ليس هناك ثورة من الثورات على مر التاريخ إلا وقامت لأجل هدف أو مجموعة أهداف مباشرة قريبة أو لأهداف وأغراض بعيدة المدى، خطط لها قادتها وعملوا على تحقيقها، ومهما كانت هذه الثورات وطبيعتها فإن الأغلب الأعم فيها تتحدد أهدافها بمقدار زاوية الرؤية التي ينظر من خلالها قادتها ورجالها،
ولذا نجد أن التاريخ تجاهل كثيراً منها لتشابهها وتماثلها في الأهداف والغايات والنتائج كما أنه ليس هناك من ثورة خطط لها قادتها في البدء إلا وقد جعلوا النصر والفوز هو الاحتمال الأكبر وإلا لما أقدم هؤلاء على الثورة والاصطدام…
وهي حالة لا استثناء فيها إلا ثورة الإمام أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه فهي ثورة كانت معلومة النتائج مسبقاً أقصد النتائج في ساحة المعركة هذه النتائج الأولية في الميدان، إذ سبق القول منه عليه السلام مصوراً المشهد الأخير لميدان المعركة وقبل وقوعها:
(الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، ألا فمن كان فينا باذلاً مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى)(1).
وفي هذه الرائعة الحسينية تصوير وتشبيه لهمجية ووحشية هذا الجيش الذي يقابله والذي يفتقد أبسط قيم الرجولة والأخلاق والأعراف السائدة آنذاك. إذ عمد بعد قتل الحسين(عليه السلام) إلى حرق خيامه وسلب نساءه وسوقهن أسارى إلى آخر الأفعال الشنيعة. ولذا نجد الإمام(عليه السلام) يقول: (يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم أو كونوا عرباً كما تزعمون)(2)، إشارة منه(عليه السلام) إلى ما يملك العربي الأصيل من قيم الرجولة.
إذن نحن أمام حالة من غياب الوعي والضمير الإنساني وفقدان الأخلاق لجيش ونظام يقدم على قتل الأطفال وسلب النساء وحرق البيوت…
وبالمقابل هناك طرف آخر وجد أن الذي أوصل الأمور إلى هذا المستوى المتردي هو التغييب القسري لأخلاق هذه الأمة وفصلها عن دينها وتراثها وشرعتها والعود بها إلى جاهلية قبلية صنمية مقيتة أبعد ما تكون عن روح وأخلاق الإسلام الذي جاء به خاتم الرسل(صلى الله عليه وآله) الذي حمل شعار (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وحمله من بعده آل بيته الأطهار، حتى كادت الأمة لا ترى من مخرج لهذا المأزق الكبير الذي تواجهه حين استسلمت لأفيون التخدير والاتباع والاستكانة، وتجرعت كأس الهوان إلى حد الثمالة.
لقد جاءت ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) في بعض جوانبها رداً أخلاقياً على ذلك الواقع المرير صوره قول الإمام(عليه السلام) في بيانه الأول: (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي…)(3) فليس من خلق الحسين(عليه السلام) البطر ولا الظلم ولا الإفساد، إنما غايته يحددها في طلب الإصلاح وهو واجب شرعي وأخلاقي حكم به العقل والنقل، وهو هدف جميع الرسالات السماوية التي أرادت لهذا الإنسان أن يكون إنساناً كاملاً ليعمر الأرض ويخلف الله سبحانه فيها.
وفي جميع وقائع هذه الثورة ومراحلها المختلفة منذ بدايتها في المدينة ومكة مروراً بتفاصيلها الأخرى الصغيرة منها والكبيرة حتى الختام الدامي في كربلاء نرى تلك الأهداف التي سعى لها الحسين(عليه السلام) واضحة في سلوكه عملاً وقولاً.
إن ثورة الحسين(عليه السلام) لم تقف عند هدف معين بذاته بل جعل الإمام(عليه السلام) من ثورته نافذة واسعة على القيم والنظم الإسلامية جميعها ولم تقتصر على مقارعة الظلم والاستبداد في ساحة المعركة وإن كان هذا يكفيها ليجعلها من أهم وأبرز الانعطافات التاريخية في الحياة الإنسانية.
ومن أبرز وأظهر تلك القيم والأبعاد التي أصلتها الثورة هي الممارسة الأخلاقية في أحلك الظروف التي تمر بالإنسان، ليعطينا أبو عبد الله(عليه السلام) بذلك هذه الشهادة العظيمة عن نفسه، فإنه يرى الموت حالة تليق بالإنسان عندما لا يكون بوسعه أن يعيش حياته بعزة وكرامة وإباء، ولذا يقول: (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما…)(4)،
ولا أعز عند أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) من أن يجعل نفسه وشخصه في أعلى المراتب الروحية بعيدة عن لوثة الدنيا عندما يكون الخيار الأفضل هو الموت.
ومع هذا السعي الحثيث إلى الشهادة نجد تلك الروحية العالية والأريحية المتميزة والبذل والجود والعطاء والخلق الكريم متساوقاً مع شؤونه الأخرى في الحرب والسلم،
من تلك المواقف التي لا يستطيع كل حر شريف إلا الوقوف عندها، فهذا الحر الرياحي حينما التقى الحسين(عليه السلام) قبل نزوله بكربلا مانعاً له من الرجوع إلى المدينة طالباً منه النزول على حكم الطغاة وما جرى بينهما من كلام، وقد اشتد العطش بالحر وأصحابه وخيولهم حينها طلب الماء من الإمام(عليه السلام) فسقاهم الإمام(عليه السلام) بيده الشريفة مما عنده من الماء ولم يأبه لقلته أو كثرته، وكان بوسعه أن يتركهم ليموتوا عطشاً في هذه البيداء.
وفي الليلة العاشرة من محرم الحرام يقف الإمام(عليه السلام) يكلم أصحابه وأهل بيته ويجعلهم في حل مما التزموا به ودعاهم إلى الذهاب عنه، لأن القوم لا يريدون غيره…
إن هذه المواقف العظيمة لا تنبع إلا من نفوس عظيمة ورثتها من منابع الطهر والعصمة.
إن حقيقة هذه الثورة هي ذلك الالتزام الأخلاقي الذي تجسد بعدم الاستسلام للباطل، بل أن قبوله والاعتراف به أعطاه شرعية لوجوده مما يشكل أكبر هزيمة وذلة للإنسان، ولقد أريد للحسين(عليه السلام) أن يقبل الظلم ويستسلم أو يسالم الظالمين، ولذا كانت ردة فعل الإمام(عليه السلام) واضحة وصريحة حيث يقول: (… هيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية)(5). وهذا الموقف هذا الذي بقي وامتد ليرفد بعد ذلك حركة الإصلاح فيديمها ويخلق استمراريتها.
لقد كان لهذه الثورة هدف بعيد المدى يرمي إليه الإمام(عليه السلام) من خلال ثورته وهو إيقاظ وجدان الناس وإحياء الضمائر المجدبة، وأن يؤسس فيهم قاعدة روحية متماسكة الأطراف من الخضوع والخنوع تحت وطأة الظروف القاسية.
كان ذلك لينقذهم بالدرجة الأولى من طاغوت الباطن وهوى النفس الذي تمثله الأهواء والشهوات المقيتة والعلائق المادية، ومن هنا أصبح الحسين(عليه السلام) قائداً ورمزاً ربانياً خالداً للمسلمين ولكل الأحرار في العالم، ونبراساً يستضاء به في دهماء الخطوب ونوازل المحن ومشعلاً يحمله الثائرون ضد الظلم والجور والإفساد والاستبداد . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ