Take a fresh look at your lifestyle.

منزلة حديث المنزلة

621

 

 

                                                                                                                      د حسين سامي شبر علي 

 

 

         لا يحظى من التراث الإسلامي ـ في قيمته الدينية ـ في أن يكون نصاً مقدساً، إلا ما جاء به القرآن الكريم، والسنة الشريفة وما عدا ذلك فلا يدخل تحت هذا الإطار، وإنما هو دون ذلك بكثير، وإن كان يعبر عن فهم واجتهاد في تفسير النص قد يخطئ وقد يصيب، فماذا تقول النصوص الدينية المقدسة لدى المسلمين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وما هو الموقع الذي يحتله في الرسالة والشريعة والأمة؟

 

       لقد حظي علي بن أبي طالب(عليه السلام) دون غيره من رجال الصدر الأول من المسلمين بخصائص ومزايا لم يحظ بها سواه، عبرت عنها صراحة لا لبس فيها، مجموعة كبيرة من النصوص الشريفة، فهيأت النفوس لإمامته الدينية والاجتماعية والسياسية بعد النبي(صلى الله عليه وآله)، ولعل من أهل هذه النصوص هو حديث المنزلة الذي تضمن في دلالته تحديد وتشخيص مكانة وموقع الإمام علي(عليه السلام) من الإسلام ومن رسول الله ومن الأمة الإسلامية جمعاء.

 

 

                   أولاً: سبب الصدور:

 

      لكل حديث يصدر عن النبي(صلى الله عليه وآله) أسباب موجبة لصدوره كما أن للكثير من آيات القرآن الكريم أسباب لنزولها، ومناسبة حديث المنزلة كانت إبان غزوة تبوك التي وقعت في شهر رجب سنة تسع من الهجرة النبوية المشرفة، فبعد أن استعد النبي لمواجهة الروم حيث علم إنهم يريدون الإغارة والهجوم على الجزيرة ـ فأعد بما يملك من إستراتيجية محكمة العدة والعدد، وقرر ـ لأهمية الموقف والنزال ـ أن يكون على رأس الجيش المتقدم، ولكن الظروف السياسية والعسكرية لم تكن تدعو للاطمئنان التام ونفي الاحتمال من هجوم المنافقين أو المرجفين على المدينة أو قيامهم بأعمال تخريبية تستهدف النيل من الإسلام، لذا كان الأمر يتطلب أن يبقى في المدينة من يتمتع بمؤهلات ولياقات عالية وحكمة بالغة ودراية تفصيلية في جميع الأمور وحرص على العقيدة كي يتمكن من مواجهة الطوارئ، فاختار النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) علياً(عليه السلام) لهذه المهمة الحساسة كي يقوم مقام النبي(صلى الله عليه وآله) في غيابه. فقال(صلى الله عليه وآله): (يا علي إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك).

 

 

     ولما تحرك النبي(صلى الله عليه وآله) باتجاه تبوك، ثقل على أهل النفاق بقاء علي(عليه السلام) على رأس السلطة المحلية في عاصمة الدولة الإسلامية، وعظم عليهم مقامه، وعلموا إنها في حراسة أمينة ولا مجال لمطمع منها، فساءهم ذلك، فأخذوا يرددون في مجالسهم ونواديهم إن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يستخلفه إلا استثقالاً ومقتاً له، فبهتوا بهذا الإرجاف علياً كبهت قريش للنبي(صلى الله عليه وآله) بالجِنة والسِّحر.

 

      فلما بلغ علياً(عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فأخذ سيفه وسلاحه ولحق بالنبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إن المنافقين يزعمون إنك خلفتني استثقالاً ومقتاً، فقال(صلى الله عليه وآله): (ارجع إلى مكانك فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فرجع علي(عليه السلام) ومضى رسول الله(صلى الله عليه وآله) في سفره(1).
رجع علي(عليه السلام) إلى المدينة ظافراً بهذا الوسام، فعظم في عين من أعظمه، وأبتلي بالحقد والحسد مرة أخرى على هذه المنزلة، فكان حارساً أميناً فيما استودع وساهراً يقظاً على ما استخلف بالمعنى العلمي الدقيق للاستخلاف…(2).

 

 

                    ثانياً: مصادر الحديث:

 

          نقلت حديث المنزلة جميع مصادر الإمامية الحديثية والتاريخية دون استثناء كما توافرت مصادر أهل السنة على نقله بما فيها الصحاح الستة، فقد أورده البخاري في صحيحه ضمن باب غزوة تبوك في الجزء السادس، ونقله مسلم بن الحجاج النيسابوري في صحيحه ضمن كتاب فضائل الصحابة في الجزء الخامس منه، وكذا الترمذي في سننه ضمن الجزء الثاني وأحمد بن حنبل في مسنده في الجزء الأول منه، وابن ماجه في سننه والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، والنسائي في خصائصه وابن الأثير في أسد الغابة وللإطلاع على المزيد من مصادر الحديث يمكن مراجعة مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي.

     ومعنى إيراده في كل هذه المصادر وعلى هذا الوجه إن هناك اتفاق وإجماع على صحة الحديث سنداً ودلالة من جميع         الوجوه.

 

               ثالثاً: دلالته البيانية:

 

 

       النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) هو أفصح من نطق بالضاد، وفي كل حديث من أحاديثه صورة بيانية في غاية الإتقان لفظاً ودلالة شكلاً ومضموناً، والمتبادر في حديث المنزلة أنه(صلى الله عليه وآله) قد شبه مكانة علي بن أبي طالب(عليه السلام) منه ـ من النبي(صلى الله عليه وآله) ـ بمكانة هارون من أخيه نبي الله موسى(عليه السلام)، دون أن يستخدم لهذا التشبيه أداة تدل عليه، وإنما استخدم الباء في (بمنزلة) وهي في الواقع لا تفيد التشبيه وإنما تفيد الحلول والانطباق، وأقل ما يمكن أن يقال فيها أنها تفيد المثلية وليس التمثيل، فالتمثيل أحياناً قد لا ينطبق تماماً على المثل له، وإنما استخدام المثل دلالة على المساواة الكاملة، والتشبيه لا يفيد هذا المعنى لأنه بنوعيه الحسي والعقلي لا يمكن أن ينطبق على جميع الوجوه، أما استخدام الباء فإنه تأكيد على موازنة تامة بين طرفين متعادلين، استخداماً حقيقياً وليس مجازياً لتوافر أو تكامل الطرفين من جميع النواحي، وعليه لا يكون هناك تشبيه أصلاً، وإنما كان استخداماً حقيقياً صرفاً، وإن كان التاريخ عاملاً من عوامل ذلك الاستخدام.

 

 

                  رابعاً: الدلالة على الاستخلاف:

 

 

     احتل هارون بن عمران(عليه السلام) موقع الخلافة ضمن الدعوة التي قادها موسى الرسول في أمته، وكان الرجل الثاني في تلك الرسالة، وفي تلك الأمة كما هو معروف في تاريخ الرسالات السماوية.
وقد شاء رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله) أن يعبر بصراحة عن موقعية أمير المؤمنين(عليه السلام)
في الأمة الخاتمة، فاستحضر مقولة موسى النبي(عليه السلام) أمام المسلمين، ليدركوا مكانة الإمام(عليه السلام) في بعدها الواقعي وما يتطلبه ذلك الموقع من تقدير واهتمام وطاعة، حيث أعلن(صلى الله عليه وآله) تلك الموقعية بهذه الكلمات: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

 

فمكانة أمير المؤمنين(عليه السلام) إذا تم استلهامها من النصوص المقدسة، فهو يحتل موقع الرجل الثاني في هذه الرسالة، وفي هذه الأمة، إلا أن موقع النبوة لا يختص به غير محمد رسول الله، وأما سوى ذلك فلعلي في أمة محمد(صلى الله عليه وآله) ورسالته، ما كان لهارون(عليه السلام) في أمة موسى(عليه السلام) ورسالته تماماً.

 

على إن هذا الحديث يمثل واحدة في الاستحضارات التي كان النبي محمد(صلى الله عليه وآله) يحرص كل الحرص على أن يطلع المؤمنون على دلالاتها الحقيقية، ففي كل مناسبة كان هناك حديث وكان هناك علي(عليه السلام) يتصدر ذلك الحديث، وصولاً إلى يوم الغدير الذي أعلن فيه رسول الأمة إعلاناً رسمياً ملزماً للجميع بأن علياً(عليه السلام) هو الخليفة من بعده. ومن هذه الأحاديث حديث الدار (فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي) وحديث الثقلين وحديث الولاية وحديث الإمامة وحديث أبوة الأمة، وحديث المعراج وغيرها مما لا يتسع هذا المقال المتواضع للتوافر عليها.

 

 

      خامساً: حديث المنزلة على لسان أمير المؤمنين(ع):

 

 

      لأهمية حديث المنزلة في إثبات إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام) كان لا ينفك في العديد من المناسبات يستشهد به ويحتج على المنكرين لإمامته، ولا بأس هنا استكمالاً للفائدة، أن نذكر بعض النصوص التي تضمنت الحديث والتي وردت على لسانه(عليه السلام):

 

          1ـ يوم الشورى:

 

        قال: (أنشدكم بالله أفيكم أحد أخو رسول الله(صلى الله عليه وآله) غيري؟ إذا آخى بين المؤمنين، فآخى بيني وبين نفسه وجعلني منه بمنزلة هارون من موسى إلا أني لست بنبي)(3).

 

 

      2ـ في يوم بيعة عثمان:

قال: (هل تعلمون إني كنت إذا قاتلت عن يمين رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟)(4).

 

 

           3ـ يوم فتح خيبر:

قال: قال رسول الله يوم فتحت خيبر، لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر على ملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ترثني وأرثك، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، أنت تؤدي ديني وتقاتل عن سنتي وأنت في الآخرة أقرب الناس مني، وأنت غداً على الحوض خليفتي…(5) >

 

—————————————————————————————————————–

(1) تاريخ الطبري، 2/368، إرشاد المفيد، ص138، السيرة الحلبية، 3/182.
(2) د. محمد حسين الصغير، الإمام علي(عليه السلام)، ص70.
(3) الصدوق، الخصال، 2/553، رقم 31.
(4) الخوارزمي، المناقب، 301، رقم 296.
(5) الصدوق، الأمالي، المجلس 21 ح1.

التعليقات مغلقة.