توطئة
(إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) حديث عن رسول الانسانية وقائدها الأعظم يكشف لنا عن سر من أسرار بعثته الشريفة التي غيرت مجرى التاريخ من براثن الضلالة والانحراف ومتاهات المنظومة الاخلاقية والتي تركت آثارًا سلبية في واقع الامة مما آل الى ضياعها وتهافتها وفقدانها صوابها ونقاط قوتها وهيبتها من بين الامم والمجتمعات في تاريخ ما قبل بعثته المباركة والذي سماه المؤرخون بعصر الجاهلية.
نعم كانت الامة تعيش في ظلام دامس مليء بالخرافات والعقائد الفاسدة وكأنك ترى الناس حينذاك سكارى وما هم بسكارى ولكن الجاهلية الاولى استولت على عقولهم وأعمت ابصارهم وبصيرتهم الا من حكم عقله هواه من الذين انعم الله عليهم وكانوا انوارا تضيء بالليلة الظلماء وتكشف الغمام اذا حجب النور.
وهذه الثلة هي التي كانت تمتاز بجملة من مكارم الاخلاق وقوة البصيرة واعني بها اولياء الله تعالى ومحال معرفته قبل ان يبعث النبي الاكرم وتأخذ رسالة الاسلام حيز التنفيذ ، ومن ثم يحل عصر النبوة فيما بعد ليتمم مسار الانبياء من خلال مبادئ خاتم الاديان ، ذلك هو الدين الحق ، ” ان الدين عند الله الاسلام ” الدين الذي اشتمل على منظومة متكاملة تتعامل مع الانسان وعلاقته بالله تعالى من جهة وبين ابناء جلدته من جهة ثانية وبالمخلوقات الاخرى بل بالكون جله من جهة ثالثة.
وقد تجسدت تلك النظم والقوانين في كتاب الله العزيز الذي يعد دستور الاسلام الخالد، بل قل ان شئت وقولك الحق هو دستور البشرية جمعاء ان ارادت لنفسها خيرا، دستور الدين القيم الذي يهدي للتي هي اقوم، دستور لا يغادر كبيرة ولا صغيرة الاّ احصاها ففيه تبيان كل شيء.
يعلمنا هذا الكتاب العظيم نظاماً حياتياً شاملاً يشتمل على جملة من الحقوق والواجبات التي تقع على عاتق الفرد والمجتمع وتنظم حياته اليومية وفق برنامج حيوي ينطق بالحق ويزهق بالباطل فاذا هو زهوق هذا البرنامج جاء على لسان من يمتلك العقل الاكمل قبال ما يسنه العقل الناقص وشتان بين العقلين .
بين العقل الكامل والناقص
بعد كل ما تقدم علينا ان نقول ان معادلة الاخلاق التي ارسى قواعدها رسول الانسانية والتي اشرنا اليها في بداية الكلام فقدت معطياتها ونتائجها لأسباب نذكرها فيما يلي :
جذور الاخلاق
اكدت لنا كتب السير والاحاديث ان النطفة التي يخلق منها الانسان لها دور بارز في اعداد الفرد ونمط سلوكه فيما بعد وقد ينجلي الامر فيما اذا كانت لقمة العيش المعتمدة لدى الابوين لاتندرج تحت الضوابط الشرعية، اذ ان لقمة الحرام والعياذ بالله تسهم الى حد بعيد في رسم السلوك اللاأخلاقي للطفل في بداية نموه ونشأته وتترك اثرا هيستيريا عند كبره مما تخلق منه عنصرا اجراميا في المجتمع ولدينا شواهد كثيرة تكون مصداقا لما ذكرناه
وان شئت عزيزي القارئ ما عليك الا مراجعة ذلك من خلال العديد من الكتب التي فصلت الموضوع الذي ذكرناه ، في الوقت الذي تتسبب لقمة الحلال في انشاء واعداد الفرد نشأة سليمة لا غبار عليها شريطة ان تغذي الطفل مكارم الاخلاق كما يتغذى الحليب في بداية نشأته ، وقد اطلقنا على النهج المذكور بجدذور الاخلاق، كونها أساس البناء الخلقي للفرد. ومصداق النبت قول الشاعر:
هي الاخلاق تنبت كالنبات اذا سقيت بماء المكرمـات
حاكمية القانون الوضعي
لعل سنّ القوانين والانظمة الوضعية التي تخلق من الانسان كجهاز اخترعه الانسان ذاته واداة لتنفيذ الاوامر التي تصدر من الانسان نفسه بعيدا عن ارادة السماء ووحيها الالهي وتخطيطها المبرج ابعدت المنظومة البشرية عن مسارها الاخلاقي وافقدتها الكثير من مضامين حقوقها وكرامتها (ولقد كرمنا بني آدم)[الإسراء:70]
فإن الكثير من تلك المواد القانونية جائرة بحق الفرد او المجتمع كان سببها الانظمة الحاكمة اللاشرعية والتي قد تكون سببا في صناعة الاخلاق السيئة التي تسود المجتمع – وأي مجتمع كان- متناسيا الثوابت التي اسسها الاسلام كدين يمتاز بالشمولية والكمال.
ومن تلك القوانين الجائرة التي عاشها الشعب العراقي كمثال حي للشعوب المسلمة في عهد الحكم المباد، قانون كبت الحريات الشخصية ومطاردة ذوي الالباب وذوي الحجى وسيادة الجور والظلم والخوف حتى فاق الحد الطبيعي، والاستيلاء على ممتلكات الشعب مما خلق جملة من النقائض ، حتى انتشرت ثقافة الفساد الأخلاقي من خلال القنوات الاعلامية الضالة مع ان البلد كان منغلقاً على ذاته،
ومن المؤسف جدا انه ما ان انفتح العراقيون على العالم ازداد نفوذ تلك القنوات واشتد اوارها ، خاصة بعد ان دخل الفضاء حيز الاعلام فخلقت من هذا البلد الامين بلدا يأوي الارهاب الاعمى الذي اهلك الحرث والنسل ، بيد اننا لن نجد رد فعل قوي يحجمها ويقضي على واقعها ويطمس آثارها.
وعودا على بدء ان من تلك القوانين التي اشرنا لها سلفا تركت ارثاً ثقيلاً أفقد الاسلام هويته هي قوانين وانظمة التعليم والتربية اتي اسست جملة من القضايا اللاأخلاقية بسبب فقدانها المصداقية والمهنية والموضوعية في طريقة التعامل مع نقل المعلومة بين الاستاذ والتلميذ ورفد المناهج التربوية والتعليمية بالكذب وتزوير الحقائق التاريخية والدينية لتخلق لدى التلميذ قناعات فارغة من الحقيقة ومليئة بالاباطيل ومن مختلف المناحي والاتجاهات.
أعراف فاسدة
امتازت الشعوب الاسلامية عامة والشعب العراقي خاصة كونه شعبا مسلما بحياتها القبلية وأعرافها العشائرية ومن المؤسف اننا نلاحظ الكثير من القوانين اللا اسلامية والتي لا علاقة لها بالاسلام والتي ما انزل الله بها من سلطان وكمثال على مانقول “قانون السانية “والذي انتشرت افكاره المريضة بين المؤسسة العشائرية وكما هو الحال في مسألة التزاوج بين افراد العشيرة والعشائر الاخرى او مسألة الديات وغير ذلك مما عد عرفاً واجبا مع بعده كل البعد عن قيم ومبادئ الاسلام في الوقت الذي اكدت الروايات الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) والتي بينت لنا الجوانب الحياتية المتعددة سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية او السياسية وما الى ذلك.
وكمثال على ذلك موضوع التواضع والتكبر، فقد اعتنى الدين الاسلامي بتهذيب وتأديب شخصية الفرد وهذا رسول الانسانية الاكرم يقول “أدبني ربي فأحسن تأديبي” ولعل أهم ميزة تكشف عن عقل الفرد المسلم كمالا وقوة في الشخصية هي سمة التواضع فمن تواضع لله رفعه الله كما ورد في الحديث الشريف.
حيث إن خصلة التكبر تعبر عن نقص في ذات صاحبها، أو كما وصف ذلك الشاعر بقوله:
ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخُ
فكذا هو الحال بالنسبة للمنظومة السلوكية بين الفرد والمجتمع اذ لا يمكن أن تبنى بناء سليما الا من خلال التخلق بسمة التواضع خاصة فيما اذا تقمص الفرد منصب المسؤول او القائد او الحاكم وما الى ذلك ذلك لان اي هوة بين الراعي والرعية في هذا المجال تخلق ازمة ثقة تنخر فيما بعد بجسد الامة وكيانها وقوتها.
والحقيقة اقول ان واقعنا الحالي يشهد الكثير والكثير من امثال ذلك في الوقت الذي كان رسول الله “ص”وعترته الطاهرة “ع”يمثلون قمة الاخلاق المتواضعة مع ما يحملوه من كمال الصفات وفضيلتها مما يجعلهم على قمة الهرم ،ولعل سمة التكبر في مجتمعات تعبر عن حالة من مرض الروح والذي يصعب علاجه الاّ من خلال اعتماد منهج اخلاقي يتلاءم مع نظرية الاسلام في افق علم الاجتماع والاخلاق.
ثقافة مستوردة
الغريب جداً ان نجد بين مجتمعاتنا الاسلامية انتشار ظاهرة الثقافة المستوردة في العديد من مناحي الحياة كالمأكل والملبس وكأن الغرب هو الذي يصنعنا ويوجهنا لا ديننا وثقافتنا.
هذا ما نلاحظه بصورة كبيرة لدى شبابنا من الجنسين وخاصة في ميادين الدراسة الاكاديمية مما يؤسف له شديد الاسف ولعل اختلاط الجنسين في ميادين الدراسة الاكاديمية من دون وضع جملة من الضوابط الاخلاقية التي تحول دون وقوع المفسدة امر يستحق اعادة النظر مليا ذلك لان ذات الامر يتعلق ببناء الانسان ومدى قوة تأثيره في الحياة كونه افضل المخلوقات وأكملها ولعل اي سلبية في هذا المجال تؤول هي الاخرى الى انحطاط المجتمع وانهياره وتداعي المجتمعات الأخرى وتفوقها عليه، وصدق الشاعر حيث قال :
وتحسب انك جرم صغير وفيك انظوى العالم الاكبر
أخلاق الاسرة
تعيش الاسرة المسلمة حالياً ازمة خلقية يبعدها عن هويتها الاساسية ولعل السبب في هذا الامر يعود الى عدم اعتماد منهج سليم في التربية الاسرية وعلاقة ذلك بالمؤسسات التربوية الاخرى كالمدرسة مثلاً والبيئة التي يعيش بها الفرد مما يتطلب من أولياء الامور إعادة النظر في منظومتنا التربوية تحقيقا لهدف بنيوي حصين يتكفل في اعداد الفرد اعدادا سليما وفق نظرية الاسلام في التربية الاسرية وحقوق الولد تجاه ابيه وبالعكس وواجبات كل منهما تجاه الاخر
وما رسالة الحقوق للامام زين العابدين “ع” الا خير منهج وخير وسيلة نسيناها ولم نعر لها اي اهمية تذكرمع شديد الاسف وشتان بين ما يتعلمه الفرد من اسس تربوية لدى الكثير من اسرنا المسلمة وما رسمه واقره الامام السجاد في رسالته التربوية القيمة ، والسؤال الذي يطرح نقسه لينتظر الاجابة هو : اين نحن من هكذا دروس تلهمنا السعادة والنجاح؟
المناهج التربوية
تعد المناهج التربوية هي الاخرى رافداً يرفد الفرد والمجتمع بتعاليم السماء والتي تؤسس المنظومة التعليمية والخلقية للتلميذ والطالب، بيد ان ما نراه في وقتنا الحالي على خلاف ما يريده الاسلام فلا زال العديد من المناهج التربوية يفتقر الى المصداقية في المواد التي تشكل وجبة غذائية روحية للتلميذ او الطالب.
فالتاريخ الذي يكتنفه تزوير الحقائق وفقدان دروس علم الاخلاق وعدم اعتماد مناهج سليمة في التدريس كل اولئك يشكل بطبيعة الحال انحرافاً في المسار التربوي في مؤسستنا التربوية مما يتوجب علينا إعادة النظر في طبيعة تعاملنا مع الغذاء الروحي ومدى تأثيره على بناء الشخصية في مجتمعاتنا.
ولا ارى هذا لامر يتحقق الا من خلال تشكيل لجان تخصصية تنظر في الموضوع بعيدا عن الاجندات الطائفية التي لا تورث الا الفرقة والشقاق. مع احترام الخصوصيات اذ لانعني بذلك ان السير على نهج اهل البيت(عليهم السلام)، ونظرياتهم واثراء مؤسساتنا التربوية بذلك لا يعد امرا طائفيا وذلك لان ائمة الهدى(عليهم السلام) ليسو حكرا على مذهب دون مذهب فهم حجج الله على خلقه وترجمان وحيه.
فما أحوج مناهجنا التربوية التعليمية الى نظريات وافكار اهل البيت(عليهم السلام)؟ كي تدخل حيز التنفيذ لا أن تبقى مجرد نظريات مجردة عن التطبيق في الوقت الذي تمتلئ كتب الاحاديث والسير من هكذا دروس وعبر، وما أراني الا ان اوجه النقد الى مؤسساتنا التربوية كونها المسؤول الاول عن كل ما ذكرناه من امور تسترعي النظر بدقة وتركيز عاليين، ولا يتم ذلك الا من خلال تشكيل لجان متخصصة لذات الغرض.