أشار الله في محكم كتابه العزيز وفي مناسبات عدة إلى الغلو، بما له من دلالة قوية ومؤثرة في نفوس المسلمين آنذاك بواقع الإرث الديني لمن انتحل الغلو من الغلاة الذين دخلوا في حظيرة الإسلام ولازالوا متمسكين ببعض العقائد التي لم تنجلِ من نفوسهم(1)، على أن مجمل الآيات القرآنية التي تصرح بذلك تعني: أن هناك فعلا قد وقع من المسلمين يعكس هذه الظاهرة، لذا فإن القرآن تعامل مع الغلو من مبدأ النهي عن المنكر، أو ليؤكده طبقا للحوادث المكانية والزمانية التي وقع بها ذلك الحدث،وأما تذكيراً بأحوال الأمم السابقة.
والمهم في هذه الآيات القرآنية اليهود (بنو إسرائيل) و(المسيحيون) من أتباع مسألة أن المسيح هو ابن الله وهم المعنيون دون غيرهم، كما أن هناك آيات عدة تتضمن تلميحاً يراد منه الاثنين سوية أي ـ أهل الكتاب ـ.
ي حين نجد أن هذه الإشارة تأتي مرة تصريحا أي: بذكر كلمة غلو كما ذكرنا آنفاً، وأخرى تضميناً على وفق المعنى العام للآية.
ومن خلال المفهوم القرآني الذي أعطى بعداً تاريخيا مهما لجذور نشأة الغلو عند أهل الكتاب وأشار من خلال الآيات القرآنية إلى عناصر الغلو عند هؤلاء وكيف نشأ، وكيف تعامل معه على وفق الجوانب الفكرية والاعتقادية وهذا ما سنتعرض له خلال دراستنا هذه لمصطلح الغلو عند أهل الكتاب متمثلا باليهود والمسيحيين ـ النصارى ـ، ذلك أن منشأ الغلو قد بدأ عند أتباع هاتين الديانتين، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية وآية.
وفي الذكر آيات تشير إلى غلو أهل الكتاب، بصراحة، وذلك في قوله تعالى:(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا
الْحَقَّ)(2).
وفي آية قرآنية أخرى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ)(3).
هكذا نقف بداية عند نقطة تأسيسية وهي أن القرآن الكريم يعد المستند التاريخي الأول للتعرف على المصطلح بكل أبعاده. وقد سجل الظاهرة تاريخياً بما يساعد على تفهمها اجتماعياً وبذلك يقيم لنا البحث التاريخي بنموذجين للغلو: وهو غلو اليهود، و المسيحيين.
توافق الحديث الشريف في الخط العام مع ما ذكره القرآن الكريم عن الغلو، بل جاء توكيداً وتواصلا مع المفهوم القرآني، وذلك من خلال أقوال وأفعال الرسول(صلى الله عليه وآله).
وقد كان مفهوم الغلو في الحديث الشريف ينطلق مما ذكره القرآن الكريم حيث أصبح قاعدة له تنطلق من خلاله جميع المفاهيم والأسس في حياة المسلمين من حيث تصرفاتهم وأفعالهم، بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ )(4)، حيث ينطبق هذا الأمر على كل شيء يخرج عن نطاق تجاوز الحدود المسموح بها في الدين.
وبناءاً على ذلك يمكن تحديد الموقف العام إزاء الغلو في الحديث الشريف الذي من خلاله يمكن أن نضع حداً فاصلا بين ما هو غلو وبين ما هو فعل طبيعي مسموح به ضمن دائرة الشريعة الإسلامية.
فلو لاحظنا في البدء ما هو موقف الرسول(صلى الله عليه وآله) من الغلاة واضحا، حيث ورد في الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (لا تنال شفاعتي الغالي في الدين ولا الجافي عنه)(5)، وفي حديث آخر قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، غداة العقبة(6). (يا أيها الناس! إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في
الدين)(7).
نلحظ هنا أن الرسول(صلى الله عليه وآله) حذر المسلمين من أي فعل أو مظهر من مظاهر قد يؤدي إلى الغلو، وكان تركيزه وتذكيره في الكلام على أحوال الأمم السابقة أي الديانة اليهودية والمسيحية.
ومن جانب آخر بين الرسول(صلى الله عليه وآله) فضيلة المسلم المعتدل عن المغالي في الدين والمتطرف لساناً وعملاً، حيث قال: (إن من إكرام جلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، والإمام العادل، وحامل القرآن لا يغلو فيه، ولا يجفو عنه)(8).
ومن الأمور المهمة التي أكد عليها الرسول(صلى الله عليه وآله) عدم التعمق في الدين لأنه لا يصلح لكل فرد، لأن درجات العقول متفاوتة في القوة والضعف، والنفوس البشرية مختلفة في النقاء والفطرة، وربما قاد التمسك المتطرف إلى الانحراف العقائدي والشذوذ الفكري، والخروج عن طريق الهدى والاستقامة ويقود في كثير من الحالات إلى الغلو بقوله: (ألا هلك المتنطعون ثلاث مرات)(9)، أي: المتعمقون المغالون وإن المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم(10).
ومن هنا كان الرسول(صلى الله عليه وآله) ينهى المسلمون عن التعمق في صفات الله، عزوجل بقوله: (تفكروا في آلاء الله عز وجل ولا تفكروا في الله عز وجل)(11)، وفي حديث آخر: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره….)(12)، وهو بذلك سد الطريق على الانحرافات العقيدية والفكرية التي قد تحصل عند المسلمين، ولم يدفع المسلمين إلى الانغماس في الماورائيات والميتافيزيقيا، كأن أين هو الله؟ أفي السماء أم في الأرض، وما هو حجمه وكينونته وجوهره؟… الخ، لأن الشبهات من الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف عن المعتقد الصحيح وتقود بالنهاية إلى الغلو.
فضلا عن ذلك أكد الحديث الشريف على ضرورة ترك السؤال عن المسائل التي تثير الخلاف والتي إذا انتقلت إلى العامة فتحت أبواب الفتن، وهى ابتداع المسائل والأسئلة العويصة المعقدة عما لا حاجة للإنسان إليه والوقوف عند المسائل التي تهم الناس في حياتهم وترك المعميات والمسائل المبتدعة،لذا نهى الرسول(صلى الله عليه وآله) عن الغلوطات(13)، وهي كما يعبر عنها شداد المسائل وصعابها.
ومن هنا كان يؤكد الرسول(صلى الله عليه وآله) على ضرورة الأخذ بالسنة واجتناب البدعة بقوله: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة…)(14)، وقد حدد في هذا الحديث الرسول(صلى الله عليه وآله) مفهوما آخر يقود إلى الغلو وهي البدعة، وقد ارتبطت فيما بعد ارتباطا مباشراً بأفكار الغلاة، وجاء في بعضها تصريحا فعن ابن عباس قال دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى المسجد فإذا أصوات كدوي النحل في قراءة القرآن فقال: (إن الإسلام يشيع ثم تكون له فترة، فمن كانت فترته إلى غلو وبدعة فأولئك أهل النار)(15).
ومن جانب آخر نهى الرسول(صلى الله عليه وآله) عن عبادة الأشخاص من خلال رفعهم إلى مستوى الربوبية، حيث ذكر أن قيس بن سعد قال: ثم أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت يا رسول الله ألا نسجد لك فقال: (لو أمرت أحداً لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله عليهن من حقهم)(16).
وفي حديث آخر عن معاذ بن جبل: أتى الشام فرأى المسيحيين يسجدون لأساقفتهم وقسيسيهم وبطارقتهم ورأى اليهود يسجدون لأحبارهم ورهبانهم وربانيهم وعلمائهم وفقهائهم فقال لأي شيء تفعلون هذا قالوا هذه تحية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قلت فنحن أحق أن نصنع بنبينا فقال نبي الله(صلى الله عليه وآله): (إنهم كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظيم حقه عليها ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على ظهر قتب)(17).
وعليه نلحظ أن الرسول(صلى الله عليه وآله) أكد على حقيقة أخرى وهو أن الازدياد هو الارتفاع في الحب بالنسبة للأشخاص، لذا حاول أن يجرد هذا الأمر من عقول المسلمين حيث ما زالت بعض الرواسب العقيدية السابقة في أذهانهم، أو من خلال التأثيرات التي قد تصيبهم.
وقد أشارت بعض المرويات التاريخية إلى ذلك فقد نقل عن الحارث بن مالك(18) قال خرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية قال فسرنا معه الى حنين قال وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما قال فرأينا ونحن نسير مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) سدرة خضراء عظيمة قال فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (الله أكبر قلتم، والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)(19).
وكان الرسول(صلى الله عليه وآله) قد منع المسلمين أن يزيدوا الاتصال بأهل الكتاب، لأنه كان يخشى على المسلمين أن يبث هؤلاء بسمومهم إلى الإسلام ولاسيما من قبل الذين تظاهروا به، وتذكر بعض الروايات أن الخليفة عمر كان على اتصال ببعض اليهود وكان يستمع إلى أخبارهم، فذكر ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وعن نيته في تدوين هذه الأحاديث، وما أن سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذا الكلام استشاط غضبا وعنفه وقال: (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى…)(20).
ذا ما علمنا ما كان لليهود من دور كبير في شبه الجزيرة العربية، ونستقرئ ذلك من خلال الخارطة الاستيطانية للمستوطنات اليهودية المنتشرة فيها حيث لم تخضع طوال تاريخها إلى أية سلطة سياسية حتى مجيء الإسلام الذي عمل جاهدا للحد من سيطرة هؤلاء وعلى مختلف المجالات ولاسيما الفكرية منها بعد أن دق هاجس الخوف والحيطة في نفس الرسول(صلى الله عليه وآله) لما سيلعبونه هؤلاء من دور خطير يهدد فيه البنية العقائدية والسياسية، وهذا ما أكده ولفستون أنّ اليهود تعمدوا في نشر قصص التوراة والتلمود بين العرب لأسباب سياسية ودينية(21)، مع العلم أن اليهود لم يؤثروا عقليا أو فلسفيا في المسلمين،لكنهم نجحوا في إدخال عناصر تخريبية لدى الفرق الخارجة عن الإسلام ـ الغالية ـ(22)، لذا أمر الرسول(صلى الله عليه وآله) أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان(23) >