عبد الواحد الشيخ محمود
كاتب وباحث
قبل أن أدخل في تفاصيل مركب النقص والشذوذ النفسي عند يزيد بن معاوية لابد أن أستعرض حياته بشكل موجز حتى تصبح الصورة واضحة للقارئ، فيزيد الذي استمر حكمه ثلاث سنوات وثمانية أشهر، ولد في قرية الماطرون في بادية بني كلب بعيداً عن معاوية، عندما قررت ميسون الكلابية طليقة معاوية الخروج من ظلم معاوية وقسوته وهي حامل بيزيد، وبعد ولادته بسنتين التحق بأبيه في دمشق ليحرم من حنان الأم وتربيتها ويعيش عيشة الولد السائب بين أب مشغول عنه باللهو والحروب وبين أم بعيدة عنه، هذا إضافة إلى أنه نشأ وهو يحمل موروث أسرة وثنية حاقدة على الإسلام ونبي الإسلام
محمد(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، كونهم من (الطلقاء)، لذا نشأت عنده مجموعة من العقد والأفكار السلبية والعدوانية ليتولد عنده مركب النقص، وقد زاد من معاناته أيضًا أثر الجدري الذي ملأ وجهه. الشذوذ النفسي ومركب النقص هذان رافقاه طيلة حياته، وأنتجا شخصية عدوانية ونشاطاً مفرطاً مضطرباً وسلوكاً لاهياً عابثاً فانتهك الحرمات وأحل الموبقات. وأخذ يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، خمِّيرًا سكِّيرًا حتى لقب بيزيد الخمور(1).
مركب النقص في شخصية يزيد:
المقصود بعقدة النقص مجموعة أفكار ذات شحنة انفعالية قوية تدور حولها يشعر به الإنسان من قصور حقيقي أو وهمي يدفعه إلى نشاط مضطرب وسلوك متطرف معادٍ للمجتمع دليلاً على السخط الذي يحمله، والنقص الذي لا يستطيع تجاوزه، ويصبح لديه سمة شخصية لا يقدر على حلها وتصبح هذه العقدة لا شعورية كامنة، بعد ما يتعرض الشخص في سنواته الخمس الأولى إلى صدمة أو معاملة سيئة أو قسوة أو إفراط متطرف، ويصبح على مر الأيام مستبداً قاسياً(2).
فلو تتبعنا حياة يزيد بن معاوية منذ ولادته، عندما قام أول تمرد داخل بيت معاوية على النظام الأموي والذي من خلاله تصدعت العائلة، وتمثل برفض ميسون بنت بحدل الكلابية العيش مع زوجها معاوية تحت سقف واحد، وصعد خط التصدع عندما جاهرت برفضها لحكمه وطغيانه وقساوة الحياة التي عاشتها مع شخص لا يتورع عن استعمال البطش والخدعة والحيلة في سبيل كرسي الحكم، والمهم أن ميسون الكلابية لم يرق لها هذا النظام وهذا الظلم، فقد اختارت العيش مع قومها بعدما رفضت هذا الزيف والظلم وخرجت من المستنقع لتعيش حياة الكفاف والجفاف مع بني قومها وهي مرتاحة النفس والبال فقد سمعها معاوية تردد أبياتاً من الشعر قائلة:
وبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إليَّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إليَّ من لبس الشغوف
وأصوات الرياح بكل فج
أحب إليَّ من نقر الدفوف
وخرق من بني عمي نحيف
أحب إليَّ من علج عنوف(3)
ولا شك أنها تعمدت أن تسمع هذه الأبيات لمعاوية حتى قال لها ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً فطلقها وهي حامل بيزيد فولدته في البادية وأرضعته عامين ثم أرسلته إلى أبيه غير نادمة. وأحسبها قد انطلقت فرحة مزهوة وهي تغادر بؤرة الظلم والفساد غير آسفة ولكنها كانت تحمل في أحشائها يزيدَ، وقد فتح عينه على عائلة ممزقة، فالأم بعيدة عن الزوج وهذا يعني أنه ولد في أسرة مفككة، فالأم في واد والأب في واد آخر، وهذا التصدع قد أثر في نشأته الأولى إذ تعد مرحلة الطفولة المبكرة أساساً في تكوين شخصية الطفل كما يرى علماء النفس(4).
الطفل الوحيد:
لم تلد ميسون لمعاوية غير يزيد فهو الطفل الوحيد الذي ولدته لمعاوية، ولا شك أن هذا الإحساس بالوحدة من قبل يزيد شكل في حياته صدمة نفسية لم يستطع التخلص منها طوال حياته، هذا الشعور بالنقص وانعدام الأمن وخاصة في وقت مبكر من الطفولة التي هي أساس الصراعات والانفعالات التي يستفحل أمرها بالتدريج لتصبح الجانب الغالب في تكوين الناحية النفسية للطفل في صورة أزمة نفسية عصبية شديدة تحاول أن تجد لها منفذاً فتؤدي إلى انحراف سلوكي وشذوذ نفسي ولعل من أسباب هذا الانحراف السلوكي افتقار الطفل إلى الرعاية والعطف والحنان والتعارض في الأهواء في تربيته ضمن الأسرة الواحدة ومنها فقدان الأقران والأصدقاء والغربة ومن ضمنها أيضاً تلقّيه أوامر قاسية عليه أو الإفراط في تدليله وتركه يعمل كما يشتهي(5).
هكذا بدا يزيد منكراً في داخله، فظهر للعالم بهذه البشاعة والقسوة المفرطة، وكأنه يريد أن ينتقم على ما فقده من العمق الوجداني ودفء الأسرة.فقد اتسمت حياته بالشذوذ النفسي والنزق والتهور، فلم تكن شخصيته شخصية قيادية سياسية، فقد ثار عليه أهل مكة والمدينة لجرائمه المتعاقبة، ولشربه الخمور وحياة اللهو والمجون، فكان جل وقته يلعب القمار واللهو العابث، ولم يكن مع أهل العراق أحسن حالًا مع أهل مكة(6).
تأثير مركب النقص على شخصية يزيد:
في مثل هذه الأجواء تربى يزيد فجدته(هند) أم أبيه التي تزوجها أبو سفيان بعد أن طلقها الفاكه بن المغيرة بسبب خيانتها لفراش الزوجية(7)، وأمه المغيبة عنه. يقول أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني: بأنه يزيد الخمور ويزيد الصقور ويزيد الفهود ويزيد القرود، وقد قال الجاحظ أيضاً في كتابه البيان والتبيين ص276:(ثم ولي يزيد بن معاوية يزيد الخمور ويزيد القرود الفاسق في بطنه والمأبون في فرجه عليه لعنة الله وملائكته).
الخليفة المأفون:
لما مات معاوية سنة 60هـ تولى الحكم بعده يزيد بعد أن استخلفه معاوية بالقوة، وقد اتسمت خلافته بالتهور والغباء والضعف،كما وصفه عبد الملك بن مروان، في أول خطاب له عند ولايته، فقد صعد المنبر وقال:
أيها الناس ما أنا بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد) والمأفون يعني: ضعيف العقل(8).
لقد خرجت الخلافة من البيت السفياني إلى البيت المرواني بعد موت معاوية بن يزيد الذي استمر حكمه أربعين يومًا. ثم تخلى عن الحكم لعدم قناعته بتولي آل أبي سفيان أمر المسلمين وفيهم آل محمد، الذين هم أولى بالحكم والرئاسة، منتقدًا جده معاوية وأباه يزيد(9).
ثم تلاه في الحكم مروان بن الحكم واستمر البيت المرواني ببطشه وظلمه مثلما فعل معاوية ويزيد من البطش والتقتيل.
سنوات حكمه:
كانت سنوات حكم يزيد شؤماً (كما يقول سعيد بن المسيب).
ففي سنة حكمه الأولى قَتلَ سبط رسول الله الحسين بن علي(عليه السلام) وسيد شباب أهل الجنة ابن فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقد منع جيشه بقيادة عمر بن سعد من وصول الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته ماء الفرات في يوم قائظ في العاشر من المحرم الحرام سنة 61هـ، فقضوا عطاشى في أرض كربلاء، فنال بفعلته هذه سخط التاريخ عليه وعلى بني أمية جميعهم.
ولم يتباطأ في استقبال بنات رسول الله سبايا في الشام في اعتقاد منه أنه يستطيع إخماد وهج الرسالة، وثأرا لأشياخه يوم بدر، وهو القائل أبيات ابن الزبعرى المشهورة بعد ارتكابه هذه الجريمة:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من أشياخهم
وعدلناه ببدر فاعتدل(10)
* * *
وفي السنة الثانية استباح المدينة المنورة ثلاثة أيام، وفض جيشه ألف عذراء وقتل عشرة آلاف مسلم بيوم واحد وهو (يوم الحرة)، وختم أعناق الصحابة وأخذ البيعة على أنهم خول وعبيد (لأمير المؤمنين) يتصرف بهم تصرف السيد بعبيده.
أما في السنة الثالثة فقد هدم الكعبة بضربها بالمنجنيق وأحرقها(11).
وقد ورد أنّه قال بعد موت أبيه معاوية وإفضاء الأمر إليه: (قد وليت الأمر بعده، ولست أعتذر عن جهل، ولا أشتغل بطلب علم)(12).
فهو يقرّ بعنجهيته ولهوه وجهله، ويفرض على أُمة الإسلام وجوده ويهدّد من يخالفه بالإرهاب والقتل، ولم يكن ما صدر من يزيد إلاّ لأنّ الترف باعد بيّنه وبين الدين، فجعله شخصية دكتاتورية لا يهمها سوى إشباع غرائزها وتحقيق نزواتها مهما كلف الأمر.
نشرت في العدد 54
هوامش:
(1) الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني تحقق د. إحسان عباس ج3 ط2 سنة 2005.
(2) الشذوذ النفسي مظاهره وأسبابه وعلاجه ط1/د. عدنان محمد حسين مكتبة النهضة بغداد/1987.
(3) مختصر تأريخ دمشق لابن منظور المجلد الثامن دار الفكر دمشق مطبعة الحافظ تحقيق محمد مطيع الحافظ.
(4) الطفولة المبكرة في السنوات الخمس الأولى د. نوري الحافظ مط المعارف/1964.
(5) الشذوذ النفسي مظاهره وأسبابه وعلاجه ط1 د. عدنان محمد حسن مكتبة النهضة بغداد/1987.
(6) معاوية بن أبي سفيان في الميزان عباس محمود العقاد ط6/ 2006 دار نهضة مصر للطباعة.
(7) التأريخ السياسي للدولة العربية/عصر الخلفاء الأمويين د. عبد المنعم ماجد.
(8) لسان العرب/ابن منظور ج13.
(9) بحار الانوار/المجلسي ج46 ص118.
(10) مقاتل الطالبيين/ابو الفرج الاصفهاني ص80.
(11) المصباح/الكفعمي ص510.
(12) أنظر: مروج الذهب للمسعودي: 3/ 65، العقد الفريد لابن عبد ربه: 5/ 124، البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 99.