إن مصرع الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه في كربلاء ليس حدثاً كسائر الأحداث في التاريخ. بل عاشوراء كانت تحمل في طياتها وعياً وإرادة، فكانت رمزاً للوقوف في وجه الأنظمة الجائرة في تاريخ الإسلام، وكانت عاملاً محفزاً للمحرومين للتصدي بوجه الانحراف. إن أحداث عاشوراء تحولت إلى ثقافة. هذه الثقافة لها الدور الكبير في إعلان الثورة والصمود بوجه الظلم والطغيان. إن خروج الإمام
الحسين(عليه السلام) كان لطلب الإصلاح
وكان(عليه السلام) وأصحابه أبصر الناس بواقع الفتنة والصراع بين الحق والباطل لأجل الدعوة إلى الله تعالى، وإقامة الحق، وقد عبر الإمام الحسين(عليه السلام) عن ذلك الصراع، وحدوده بإقامة خطين لمعسكرين، الحق والباطل، فهو يقول(عليه السلام): (إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح اللَّه وبنا ختم، ويزيد فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله)(1).
لدينا منهجان ولكل منهما مقوماته وغايته وحركته في هذا الحياة، يوم عاشوراء أو ليلتها كان واضحاً، آثار وسلوك معسكر الإمام الحسين(عليه السلام) الذي امتلأ بالعبادة وحب الله تعالى وتلاوة القرآن واندفاع وشوق نحو لقاء الله تعالى، وأخيراً بذل المهج قتلاً لأجل تحقيق أهداف الرسالة الإلهية. وفي قبال ذلك معسكر امتلأ عصيان الله تعالى وحب الدنيا والركون للظالم، وأخيراً إعانة الطاغوت في قتل سبط
نبي الرحمة(صلى الله عليه وآله).
فالاختلاف جذري بين منهجين في الفكر والسلوك.
ولو تتبعنا كلمات الإمام الحسين(عليه السلام) في خطبته الأولى يوم عاشوراء للاحظنا ملامح الصلاح والاستقامة، ذلك المنهج الذي أوضحه الإمام الحسين(عليه السلام) منذ بداية حركته حتى لحظة المواجهة، وأخذه في موعظة القوم، وتذكيرهم، وأحد تلك الملامح هو التذكير أو الموعظة.
إن التذكير هو لون من ألوان الدعوة الإلهية، فالقرآن يخاطب النبي(صلى الله عليه وآله) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) إن دعوة الأنبياء هي تذكير الإنسان، وإحياء القلوب الميتة بالوعظ والإرشاد وتنبيه الفطرة بالرجوع إلى خالقها، وإن هذه الدنيا محدودة، ومعرفة حقيقة هذا العالم وأنَّ هناك عالماً أبدياً ينتقل إليه الإنسان بعد الموت، وغير ذلك من مهمات أصول الدين، وما بين المبدأ والمعاد الذي تدور فيه أبعاد تلك التذكرة القرآنية. إن هذه القضية هي جزء من حركة الإمام الحسين(عليه السلام) الإصلاحية بأن يوجه الناس ويهديهم ويضع الأشياء في مدارها الصحيح، وهي أيضاً جزء من الخطاب الحسيني حتى بعد انتهاء الواقعة، روى الطبري قال: قام
الحسين(عليه السلام) بذى حسم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد إنه قد نزل بنا من الأمر ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، فلم يبقَ إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً… فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(2).
وأما في يوم عاشوراء يقول الإمام الحسين(عليه السلام) في أول خطبة له مع المعسكر الآخر بعد أن دعا براحلته فركبها ونادى بصوت عالٍ يسمعه جلهم: (أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم علي)(3).
وقوله(عليه السلام): (حتى أعظكم) فهي موعظة ودعوة إلى الحق. إنها موعظة فيها هدى ورحمة وشفاء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)، لكن أنّى لهذه الآذان أن تسمع، وهذه القلوب أن تعي وقد امتلأت بحب الدنيا وعاثت فيها الشياطين، وكيف ستجد كلمات الحق إليها سبيلًا،إنها دعوة إلى سبيل الله تعالى ودينه بالحكمة والحجج الكاشفة عنه، والموعظة الحسنة من خلال الأقوال المقبولة المقنعة، والمجادلة بالتي هي أحسن طرق المناظرة والنصح.
وأيضاً من معالم منهج الإصلاح والتغيير ـ لأجل إقامة العدل الإلهي ـ هو أن يستلم دروسه من الأنبياء، وهذا واضح من استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) وتضمينه لخطبته بآيتين يخاطب بها معسكر عمر بن سعد وجيشه، فبعد أن دعاهم لسماع قوله وأن يعطوه النَّصَف من أنفسهم ويقبلوا قوله فقال: (وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النَّصَف من أنفسكم (فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ) (يونس:71).
(إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين) (الأعراف:196).
إن تضمين تلك الآيات في حديث الإمام(عليه السلام) يعبر عن دلالات يتضح بعضها بعد الوقوف على تلك الآيتين.
وردت الأولى في سورة يونس/71 وتتحدث عن نبوة نوح(عليه السلام) الذي أرسله الله تعالى إلى قومه الذين دخلوا معه في صراع انتهى بالطوفان، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) فالقرآن يطلب من الرسو(صلى الله عليه وآله) أن يتلو على الناس نبأ نوح وأن يحدثهم عن مواجهته لقومه لأخذ العبر، فتحدى عليهم بأن يفعلوا ما بدا لهم، (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي) ونهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة (وتذكيري بآيات الله) وهو داعيكم إلى قتلي وإيقاع ما تقدرون من الشر بي لإراحة أنفسكم مني (فعلى الله توكلت) فأنا مستمر في دعوتي متكلاً على الله تعالى (فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ) الذين تزعمون أنهم ينصروكم (ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) والغمة هي الكربة والشدة وفيه معنى التغطية كأن الهم يغطي القلب (ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ) بدفعي وقتلي (وَلاَ تُنظِرُونِ) ولا تمهلوني. وفي هذه الآية يتحدى نبي الله نوح(عليه السلام) قومه بأن يفعلوا ما بدا لهم وإظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه وإن أجمعوا عليه وانتصروا بشركائهم وآلهتهم(4).
ومن هذا نفهم درساً للعاملين في الإصلاح والجهاد في سبيل الله تعالى أن يفهموا جيداً تاريخ مواجهة النبوة وخط الرسالة على الأرض لكل أنواع الظلم والانحراف ليكتسبوا دعماً وحيزاً في حياتهم ومواقفهم ويدركوا قوة الثبات على الموقف والالتجاء إلى الله تعالى مُدَبِّرِ الأمور وهذا ما تؤيده الآية الثانية بأن الله يتولى أمر الصالحين ودعوتهم لحكومة العدل الإلهي.
أما الآيات التي وردت في الأعراف 195ـ 196 قال تعالى: (…قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين) وهو خطاب للنبي(صلى الله عليه وآله) بأن يقول لهم ادعوا شركاءكم لنصركم عليَّ ثم كيدوني ولا تمهلوني إن ربي ينصرني ويدفع عني كيدكم فإنه الذي نزل الكتاب ليهدي به الناس وهو يتولى الصالحين من عباده فينصرهم وهو القائل: (…أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(5).
الظاهر أنه تحدٍ من الإمام الحسين(عليه السلام) لهم كما ورد ذلك من فعل الأنبياء(عليهم السلام).
وأيضاً من القضايا المهمة التي ركز عليها الإمام الحسين(عليه السلام) في خطبته هذه هو الحديث عن الدنيا حيث قال: (عباد الله اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أن الله خلق الدنيا للفناء فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفَهِر والمنزل تلعةٌ والدار قلعةَ فتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوا الله لعلكم تفلحون، أيها الناس إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال فالمغرور من غرته والشقي من فتنته فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب من طمع فيها…)(6).
إن الحديث عن الدنيا شيء مهم من تلك الموعظة، لقد خصها في الذكر وهي موعظة من القرآن، لأن أكثر القرآن مشتمل على ذلك وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة بل هو المقصود من بعثة الأنبياء، وكذا ما ورد عن
النبي(صلى الله عليه وآله) في بيان حال الدنيا، وعن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في أكثر من خطبة له في نهج البلاغة في ذم الدنيا والتزهيد فيها.
وحقيقة الدنيا هو كل ما يحصل عليه الإنسان قبل الموت في حياته من لذة وشهوات وغيره من الحظوظ العاجلة فهي دنيا وفي قبال ذلك، ما بعد الموت فهو الآخرة، وقد جمعت الآية الكريمة الدنيا بقوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (آل عمران، الآية: 14).
والمذموم من هذه الدنيا هو هوى النفس أي حبه للدنيا وتعلقه بها حتى يصير قلبه كالعبد لها، قال تعالى: (…وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(النازعات، الآية: 40ـ 41).
وبسبب تعلق قلب الإنسان بأعيان الدنيا المذكورة في آية آل عمران تتولد في باطنه بسبب شهواته أو غضبه كالرياء والسمة وسوء الظن والحسد والحقد والكبر وحب المدح والتفاخر والتكاثر. فالضابط في الدنيا المذمومة هو كل ما ليس لله تعالى في الدنيا ويحرص عليه ابن آدم وبسبب طبيعته الشهوانية أو سبب وجود قوة الغضب، فيميل إليه بقلبه، ولا يكون وسيلة للآخرة فهو من الدنيا والعكس أيضاً، فالإنسان قد يزاول أعمالاً في الدنيا وهي لله تعالى فهي من الآخرة، لذا قال النبي(صلى الله عليه وآله): (حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة)، مع أنها من أعمال الآخرة(7).
فالدنيا ليس كلها مذمومة بل هي متجر المؤمنين وسوق العارفين ومحل كسب الكمالات ليصل الإنسان من خلال هذا الممر والمجاز إلى الآخرة. لكن المذموم هو التعلق بتلك الأمور التي تقطع طريق عبادته وتكون سبباً لانحرافه.
وحب الدنيا له شعب كثيرة، والمال بعض أجزائه والجاه بعضها، واتباع شهوة الفرج بعضها، ومنها تشفي الغيض، وكذا الحسد والكبر وطلب العلو، وبالجملة لها أبعاض كثيرة، وأعظم آفاتها المتعلقة بالقوة الشهوية هو المال الذي بفقده يحصل الفقر ولوجوده يحصل الغنى، وهما حالتان يحصل بهما الامتحان، قال النبي(صلى الله عليه وآله): (أخلاء ابن آدم ثلاث: واحد يتبعه إلى قبض روحه وهو ماله، وواحد يتبعه إلى قبره وهو أهله، وواحد يتبعه إلى محشره وهو عمله)(8).
فالإمام الحسين(عليه السلام) في خطبته يذكّر عباد الله بالتقوى والحذر من الدنيا وهي المذمومة التي تشغل الإنسان عن الهدف الأسمى وتصده عن الآخرة (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، ويذكر الإمام(عليه السلام) من صفات الدنيا، فهي الفانية والمبلية للأجساد، ونعيمها محدود فلا نندفع في الآمال والطموحات كثيراً ونتبع الهوى بل علينا التوجه إلى سفر الآخرة والتزود بالتقوى بترك المحرمات وفعل الطاعات.
إن كل ما في عالم الطبيعة والسماء والأرض ـ أي عالم الدنيا ـ هو في حركة تدريجية ومن ثم الزوال والفناء، وتظهر آثار تلك الحركة وذلك التغير علينا، فتبدو فينا علامات الضعف، وهل يستطيع أحد أن يدفع عن نفسه ضعفه؟ نحن مشغولون بتعمير الأبدان وأحياناً ننسى أنفسنا وأمراضها التي تؤثر في سلوكنا وأفعالنا، إن معرفة الإنسان لنفسه والوقوف على عجزه وقلة حيلته وفقره أمام الكون ونظامه وإدراك محدودية هذا العالم ومن ورائه الموت، لهو وازع مهم ـ في حركة الإنسان عبر التأريخ.
إن علينا التفكير والتأمل في هذا المطلب لكي ينظر الإنسان بنفسه لمعرفة مبدئه ومعاده، فتكون الموعظة من هنا أقرب إلى تهذيب النفوس بتذكيرها بالموت والفناء.
والحمد لله رب العالمين.
نشرت في العدد 54
الهوامش:
(1) اللهوف في قتلى الطفوف ص17.
(2) تاريخ الطبري ج7، ص300ـ 301.
(3) الإرشاد/الشيخ المفيد/ج2 ص97.
(4) انظر الميزان ج10 ص97 طبعة الأعلمي بيروت 1417هـ.
(5) انظر تفسير الميزان ج8 ص382.
(6) يوم عاشوراء مقتل الإمام
الحسين(عليه السلام) ص24.
(7) جامع السعادات ج1 ص421 فما بعد للشيخ النراقي منشورات بني الزهراء(عليهم السلام) إيران 2007م.
(8) جامع السعادات ج1 ص447ـ 449.