Take a fresh look at your lifestyle.

القراءات القرآنية في الميزان.. نظرة مقارنة

0 1٬038

            مما لاشك فيه أن القراءات القرآنية حقيقة قائمة لا يسع الباحث إلا أن يقف عندها مهما كان رأيه فيها وتقويمه لها من حيث النشأة والهدف والفلسفة العقدية.

           إن البحث في تعدد القراءات القرآنية يقترن عادة مع الحديث عن موضوعة تحريف القرآن ومقاربة العلاقة بين الأمة والقرآن باعتباره الركن الأول للثقلين (كتاب الله وعترة النبي صلوات الله عليهم).

          إن دراسة التطور التأريخي للقراءات القرآنية يمكن أن يساعد في تفكيك النسج العقائدي الذي اضطرت إليه مدرسة المخالفين لتوحيد المرجعية القرآنية بعد أن تصدع النص القرآني بكثرة الاختلافات وتصاعد الخلاف الاجتهادي بين القراء وعلماء الفقه واللغة، كما يمكن توظيف هذه الدراسة في الكشف عن المخطط الذي سعى من خلاله أئمة الكفر وأشياع الضلالة إلى إضعاف النص القرآني بعد مرحلة طمس السنة بحجة (حسبنا كتاب الله).

 

  النشأة والتطور التاريخي:

            لم يكن جدل القراءات موجوداً في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) رغم أن المنظّرين لمشروع القراءات حاولوا ـ إبان تسلطهم على خلافة المسلمين ـ أن يختلقوا روايات توحي بشيء من ذلك، تارة بافترائهم متاهة (الأحرف السبعة) وأخرى بإيهام الرأي العام أن ثمة جدلاً قد وقع بين الصحابة حول قراءة بعض الآيات فأشار لهم النبي أن يقرؤوا بما تيسر تحاشياً للوقوع في الاختلاف والفرقة! وقد سقط هؤلاء (المختلقون) بوحل المفارقة والتناقض عندما تعمق شق الخلاف بين الأمصار الإسلامية الفتية، حول تعدد المصاحف ـ كمصحف ابن مسعود وأبي موسى وأمثالهما ـ وتعدد القراءات حتى بات الاختلاف والتنازع يهدد وحدة المسلمين وسط بحر هائج من التحديات الفكرية والجيوسياسية.

            ومن جملة تلك الروايات التي وردت في صحاح العامة ما رواه البخاري 3/90: عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها وكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت إني سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتنيها، فقال لي أرسله، ثم قال له: اقرأ، فقرأ، قال: هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: (هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر)، ونظير هذه الرواية رويت عن ابن مسعود وأبي الجهم بن حذيفة (من مسلمة الفتح) (راجع: مجمع الزوائد 7/151، صحيح البخاري 3/88).

           وقد روي حديث (الأحرف السبعة) عن عمر وأبي هريرة وعمرو بن العاص وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي، وكل هؤلاء من المنحرفين عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ومن المتيقن أنهم اضطلعوا بمهمة الترويج لهذه النظرية لتمرير مخطط إضعاف النص القرآني الذي يبدو أنه لم يكتب له النجاح الكامل بفعل الممانعة الفكرية التي قادها أمير المؤمنين(عليه السلام) وبعض المخلصين من شيعته كحذيفة بن اليمان، وقد نسب هذا الحديث إلى بعض الصحابة (المعتدلين) كابن عباس وابن مسعود وبعض الشيعة كحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب،

           وأغلب الظن أن يد الوضع قد نسبت هذا الحديث افتراءً عليهم، أو أن المقصود من الأحرف السبعة غير ما كان يروج له التيار الانقلابي كما سيأتي في روايات أهل البيت(عليهم السلام).

         ومن أجل ترسيخ مخطط إضعاف النص القرآني فقد جهد التيار السلطوي في إبعاد أهل البيت(عليهم السلام) عن كل نشاط يتعلق بجمع القرآن وحفظه وتوحيد قراءته، وقد اتخذ هذا الإقصاء أشكالاً متعددة منها:

   1. رفض السلطة للقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين(عليه السلام) بعيد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، إذ آلى على نفسه ألا يضع رداءً حتى يجمع القرآن الكريم ويبين ما فيه من التفسير والتأويل. وهذه الحقيقة لا تختص بها المصادر الشيعية فقد روى ابن أبي شيبة الكوفي قي مصنفه 7/197 بسند صحيح قال: حدثنا يزيد بن هارون (من رجال الصحيح) قال أخبرنا [عبد الله] بن عون (من رجال الصحيح) عن محمد [بن سيرين] (قال عنه الذهبي:، ثقة حجة كبير العلم ورع بعيد الصيت، مات سنة 110) قال: لما استُخلف أبو بكر قعد عليَّ في بيته فقيل لأبي بكر فأرسل إليه: أكرهت خلافتي، قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآن يزاد فيه، فلما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) جعلت على ألا أرتدي إلا إلى الصلاة حتى أجمعه للناس، فقال أبو بكر: نِعمَ ما رأيت.

             وهذه الرواية وإن لم تشر إلى رفض السلطة تسلم هذه النسخة الصافية من القرآن الكريم إلا أن عدم اعتماد الصحابة على مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) يدل بشكل واضح على أن السلطة رفضت تسلمه وحرمت الأمة الإسلامية منه، ومما يؤكد هذا الفهم ما أورده ابن جزي الغرناطي الكلبي(ت741) في التسهيل في علوم التنزيل 1/4 إذ قال: (وكان القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) متفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال، فلما توفي رسول(صلى الله عليه وآله) قعد علي بن أبي طالب(عليه السلام) عنه في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد).

   2. تم إقصاء أمير المؤمنين(عليه السلام) من مهمة جمع القرآن الأولى التي قام بها الخليفة أبو بكر بمشورة من عمر، ففي كنز العمال 2/573: (لما استحر القتل بالقراء فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب، ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه)، ولا ندري كيف استطاع هؤلاء بهذه الطريقة الساذجة أن يضبطوا آيات القرآن الكريم؟! وكيف سلم من النقص والزيادة، والحال أن الصحابة غير معصومين في حفظ القرآن وضبطه كما صرح ابن تيمية في كتابه (مجموع الفتاوى)؟!

   3. التصدير الإعلامي لبعض الأسماء كمرجعيات فكرية للقرآن الكريم لصرف أنظار الرأي العام عن أهل البيت(عليهم السلام)، ومن ذلك ما رواه البخاري 6/103 عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك، من جمع القرآن على عهد النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد). وقد اعترف ابن حجر في فتح الباري 6/48 أن أنساً إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر (لشدة تعلقه بهم دون غيرهم)!

            وفي سياق هذه (البروباغندا) التضليلية كان عمر يقول (أقرؤنا أبيَّ [بن كعب])، أما ابنه عبد الله بن عمر فكان يقول: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله) يقول: (خذوا القرآن من أربعة :من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبيّ بن كعب) (راجع: البخاري 6/102ـ103).

    4. تم إقصاء أمير المؤمنين(عليه السلام) من اللجنة الرباعية التي شكلها عثمان بن عفان لتوحيد المصاحف، وكانت برئاسة سعيد بن العاص وعضوية كل من زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وذكرت بعض الروايات أسماء أخرى!!

            وقد أثار هذا الإقصاء (المتعمد) حفيظة الكاتب المصري (السني) الكبير محمود أبو رية فكتب تعليقاً رائعاً بعنوان (غريبة توجب الحيرة) في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) ص249 إذ قال:

            (من أغرب الأمور، ومما يدعو إلى الحيرة أنهم لم يذكروا اسم علي رضي الله عنه فيمن عهد إليهم بجمع القرآن وكتابته، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان! ويذكرون غيره ممن هم أقل منه درجة في العلم والفقه! فهل كان علي لا يحسن شيئاً من هذا الأمر؟ أو كان من غير الموثوق بهم؟ أو ممن لا يصح استشارتهم أو إشراكهم في هذا الأمر؟ اللهم إن العقل والمنطق ليقضيان بأن يكون عليٌّ أول من يعهد إليه بهذا الأمر.

            وإذا كانوا قد انتحلوا معاذير ليسوِّغوا بها تخطيهم إياه في أمر خلافة أبي بكر فلم يسألوه عنها ولم يستشيروه فيها، فبأي شيء يعتذرون من عدم دعوته لأمر كتابة القرآن؟ فبماذا نعلل ذلك؟ وبماذا يحكم القاضي العادل فيه؟ حقًا إن الأمر لعجيب وما علينا إلا أن نقول كلمة لا نملك غيرها وهي: لك الله يا علي! ما أنصفوك في شيء!) انتهى.

   مصحف عثمان ينسف الأحرف السبعة:

          اضطربت آراء القوم في معنى الأحرف السبعة حتى إن الباحث ليبقى عاجزاً عن الخروج برؤية واحدة أو مقاربة معقولة لهذه النظرية، وهذا الاختلاف الكبير (أرجعه السيوطي إلى أربعين قولاً) يكشف أن المجموعة التي أخرجت هذه النظرية إلى أرض الواقع لم تكن تمتلك تصوراً علمياً أو رؤية فكرية واضحة لتصدير هذه النظرية، وإنما توسلت من خلالها إلى تمرير مؤامرة إضعاف النص القرآني دون البحث عن إيجاد قوة تنظيرية لإقناع الوسط الفكري الذي كان مترهلاً أصلاً ويعاني من عقدة السقوط في وحل التبعية والتخلف.

          فقد ذكروا في جملة الحِكَم من تشريع الأحرف السبعة أنها (للتخفيف عن هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها)، وإذا بهذا (التخفيف) و(اليسر) و(التهوين) ينقلب ـ في زمن عثمان ـ إلى تناحر وتهديد للأمة بالسقوط في الفتنة كما سقط اليهود والنصارى! ولهذا فقد جمع عثمان الناس على مصحف واحد، ولا أقول على حرف واحد لأن المدرسة السنية إلى هذه اليوم مختلفة في ما بينها حول هل أن مصحف عثمان حرف من الأحرف السبعة أم إنه استوعب هذه الأحرف السبعة؟

           يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى 13/389 وما بعدها: (الذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة… أن مصحف عثمان هو أحد الأحرف السبعة)، إلا أن د.محمد حبش يختلف معه في كتابه (القراءات المتواترة) إذ يقول: (رأى جمهور المفسرين أن الأحرف السبعة باقية في التنزيل وقد استوعبتها المصاحف العثمانية، وما هي إلا تحديد لوجهة الاختلاف في أداء الكلمة القرآنية، وفق ما أذن به النبي(صلى الله عليه وآله)، وبذلك فقد ضاعت الأحرف السبعة بين (جمهور العلماء) و(جمهور المفسرين) وبين حبش وابن تيمية!!

            إن المشكلة الثانية في (مصحف عثمان) هي التفسير التقني لكيفية ضبطه بالسور والآيات والكلمات، فالخليفة الثالث اعتمد على قراءة زيد بن ثابت وهو الأنصاري الذي وقف إلى جانب بيعة أبي بكر يوم السقيفة!! (مسند أحمد 5/185، سيرة ابن كثير 4/494) وقد رفض مبايعة أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد مقتل عثمان، ولذلك فقد حظي بتقريب من السلطة ونسجت حوله المناقب والروايات لا لشيء إلا لانحرافه عن أهل البيت(عليهم السلام)،

            وجلُّ من دخل في لجنة جمع القرآن هم من شخصيات السلطة وممن وقفوا في الخط المقابل لخط أهل البيت(عليهم السلام)، وإذا أضفنا إلى ذلك اعتراف ابن تيمية أن الصحابة لم يكونوا معصومين في حفظ القرآن وضبطه، ينتج أن من المحتمل جداً حصول أخطاء في عملية ضبط القرآن الكريم الذي قام بها عثمان بن عفان.

           لا نعرف اليوم على وجه الدقة المصحف المرجِع الذي اعتمدته لجنة عثمان في نسخ مصحف عثمان أو ما عرف (بالمصحف الإمام)، فبعض الروايات تشير إلى مصحف حفصة الذي كان عند أبي بكر وانتقل إلى عمر ثم لحفصة، وهو احتمال ساقط، فهل أتعب أبو بكر الدولة بعملية جمع القرآن لتكون النتيجة إخفاءه عند حفصة؟!

           ثم إن جملة من القراءات التي وردت عن عمر غير موجودة في مصحف عثمان، وفي روايات أخرى أن عثمان أخذ المصحف من عائشة وهو ـ مع معارضته لما سبق ـ ساقط بالاعتبارات نفسها، ولأن لعائشة قراءات وزيادات غير موجودة في مصحف عثمان، وهناك رأي آخر تبناه الشيخ علي الكوراني وبعض الباحثين،

         أن عثمان إنما نسخ مصحفه على مصحف علي أمير المؤمنين(عليه السلام) مستدلاً بما ورد في رسالة عثمان إلى الأمصار من أنه عرض مصحفه على (الأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم(صلى الله عليه وآله)، فإذا القرآن غض) (تاريخ المدينة 3/97)، وفي مناقشة هذا الرأي نقف على مجموعة من النقاط:

  1. إن المرويات التاريخية عاجزة عن إثبات هذه الحقيقة.

  2. إن المصحف الذي جمعه علي(عليه السلام) مخالف في ترتيبه لمصحف عثمان المتداول اليوم وهو ما ذكره الشيخ الكوراني في غير واحد من كتبه.

  3. اعتراض عبد الله بن مسعود على مصحف عثمان وطعنه في زيد بن ثابت المشرف على عملية النسخ.

  4. إذا كان الأدم كتب عن فم رسول الله صلى الله عليه وآله فماذا تعني عملية جمع القرآن التي قام بها أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

  5. إن بعض القراءات التي روتها العامة والخاصة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام) تخالف ما هو مثبت في مصحف عثمان، منها ما ورد في قوله تعالى (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ) )الواقعة:29( إذ قرأها أهل البيت(عليهم السلام) (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ)، ففي تفسير القمي 2/348: (وقرأ أبو عبد الله(عليه السلام) (وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ)، وفي تفسير الصافي 5/122: (عن يعقوب قال قلت لأبي عبد الله(عليه السلام) وطلح منضود قال: لا وطلع منضود)،

            وأما ما روته العامة فقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد 8/297: (وأما وطلع منضود فقرأ به علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب من وجوه صحاح متواترة، منها ما رواه يحيى بن آدم قال أنبأنا (يحيى بن أبي) زائدة عن مجالد عن الشعبي عن قيس بن عبد الله وهو عم الشعبي عن علي أن رجلًا قرأ عليه وطلح منضود، فقال علي: إنما هو وطلع منضود، قال فقال الرجل أفلا تغيرها، فقال علي: لا ينبغي للقرآن أن يهاج) وفي نص آخر (القرآن لا يهاج اليوم ولا يحول).

            إن مقاربة الآراء حول مرجعية مصحف عثمان ينبغي أن تدرس من جوانب متعددة للوصول إلى نتيجة مقبولة تاريخياً ومنسجمة مع روايات أهل البيت(عليهم السلام)، ومما لاشك فيه تاريخياً أن علياً(عليه السلام) ومجموعة من شيعته كحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب كانوا حاضرين في عملية جمع القرآن، وما لا نشك فيه أيضاً أن ثمة تنسيقاً جرى بين أمير المؤمنين(عليه السلام) وحذيفة ـ المحرك الأساس لعملية توحيد المصاحف ـ،

           كما أنه من المتيقن أيضاً أن اللجنة العثمانية لم تأخذ بكل التوصيات والملاحظات التي حاول علي(عليه السلام) وشيعته فرضها على (المصحف الإمام) فكانت النتيجة كالآتي:

   الاتفاق على مصحف خالٍ من الزيادات (غير القرآنية) التي تناقض الأصول العقائدية للإسلام، إلا أن التفاصيل كانت محط خلاف واستطاعت السلطة أن تفرض بعض القراءات المخالفة التي لم تكن لتتناقض مع أصول العقيدة.

           وأغلب الظن أن الصحابي (الشيعي) أبي بن كعب لعب دوراً مهماً في فرض القراءة الصحيحة على لجنة جمع القرآن، إذ تشير بعض الآثار أنهم استعانوا به في عملية نسخ المصاحف (فتح الباري 9/17)، وقد أشارت بعض المصادر أنهم استعانوا بمصحف أُبي في عملية جمع القرآن (المصاحف لأبي داود ص33)،

           وإذا أضفنا إلى هذه القرائن أن المعلى بن خنيس روى عن الصادق(عليه السلام) قوله (أما نحن فنقرأ على قراءة أُبي) (الكافي 2/34) نستطيع أن نحتمل أن مصحف أبي بن كعب كان حاضراً في عملية جمع المصاحف وتوحيدها مما أضفى (البصمات الشيعية) على مصحف عثمان.

 

  السلف من النحاة ونسف بعض القراءات:

             مما يلفت أن أصحاب نظرية تواتر القراءات الذين ادعوا أنها (توقيفية) و(متلقاة من رسول الله) قد أغفلوا آراء كبار علماء اللغة والنحو في مجموعة من القراءات بما لا يدع مجالاً للشك أنهم أسقطوها من الاعتبار، ونحن نذكر هنا جملة من تلك الشواهد:

  1. مما أنكره النحاة قراءة حمزة لقوله تعالى (.. وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ..) حيث قرأها بالخفض عطفاً على الضمير، يقول الرازي تفسيره 9/136: أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة… وقال في ص164: واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله(صلى الله عليه وآله): (لا تحلفوا بآبائكم)، وفي تفسير القرطبي 5/2: وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه.

  2. قرأ حمزة قوله تعالى ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ..) (وَلاَ يَحْسَبَنَّ..)، في تفسير القرطبي 12/301: (قال النحاس: وما علمت أحدًا من أهل العربية بصريًا ولا كوفيًا إلا وهو يخطِّئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن، لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن).

  3. في فتح القدير للشوكاني 3/107: و(مصرخيَّ) بفتح الياء في قراءة الجمهور. وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين. قال الفراء: (قراءة حمزة وهم منه، وقل من سلم عن خطأ).

  4. ذكر الزركشي في البرهان 1/319 أن مغاربة النحاة كابن عصفور أنكروا قراءة ابن عامر (قتل أولادهم شركائهم)، وفي فتح القدير للشوكاني 2/165: (وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: إن قراءة ابن عامر هذه لا تجوز في العربية وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه..).

            فإذا كانت هذه القراءات عند أئمة النحو وعلماء اللغة (فاسدة) و(لحناً) و(قبيحة) و(وهماً) و(زلة عالم)، فأي معنى يبقى لتوقيفية القراءات وتواترها؟؟!

 

  أهل البيت (عليهم السلام) والقراءات:

           مما لاشك فيه أن أهل البيت(عليهم السلام) رفضوا نظرية (الأحرف السبعة) وصرحوا لشيعتهم بنظرية القراءة الواحدة، روى الشيخ الكليني في الكافي 2/630 بإسناد جليل عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف،

             فقال: (كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد

           وعن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: (إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة

          وهذه الروايات تتفق مع كتاب الله العزيز الذي يقول: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)(النساء:28)، وقد قدم الأئمة(عليهم السلام) فهما مغايراً للأحرف السبعة لا يتعلق بالقراءات وإنما بوجوه التفسير والتأويل المتاحة في النص القرآني، ففي بصائر الدرجات عن زرارة

          عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: تفسير القرآن على سبعة أحرف، وروى الشيخ الصدوق في الخصال ص358 عن حماد ابن عثمان قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): (إن الأحاديث تختلف عنكم قال: فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه).

           وقد شاع عند بعض الكتاب والمحققين أن قراءة (حفص عن عاصم) المتداولة اليوم في كثير من البلدان هي القراءة المعتمدة عند أهل البيت(عليهم السلام) بدعوى أن عاصم أخذ القراءة من أبي عبد الرحمن السلمي الذي أخذها من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وربما زاد البعض أن حفصاً وعاصماً والسلمي كانوا من الشيعة، ونحن نختلف مع هذه النظرية في بعض التفاصيل وكما يأتي:

  1. إن عاصماً لم يقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي فقط وإنما عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود (سير أعلام النبلاء 5/256).

  2. إن أبا عبد الرحمن السلمي لم يقرأ فقط على علي(عليه السلام)، فقد أخذ القرآن عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وأخذ زر عن عثمان بن عفان.

  3. إن دعوى تشيع الثلاثة (حفص) و(عاصم) و(السلمي) لا دليل عليها، ولو كان فيهم شائبة التشيع لاشتهر وبان مع اشتهار قراءتهم، ويؤيد ما نقول ما ذكره ابن طاووس في كتابه سعد السعود ص145 وهو يرد على أبي يعلى الجبائي: (وهؤلاء السبعة ـ أي القراء ـ منكم وليسوا من رجال من ذكرت أنهم رافضة)، بل أكثر من ذلك فإن محمد بن إبراهيم الثقفي في كتاب الغارات 2/559 ذكر أبا عبد الرحمن السلمي ممن (خذلوا علياً وخرجوا على طاعته).

  4. إن في قراءة أهل البيت(عليهم السلام) ما هو مخالف لقراءة حفص عن عاصم، وأوضح مثال عليه آية الوضوء، فقد روي عن غالب بن الهذيل قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قول الله عز وجل:

           (.. وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ..) على الخفض هي أم على النصب؟ قال: (بل هي على الخفض)، وهي في قراء حفص بالنصب.

  5. إن السياسة تدخلت في انتشار قراءة حفص عن عاصم، فلم تكن هذه القراءة مشهورة حتى زمان العثمانيين وهم من الأحناف، وقد انتهجت الدولة العثمانية سياسة تعميم هذه القراءة التي تعد القراءة المفضلة عند الأحناف ربما لأن أبا حنيفة (كوفي أخذ عن عاصم)، وإذا أضفنا إلى هذا السبب ما تمتعت به هذه القراءة من قوة ذاتية كمتانة إسنادها وفصاحتها وسهولتها مما هو مفصل في كتب التجويد والقراءات.

              ومن الجيد أن نختم الكلام بما رواه الكليني في الكافي 2/632 عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) ـ وأنا أستمع ـ حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله(عليه السلام):

            (كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم(عليه السلام) قرأ كتاب الله عز وجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي(عليه السلام)

            وقال: أخرجه علي(عليه السلام) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله [الله] على محمد(صلى الله عليه وآله) وقد جمعته من اللوحين فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.