Take a fresh look at your lifestyle.

الشعائر الحسينية بين الواقع والطموح (قراءة تربوية – نفسية)

0 802

                   السلام على من بذكره يذوب قلبي، ويقشعرُّ بدني، وتجتاح دموعي صورته التي رُسمت في عيني… السلام على من حبه يكبر معي كل يوم، ويتردد مع أنفاسي – التي هي خطاي إلى أجلي – ، السلام على من طيب الله به التراب ونوّر الله به الأرضِ… سيدي ومولايِ وحبيبي ونور عيني… أبي عبدالله الحُسين(عليه السلام).

(يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف: 88).
إن الطفل الذي ينشأ في مجتمع شيعي، عندما تبدأ تتفتح مداركه يلاحظ ويشاهد في كل عام وفي مناسبات عديدة شعائر ملازمة للمجتمع الذي يعيش فيه ولا يتخلى عنها أبداً. هذه الشعائر جاءت تعبيراً عن الحزن العميق على استشهاد الحسين(عليه السلام) فأخذت أطراً مختلفة ما بين الخطب وما تحويه من مواعظ وعبر وقصص تربوية وأخلاقية وتمثيل واقعة الطف بكل معطياتها كما وردت على لسان الرواة ونقال الحادثة وقتذاك، ومواكب عزاء وإقامة الموائد… وغيرها كثير.

وهذه الأمور تعتبر مهمة وذات تأثير في شخصية الفرد لأن فيها الكثير من موارد التنشئة الاجتماعية للفرد كما يسميها المتخصصون في العلوم التربوية والنفسية، و كما هو معلوم فإن الفرد يتأثر بعاملين مهمين هما الوراثة والبيئة التي يعيش عليها طيلة حياته ابتداءً من لحظة تكوينه إلى لحظة وفاته.

وإن ما يحيط بالفرد من مؤثرات أو أساليب في التعامل وغيرها يؤثر فيه بشكل واضح لاكتسابه الكثير من الخبرات التي يكون لها مردودها النفسي في تكوين ذاته ونمو شخصيته(1).

ومن هنا يبرز دور البيئة باعتبارها المكون الثاني والمهم في صياغة وتشكيل الشخصية الأولى للفرد وتحديد الثقة بنفسه وذاته، وتشكيل المفاهيم الاجتماعية والدينية الصالحة لديه.

وإن شخصية الفرد تتأثر بما يمر بها من المواقف والخبرات التي تصاغ نتيجة لذلك شخصية سوية أو بالعكس منها حسب الأساليب المتبعة معه، ولتكون جزءاً من كيانه الشخصي فيما بعد(2).

فكلما كانت أساليب التنشئة الاجتماعية صحيحة تركت أثراً إيجابياً في تكوين البناء الروحي لشخصية الفرد، وهذا ما تبغيه التربية وتجعله هدفاً لها.
وعليه فإن أساليب التنشئة الاجتماعية تتباين من مجتمع لآخر وفقاً للثقافة السائدة في ذلك المجتمع(3).
لذا تعد التنشئة الاجتماعية من الممارسات الاجتماعية وخبراتها المهمة لأن نتاجها الأجيال القادمة من البشر الذين يعملون على تقدم المجتمع أو تخلفه وعليهم يتوقف نمو حضارتهم(4).

وإن الشعائر الحسينية ينفرد بها المجتمع الشيعي وهي وسيلة خاصة من وسائل بناء الفرد والمجتمع، وأصبحت جزءًا لا يمكن اقتطاعه واستئصاله أو التخلي عنه من جسد المجتمع الشيعي، بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل السلطات الحاكمة الظالمة التي تحاول في كل مكان وزمان جعل هذه الشعائر في دائرة النسيان، وفي أحيان كثيرة يدفع الفرد الشيعي حياته أو يقضي سنوات عمره في السجون، لا لشيء سوى أنه شارك في إحياء هذه الشعائر المباركة.

وبصرف النظر عن ذكر الجذور الحقيقية لمنشأ الشعائر الحسينية، لكن قد ندرك جميعنا يعرف أن أئمة
أهل البيت(عليهم السلام) أوصوا أو وجهوا أو أقاموا هذه الشعائر المباركة، لغرض إحياء العوامل الكامنة وراء استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه وأن هدفهم هو الإصلاح الحقيقي في هذه الأمة، ثم لا بد من أن يكون هناك صوتٌ يصدح ليوصل للعالم أجمع هذه الرسالة الخالدة، وما هذا الصوت إلا هو الشعائر الحسينية الخالدة.

ولما كانت هذه الشعائر ذات أهمية تربوية وأخلاقية وفكرية فلا بد من اتباع الأسس العلمية والمنطقية والجمالية في إقامتها وإحيائها، ونسجل هنا بعض الأمور التي ينبغي مراعاتها ـ برأينا ـ عند إقامة هذه الشعائر المباركة:-

* أن تؤدي الشعائر الحسينية دورها في صناعة الفرد وتربيته تربية إسلامية صحيحة واعية تستند إلى أسس ومضامين هادفة لكي تحقق هدفها النبيل بفضل ما تعكسه من قيم روحية ودينية ودنيوية سامية.

* الاهتمام بالنماذج التربوية الخالدة التي تعكس الصفات الصادقة وتعمل على تهذيب وصقل الجانب الروحي لدى الأفراد وخصوصاً الأطفال، وتسهم في بناء شخصيته المثلى وتكون قدوة له في حياته وحركته داخل المجتمع الذي ينتمي إليه.

* اغتنام الشعائر الحسينية في بيان العديد من الأمور الشرعية والعقائدية التي أوضحتها واقعة كربلاء المقدسة من حيث الأصول والفروع، أو من حيث الكيفية التي يجب أن تؤدى فيها هذه الفرائض أو تلك، وبذلك يكون لتوظيف الشعائر الحسينية دور فاعل في تحقيق الهدف المطلوب في إيصال رسالة النهضة الحسينية.

* التركيز على تنمية الجانب الفكري الصحيح، والابتعاد عن التضخيم والتهويل وتجنب الأطروحات غير المسندة وغير المحققة والتي في أحيان كثيرة تجعل من واقعة الطف أسطورة وليس واقعاً كما أراد لها مخططها ومنفذها الإمام الحسين(عليه السلام).
* استعراض واقعة الطف كوسيلة معالجة آنية في وقتها ومستقبلية لما تمر به الأمة من أزمات وذلك بسبب احتواء هذه الواقعة على معان ودلالات ذات بعد فكري واجتماعي واقتصادي وسياسي يضمن للأمة الابتعاد عن الانقياد الأعمى والعشوائي لما موجود في الساحة من رؤى وأفكار قد لا تتناغم مع الأطر العامة للإسلام الحقيقي.

* إن الشعائر الحسينية يجب أن توفر محيطاً صالحاً ذا أرضية خصبة للنهضة التربوية الاجتماعية الموضوعية، تكسب الإنسان العديد من الصفات التي يطمح المجتمع أن يوصلها إلى أبنائه ويريد أن يحافظ عليها وينقلها من جيل إلى آخر.

* بيان حالة التلازم الاجتماعي ومبدأ المساواة الذي ارتكزت عليه واقعة الطف في كربلاء وذلك لاحتوائها على العديد من الشواهد التي تجعل من المسلمين كافة في حالة تماسك وتوحد دائم، وكل حسب قدرته وطاقته، فبيان دور المرأة فضلاً عن دور الرجل وبيان دور الأطفال فضلاً عن دور الكبار وإيضاح دور غير المسلمين فيها، يجعل من واقعة الطف عنصراً تربوياً فاعلاً في بيان اللحمة الحقيقية في تبني معطيات المبدأ الحق والدفاع عنه، وإن كان هناك اختلاف في الدين أو العقيدة أو المذهب.

* إدخال عنصر الحداثة الذي لا يتعارض مع الفكر الإسلامي ولا يعطي لواقعة الطف بعدًا آخر ولا يشوه معالمها الحقيقية، ولا بأس من الاستفادة من الأسس العامة التي يرسمها لنا علماء النفس في الجانب الوجداني، وتضمينها في الشعائر الحسينية بما يلائم المرحلة العمرية لكل فرد، والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في مخاطبة الآخرين بصيغة حضارية حديثة.

* عرض المستحدثات والمستجدات وموارد الاختلاف على الفقهاء المتخصصين للتأكد من الوقائع والشواهد التاريخية من خلال مراجعة النصوص الروائية المعتبرة والمحققة التي حققت من الباحثين والمحققين المتخصصين.

* التركيز على مبدأ أخذ الدروس والعبر من واقعة الطف وأنها مدرسة تاريخية أعطت ثمارها على مدى حقب وأجيال متتالية، وليس كما يعتقد ويظن و يتخيل البعض أنها حادثة للتألم والبكاء والنوح، نعم فكل هذه الأمور أعطتها واقعة الطف، لكن العطاء الأكبر هو ما حوته من دروس وعِبَر مثالية لبناء الإنسان والمجتمع الصالح والإنسانية جمعاء.

* العمل على زرع الصفات والأخلاق التي تنمي شخصية الفرد وتزرع الثقة في نفسه وتجعله يتبنى ويدافع عن عقيدته وعن المبدأ الذي يلتزمه ويؤمن به، فهذا الحسين(عليه السلام) مع الخسارة العسكرية الواقعية، وهو في النتائج الحربية قد خسر المعركة في أرض الواقع، لكنه نجح نجاحاً باهراً في الدفاع عن عقيدته وفلسفته ودينه، ومنظومة قيمه الإيمانية والإسلامية والتربوية.

* إعطاء القيم الحقيقة لكل عمل في الشعائر الحسينية لأن الشعائر تعكس الواقعة وإن كانت بنسب متفاوتة، والشعيرة الناجحة هي التي تعكس التطبيق الفعلي في شخصية الفرد وتترك آثارها الإيجابية فيها، ويجب أن تعمل هذه الشعائر على أن يتقمص منها الفرد بعض السلوكيات الايجابية ويترك السلبية.

* العمل على خلق حالة الوعي الاجتماعي الجماعي لدى أفراد المجتمع، ولا سيما أن الشعائر الحسينية جماعية تعاونية تخلق روح العمل الجماعي التعاوني، وتساعد على أن يتعلم الأفراد من بعضهم البعض وتسهم في خلق حالة تواصل اجتماعي بين الأفراد عن طريق تعاونهم على البر والتقوى، وبذلك تكون الشعائر الحسينية مجموعة من الأنشطة، والإجراءات التي تعتمد على تعاون، وتفاعل الناس، لإنجاز عمل معين، ضمن مادة أفكار وعقيدة واحدة.

* وأخيراً توعية المجتمع بأن الشعائر الحسينية هي جزء من نهضة الثورة الحسينية، وهي الإرث الباقي الذي تركته هذه النهضة، والذي يجب المحافظة عليه وتنشئة جميع الأفراد والأبناء عليه، لأن المحافظة عليه جزء من الوفاء للنهضة وقائدها وشهدائها الكرام.

* * *

نشرت في العدد 54


الهوامش:
(1) Early childhood, Behavior and learning
Landreth et al, P.358
(2) دراسات في علم نفس المرضى/ رشاد علي عبد العزيز موسى: ص 516.
(3) الشخصية والصحة النفسية /الداهري والعبيدي : ص 47.
(4) : البناء الاجتماعي للشخصية، مجلة العلوم الاجتماعية/ هارلمان : ص 196.
* * *

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.