غير خافٍ على أحد ما لمكانة الحسين (عليه السلام) وثورته، من أثر خاص في سير تأريخ التشيع، وبيان أهدافه، وتوضيح سبله. ولا يخفى أيضاً ما جناه التشيع بصورة خاصة والإسلام بصورة عامة من ثورته(عليه السلام) من أهداف سامية، وثمرات جليلة، تبقى مدى الزمان.
غير أن شرذمة حاقدة من الناس، حاولت التقليل من شأنها؛ لأنها بينت زور خلافة أسلافهم الأمويين، فطفقت تتعتع وتتلعثم، محاولة إلصاق بعض الأمور بثورته(عليه السلام)، مما يقلل من شأنها. وهم مائنون في نقلهم، كاذبون في أخبارهم.
ومن جملة ما ألصق، بأحد أنصار الحسين (عليه السلام) المرموقين، وأحد ثقاته، والذي جعله الحسين(عليه السلام) على الميمنة، وممن فاز بالكأس الأوفى، والقدح المعلى، ونال السعادة الأبدية، أنه عثماني الهوى لا يرى رأي أهل البيت (عليهم السلام)، ومن المتعصبين لعثمان والموافقين لبني أمية في طلبهم بثأره، وأنه تغير فجأة عندما طلب منه الحسين(عليه السلام) نصرته لتذكره مقامه ومواقف رسول الله(صلى الله عليه وآله) منه!!.
إنه: زهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي.
من قال بعثمانيته؟!
لعل أقدم المصادر التي ذكرت أنه عثماني الرأي هي تأريخ الطبري، وأنساب الأشراف للبلاذري.
فروى الأول عن (أبي مخنف عن الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريك العامري قال: لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب… فقال عبد الله بن أبي المحل بن حزام.. أصلح الله الأمير إن بني أختنا مع الحسين فإن رأيت أن تكتب لهم أمانًا فعلت، قال نعم ونعمة عين… ـ ثم ذكر كيف رفض العباس وإخوته الأمان، وأمر عمر بن سعد بعد ذلك بالزحف نحو معسكر الحسين(عليه السلام) إلى أن يذكر قول الحسين(عليه السلام) لأخيه العباس: يا عباس اركب، بنفسي أنت يا أخي، حتى تلقاهم فتقول لهم ما لكم وما بدا لكم وتسألهم عما جاء بهم.
فأتاهم العباس (عليه السلام) فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر،
فقال لهم العباس(عليه السلام): ما بدا لكم وما تريدون؟
قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم.
قال (عليه السلام): فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فأعرض عليه ما ذكرتم.
قال: فوقفوا ثم قالوا: القه فأعلمه ذلك ثم القنا بما يقول.
قال: فانصرف العباس (عليه السلام) راجعاً يركض إلى الحسين (عليه السلام) يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم
فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم.
فقال له زهير: أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلمهم.
فقال له حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه(صلى الله عليه وآله) وعترته وأهل بيته(عليهم السلام)، وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيراً.
فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكي نفسك ما استطعت.
فقال له زهير: يا عزرة! إن الله قد زكاها وهداها، فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية.
قال: يا زهير! ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت؛ إنما كنت عثمانياً!!
قال: أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم؟! أما والله ما كتبت إليه كتابًا قط، ولا أرسلت إليه رسولاً قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه. فلما رأيته ذكرت به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظًا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله)(1).
وروى أيضاً عن أبي مخنف عن السدي عن رجل من بني فزارة قال: (لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في التمارين التي أقطعت بعد زهير بن القين من بني عمرو بن يشكر من بجيلة، وكان أهل الشام لا يدخلونها فكنا مختبئين فيها. قال: فقلت للفزاري: حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي.
قال: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين(عليه السلام) تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين(عليه السلام) تقدم زهير. حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدًّا من أن ننازله فيه فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب)(2).
أما البلاذري فقال: (قالوا: وكان زهير بن القين البجلي بمكَّة ـ وكان عثمانياً ـ فانصرف من مكَّة متعجلاً فضمّه الطريق وحسيناً، فكان يسايره ولا ينازله، ينزل الحسين في ناحية وزهير في ناحية، فأرسل الحسين(عليه السلام) إليه في إتيانه، فأمرته امرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى فقالت: سبحان الله!! أيبعث إليك ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فلا تأتيه؟!!
فصار إليه. فلمّا صار إليه ثمّ انصرف إلى رحله، قال لامرأته: أنت طالق. فالحقي بأهلك فإني لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير. ثم قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني فليتبعني وإلَّا فإنه آخر العهد. وصار مع الحسين(عليه السلام))(3).
غير أنا نقول: بأن هذا الكلام لا يصح، لما يلي:
التخليط في رواية الطبري:
أولاً: بالنسبة إلى رواية الطبري التي تنص على أن زهيراً كان يساير الحسين(عليه السلام) من مكة، وكان لا ينزل في المنزل الذي ينزل فيه الحسين(عليه السلام) لا تصح أبداً.
فهي فضلاً عن ضعف إسنادها بروايتها عن رجل من بني فزارة غير معروف الاسم ومجهول الحال، فإن متنها مخالف للنصوص التاريخية.
إذ لا يمكن لأن يكون زهير قد ساير الحسين(عليه السلام) من مكة، وذلك لأن المشهور أن الحسين(عليه السلام) قد خرج يوم التروية أي في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وزهير قد أكمل موسم الحج قبل خروجه، فعلى أقل تقدير يفترض أن يكون خروجه من مكة في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، أي إن الحسين(عليه السلام) قد سبقه بخمسة أيام!!.
وحتى لو قلنا بأن زهيرًا قد خرج (متعجلاً) كما نصت على ذلك رواية البلاذري، فإن الحسين(عليه السلام) قد خرج يجد السير أيضاً، ولا يلوي على شيء.
فمن هنا يتضح بأن زرود هو أول منزل نزل فيه زهير والحسين(عليه السلام)، وبعبارة أدق: هو أول منزل اجتمع فيه مع الحسين(عليه السلام) من يوم خروجه من مكة بعد أن تعجل بالسير، لكونه المنزل الوحيد الذي يمكن أن يجتمعا فيه بعد إسراعه. وليس كما قالت الرواية بأنه قد فرض عليه أن ينزل في نفس منزل الحسين(عليه السلام).. فلاحظ.
رواية الطبري الأخرى تكشف عن عدم كونه عثمانياً:
ثانياً: في رواية الطبري الأولى التي تذكر المحادثات التي جرت بين أصحاب الحسين(عليهم السلام)، وبين أصحاب عمر بن سعد (لعنه الله)، دليل واضح على أن زهيرًا لم يكن عثمانياً.
فتأمل في جواب زهير(رضي الله عنه) لعزرة: (أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم!!) فإن فيه نفي ضمني للتهمة التي اُلصقت به في كونه عثماني المعتقد.
وبعد هذا، فإن سكوت عزرة يدل على ظهور كذبه، وكذب التهمة التي نفاها زهير عن نفسه. وقد عيره فيما بعد بمكاتبته للحسين (عليه السلام) ثم الخروج ضده، فكأنما اُلقم حجراً.
لم يرد في ترجمة زهير ما يشعر بعثمانيته:
ثالثاً: إن من الملاحظ أن زهيرًا في حياته وترجمته التي ذكروها لم يرد له موقف واحد تجاه البيت العلوي الطاهر(عليهم السلام)، ولا موقف واحد يدل على تأييده لسياسة عثمان، بل على الأقل سياسة الأمويين وأحقيتهم في الطلب بثأره.
مع أنا نرى أن كل من كان عثماني الهوى قد كان له موقف مشهور يذكر في كتب التأريخ، فهل لزهير موقف مشهور، أو موقف فيه إشعار أو إشمام ـ ولو من بعيد ـ على كونه عثمانياً؟! هذا ما لم يرد في كتب التأريخ بتاتاً!!
ماذا عند ابن أعثم؟:
رابعاً: فإن ابن أعثم الكوفي والذي تعاصر مع الطبري والبلاذري قد ذكر الخبر ولم يذكر أنه كان عثمانياً أو أنه امتنع عن نصرته فقال: (ثم مضى الحسين فلقيه زهير بن القين، فدعاه الحسين إلى نصرته فأجابه لذلك، وحمل إليه فسطاطه، وطلق امرأته وصرفها إلى أهلها، وقال لأصحابه: إني غزوت بلنجر مع سلمان الفارسي، فلما فتح علينا اشتد سرورنا بالفتح فقال لنا سلمان: لقد فرحتم بما أفاء الله عليكم
قلنا: نعم.
قال: فإذا أدركتم شباب آل محمد(صلى الله عليه وآله) فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه منكم بما أصبتم اليوم.
فأنا أستودعكم الله تعالى، ثم ما زال مع الحسين حتى قتل..)(4).
فأين العثمانية؟! وأين الامتناع عن النصرة؟!
كلمات زهير وزوجته تكشف عن صلابة الإيمان:
خامساً: فإن كلمات زهير بن القين تكشف عن صلابة إيمانه، وحسن عقيدته فانظر قوله لزوجته: (عزمت على صحبة الحسين (عليه السلام) لأفديه بنفسي وأقيه بروحي) فقامت إليه وبكت وودعته وقالت: كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك أسالك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين(صلى الله عليه وآله)(5). فقال لأصحابه من أحب أن يصحبني وإلا فهو آخر العهد مني به(6).
فلاحظ كلماتهم، فإنها تكشف بين طياتها أنهم كانوا على علم ويقين بأن الحسين (عليه السلام) سيقتل، وأن زهيراً سيستشهد معه.
وينبغي ألا ينسى أن هذا الكلام قد جرى قبل أن يصل إلى الحسين (عليه السلام) خبر مقتل مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وقبل أن يتفرق الناس عنه يمينًا وشمالاً، فما أدراهم بهذا؟!
وإذا قلنا أنهم سمعوا أن الحسين (عليه السلام) سيقتل بأرض يقال لها كربلاء من أمير المؤمنين(عليه السلام) أو من الحسين (عليه السلام) نفسه، فإن هذا يدل على أنهم على قرب من البيت العلوي الطاهر(عليهم السلام)، ويعرفون ما سيجري عليهم، فأين العثمانية المزعومة؟!
أضف إلى ذلك ما روي في أسرار الشهادة:
(قيل: أتى زهير إلى عبد الله بن جعفر بن عقيل قبل أن يقتل فقال: يا أخي ناولني الراية.
فقال له عبد الله: أوفيَّ قصور عن حملها؟!
قال: لا، ولكن لي بها حاجة.
قال: فدفعها إليه. وأخذها زهير وأتى فجاء إلى العباس بن علي(عليه السلام) وقال: يا بن أمير المؤمنين أريد أن أحدثك بحديث وعيته.
فقال: حدث فقد حلا وقت الحديث.
حدث ولا حرج عليك فإنما تروي لنا متواتر الإسناد
فقال: اعلم يا أبا الفضل أن أباك أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أراد أن يتزوج أم البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب.
فقال(عليه السلام): يا أخي أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة، لكي أصيب منها ولداً شجاعاً، وعضداً ينصر ولدي هذا ـ وأشار إلى الحسين(عليه السلام) ـ ليواسيه في طف كربلا، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن أخواتك..)(7).
فإنه لو صح هذا الحديث فهو يكشف عن قربه الشديد من البيت العلوي(عليهم السلام)، ومعرفته بأخبارهم، ووعيه لهم.
فإننا بعد هذا كله، نستبعد كثيراً كون زهير عثماني الهوى في بداية حياته، والله سبحانه وتعالى العالم.
فسلام على زهير بن القين يوم ولد، ويوم جاهد بين يدي أبي عبد الله(عليه السلام)، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً. ورزقنا الله زيارته مع إمامنا الحسين(عليه السلام) في الدنيا، وشفاعتهم في الآخرة. آمين رب العالمين.
—————————————————-