حينما تسلم أمير المؤمنين مقاليد الرئاسة كان ميدان الخلافة خالياً إلا من الخراب والفوضى، والأمة الإسلامية قد خرجت تواً من التمرد على خليفتها السابق الذي أعاد الجاهلية الأولى للحكم، ولان الأمور ليست في نصابها والحق مهجورٌ سبيله والدين مندرس حكمه فلم يكن من يعيد للأمة ربيعها ورونق إسلامها إلا سيدها الذي تآمرت عليه سابقاً وعادت له راجيةً الآن .. ترجو عدله .. وحكمته .. لتحيي ما جف من منابعها .. وكان لذلك ثمناً لا يوصف .. ثمناً لم ترتع النفوس اللاهثة إلى الحكم والأمصار ولمعة الذهب والفضة من أن تجري انهارا من الدم في سبيل وقف الصلاح والإصلاح … وكان أولها وقعة الجمل .. ثم بعد أن استقام الأمر لأمير المؤمنين(عليه السلام) .. اشتعل فتيل الفتنة مرة أخرى في وقعة صفين.
صفين في الواقع صراع أكثر منه حرب .. تقاتلت فيه قوى الشر والغي والباطل مع الحق والفضيلة والهدى .. ولم يشهد التاريخ في مر عصوره حربا كهذه فهي من شواذ الحروب أصلا ، فيها لم يتساوَ الطرفان أبدا ودارت رحاها جوهريا بين قطبي التقوى والمكر.. وفيها أيضا اختراق فادح للقيادة العسكرية وعصيان للأوامر بشكلٍ جاهلي وقح .. وأحداثها سلسلة من النزالات التي تكاد فيها أنفاس النصر والهزيمة تتابع .. ففي ذلك الوادي الوسيع بين العراق والشام حيث سميت المعركة باسمه نزل جيش الإمام علي(عليه السلام) وجيش معاوية وكان مؤدى الخلاف هذا إلى بدعة اختلقها معاوية من اجل جر الخلافة من أمير المؤمنين باتهامه له بأنه قاتل عثمان ومحرض الناس على قتله وهو الآن يريد أن يأخذ بثأر الخليفة السابق .. ورغم محاولات الإصلاح التي قدمها أمير المؤمنين لا ضعفا منه بل سعيا لحقن دماء المسلمين … فقد ذهبت سدى فلا كتاب ولا سنة رسوله يرضى بها معاوية لتسوية النزاع ولم يبق إلا السيف ليقول كلمته في الجانبين…
بداية الصراع
جيش يقوده أمير المؤمنين، قوامه آلاف من الجند، مائة منهم ممن قاتل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقابله جيش الضلال القادم من الشام 130 ألف مقاتل ليلتحق الجمعان في وادي صفين في الأول من صفر عام 37 هـ ، وقدر ما كانت الحرب قد أثخنت أصحابها جراحاً بقدر ما كانت حبلى بالأحداث والوقائع .. تجلى فيها الخُلق السماوي لعلي(عليه السلام) واتضح بها الحقد الأعمى لمعاوية وجمعه وفي كل يوم منها لا يخلو من تذكير معاوية بحرمة الدماء ودعوته إلى الوسائل السلمية ، فكان يجيب (ليس عندي إلا السيف)، وحتى دُعي إلى السيف ليكون حكما بينه وبين علي(عليه السلام) الذي دعاه إلى المبارزة وطبعا .. قد رفض لجبنه وخوفه واعترافه بذلك .. وتستمر أحداثها بين إقبال وإدبار يتطاحن بها الجيشان .. حتى يستشهد عمار بن ياسر في صفوف جيش أمير المؤمنين(عليه السلام) فيحدث إرباكا واضحا في صفوف الشاميين الذين يرتد في أسماعهم حديث الرسول: (عمار تقتله الفئة الباغية)…
ليلة الهرير.. احتضار الحرب
يذكر التاريخ بان هذه الليلة أقسى ليال الحروب فهي ليلة شديدة البرد بحيث يسمع فيها للجنود هريرا كهرير الكلاب لبرودتها .. ولم يسمع فيها سوى وقع السيوف وطعن الرماح والتحامها حتى تحارب الجمعان بأعمدة الحرير والحجر والعصي وقيل بأنها استمرت منذ ظهيرة النهار حتى منتصف الليل ولم يفتر فيها الخصمان للصلاة .. حتى تمكن جيش الإمام(عليه السلام) بقيادة مالك الاشتر من جيش معاوية ورده إلى إدباره وكاد ان يجهز عليه وينقطع رأس الفتنة وأصاب جيش معاوية الوهن والتفكك واشتد وطيس المعركة التي كادت ان تصل إلى مدارج الانتصار بسيوف المتقين فحال بينهم وبينه مكر عمر بن العاص..
الخديعة
فجر هذه الليلة الدامية يصل مالك الاشتر الى معسكر معاوية ويدخله وامامه تتداعى الفتنة والمؤامرة ولم يبق من مخيم ابن الطلقاء إلا عدوة فرس !! .. او بضعة أمتار .. بضعة أمتار وتنعم الأمة بحكم السماء بتطبيق نهجها ولكن تظهر من وسط المخيم رماح البغي عليها كتاباً .. مرفوعا واصواتا ناعقة بمنتهى الجهل: (لا حكم الا لله) وبلغ عدد المصاحف 500 مصحف قد انغرست بالرماح ورفعت فوق الأشهاد !! .. وترتوي الفتنة مرة أخرى من الجهل والمكر ويسود الانشقاق جيش أمير المؤمنين(عليه السلام) فيرجعون اليه طالبين منه وقف القتال!! ولم يبق من أوكار العدو الا قفزة فرس! وبكل وقاحة وفي غاية الإسفاف يأتي إليه 20 ألف من جيشه(عليه السلام) ومن أصحاب الجباه السود التي سودها السجود حاملين على عواتقهم سيوفهم فينادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: (يا علي.. أجب القوم الى كتاب الله اذا دعيت وإلا قتلناك كما قتلنا بن عفان فوالله لنفعلنها إن لم تجب!!).
وعلى قلوب أقفالها.. الأمير يدعوهم إلى أن يمهلوه ساعات ويمنحوه سواعدهم فما النصر ببعيد ..
ولكنهم عباد الجهل والعصبية وعصابة الخوارج المنحرفة عن جادة الصواب… وتحت هذا الضغط يأتي رسول الأمير(عليه السلام) إلى مالك الاشتر يأمره بالانسحاب!! فيقول مالك : ليست هذه ساعة أجاب فيها !! فيبلغه الرسول إن مولاه في خطر !! .
أي جيش هذا الذي ينسلخ عن إمرة قيادته تحت أهوائه الطائشة وسذاجته وطاعة عمياء للمظاهر !!. ومن أول من دعى إلى الاحتكام إلى كتاب الله أليس عليا(عليه السلام) يدعو إليه وهو أول من أجاب إليه ودعى إلى حكمه … وبنجاح الخدعة وبعصيان الجيش وانقسامه وعدم انصياعه أو سماعه لأوامر سيده .. يلفظ النصر المحتوم أنفاسه.
ويتفق الطرفان لكي ينفض النزاع على التحكيم بينهما.
التحكـيم
ولكي يجري التحكيم يختار الطرفان من يمثلانهما فعن جيش معاوية عمر بن العاص وتعين الثلة الجاهلة بدلا من قائدها المتمكن من فنون الحرب واصولها وألاعيبها والعارف بزيف المهزومين والمتخاذلين .. تعين نيابة عنها أبي موسى الأشعري بالرغم من معارضة الإمام(عليه السلام) فقد كان أبي موسى اخطر لعلي(عليه السلام) من عمر بن العاص .. ويتفق الحكمان على ان يخلع كل منهما صاحبه لتنظر هذه الأمة مرة أخرى في خليفة لها … فيتقدم أبي موسى ويرتقي المنبر فيخلع علي(عليه السلام) من الخلافة كما يخلع خاتمه ويناقضه الماكر عمر بن العاص في الموقف فيخلع عليا(عليه السلام) ويثبت معاوية!! ويسقط أبي موسى في حبائل بن العاص… ولتغرق الأمة بهذه المهزلة بمزيد من التصدع والانهيار وترتد إلى سالف الزمن الأسود ويستعبدها الظلم على مر العصور.. والحال أن المتفقين قد نسوا عثمان ودمه المتباكين عليه واطلعت الدنيا على حقيقتهم وسعيهم إلى الخلافة!!