري لهول هذا الذي تشهده،

            وهذا يعني تفعيل مبدأ المفارقة بين الحدث (الفجيعة) وبين الشخصية الراوية (سكينة(عليها السلام)) لإعطاء أقصى قوة في التأثير، ولذلك لم يسند مصدر السرد إلى السيدة زينب(عليها السلام) مثلاً لأن لها قوة التحمل المستندة إلى قوة الوعي والإيمان مع فارق العمر، وهذا استعمال ناجح لأسلوب الاستفهام بإجرائه على لسان الشخصية المناسبة له.

            وأما أسلوب الدعاء فيكاد يختص به الراوي لنفسه بتكرار أفعال معينة مثل: حر قلبي، لهف نفسي، وهي تعبيرات تثير مدى المتلقي نظير ما أثارته لدى الشاعر، في حين اختص الشاعر لنفسه بدعاء خاص خارج عن نطاق ما أجراه من دعاء سابق في القصيدة ختم به، يمثل حاجة نفسية تؤذن بالانتهاء مما كان فيه من شأن.

    4ـ التوظيف الناجح للفنون البلاغية: فقد وفق الشاعر في اعتماد بعض الأدوات البلاغية الشائعة في القصيدة العربية عموماً وفي زمن الشاعر خصوصاً، ومنها: الجناس، وقد جرى توظيف هذا الفن لدى الشاعر من غير تكلف في الأداء، ومن غير تعمد في البناء، ومن دون سعي إلى اصطياد مصاديق لهذا الفن وإن أصابت المعنى بالخلل كما هو الشأن لدى شعراء آخرين يوائمون بين اللفظة وأختها، وكذلك الطباق عنده فقد جرى في المجرى نفسه.

          ويلحظ أن الشاعر قد استعمل بنجاح أيضاً أسلوب التكرار على مستوى الكلمة، وعلى مستوى الجملة، وعلى مستوى الفكر أيضاً، ولكن التكرار لم يكن مملاً أو مرهقاً للقصيدة في بنائها، بل أدى وظيفته في تركيز المعنى وفي تدرجه من العموم إلى الخصوص.

    5ـ النواحي الإيقاعية: استعمل الشاعر بحر الخفيف وزناً لقصيدته، ولم يكن هذا الاختيار اعتباطاً فهو يتوافق تماماً مع العناصر الأخرى. فالقصيدة مبنية على أساس كثرة الحركات وسهولتها، ولا يفي بمثل هذا غير بحر الخفيف، ففيه كثرة في الحركات لما في تفعيلتيه: (فاعلاتن، مستفعلن) من قدرة على التنوع والابتعاد عن الأصل، فضلاً عن كثرة توالي الحركات الموجودة فيهما أصلاً لكثرة تحملها الزحافات التي تنوع الإيقاع المنتج فيها.

            وفي البحر الخفيف خفة في الحركة أيضاً وامتداد لها إن كانت بها حاجة إلى الامتداد، فنجد المنفذ لذلك مفتوحاً بإمكان استعمال تقنية (التدوير) والتدوير لا يقتصر في مفهومه على عبور الشطر الأول إلى الشطر الثاني، بل يتجاوزه إلى معنى امتداد الشحنة العاطفية، والدفقة الفنية، التي تريد التحرر من قيد الشطر الواحد الذي قد لا يسعها أحياناً، وهذا يعلل ما تراه في القصيدة من كثرة اعتماد مبدأ التدوير بين أغلب أبياتها، ففي القصيدة شخصيات متحركة.

           وفيها حوارات متصلة وفيها جمل إنشائية، وجمل فعلية متشابكة مع بعضها، لذا يكون البحر الخفيف هو الأصلح من سواه من بحور الشعر العربي في استيعاب كل هذا.

         أما القافية فقد جعل الشاعر حرف اللام رويا لها، وهو حرف لين يساعد على امتداد الصوت الذي يقترن بالحزن والتفجع، وأسنده الشاعر فضلاً عما فيه بسندين هما:

الأول: حرف الياء الذي يسبقه وهو حرف تأسيس، والياء حرف علة لين أيضاً يمتد في اللفظ.

والثاني: جعل الروي مكسوراً، وهذا ما أعطاه قدرة في تجسيد انكسار النفس وهي تفرغ كل هذا الحزن مع توالي أبيات القصيدة.

    6ـ اعتماد مبدأ الإيجاز: اعتمدت القصيدة مبدأ الإيجاز عبر الإشارة إلى الأحداث وليس الخوض في تفصيلاتها، وذلك اعتمادًا على معرفة المتلقي بذلك، فلم يعتمد النص أساساً مبدءاً سردياً ليتحرى به مجريات الأحداث ويصف تفصيلاتها من لحظة البدء إلى لحظة الصعود ثم الانتهاء، فليس هذا من شأنه، إنما هو معنى لقضية أخرى هي إظهار الحزن والتفجع لما جرى،

          ولذلك بدأ النص بانتداب العين لإجراء الدمع حزناً على ما جرى، ثم اكتفت بعد ذلك بالإشارة واللمح اكتفاء بمعرفة المتلقي ومشاركته، وهذا ما يعني توقع سياق متحكم في مجرى القراءة المفهوم لدى طرفي الإنتاج: الشاعر ومتلقيه، ولا شك في نجاح هذا التوقع وصدقه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.