هاشم جعفر الموسوي
وصفت الآيات القرآنية (19ـ32) من سورة النجم دأباً استحسنه المشركون، وهو بعيد كل البعد عن الحق، ذلك أنهم اتخذوا من دون الله أصناماً سموها باللات والعزى ومناة، وعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، زاعمين أن هذه الثلاث هن بنات الله، وقيل في سبب تسميتهم إياها: إنهم أرادوا أن يعظموا أسماءها، فسموا في مقابل (العزيز: العزى)، وفي مقابل (الله: اللات)، وفي مقابل (المنان:مناة)
لقد حاجّ القرآن الكريم هؤلاء المشركين بأسلوب ساخر مبيناً جهلهم وتماديهم في الباطل، لأنهم يزعمون أن المؤنثات لله، وأن البنين لهم، يبطلون الفخر بذلك، فجاءهم الرد الإلهي: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) سورة النجم/21ـ22، أي: أنتم تعطون المرذول في أنفسكم لله وتأخذون الجيد لكم، وهذا ما لا يفعله العقلاء الذين يقدمون للآلهة أفضل ما عندهم لا الأدنى، وهؤلاء فعلوا العكس فكانت قسمتهم في غاية البعد عن الحق، كيف لا وهي قسمة الجهلاء!
ولو كان ـ سبحانه ـ ممن يجوز عليه الولد لما اختار الأدنى وترك الأفضل (لَوْ أَرَادَ الله أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) الزمر/4، فهذا على تقرير جواز اتخاذ الولد لا على تقرير صحة وقوعه، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
لقد سفّه التنزيل العزيز أفكار هؤلاء فهم يزعمون أن البنت قيمتها دون قيمة الولد، ولو بشر أحدهم بالأنثى لاسود وجهه، وفي الوقت نفسه يجعل نصيب الله دون نصيبهم وهم يرون البنات عاراً وذلة ويئدونهن في القبر وفي الوقت ذاته يزعمون أن هذه الأصنام والأوثان ذات الأسماء المؤنثة بنات الله ويقدسونها ويلجأون إليها لحل مشاكلهم وهذا قمة التناقض والبطلان.
لقد تناول القرآن الكريم هذه الخرافات مستهزئاً بها منكراً إياها، ونجد الأفكار في صدر هذه الآيات، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) النجم/19ـ21، فالهمزة في (أرأيتم)، (ألكم) استفهام استنكاري مشوب بالاستهزاء (الثالثة) وصف لمناة، أفاد التأكيد، لأنها لما عطفت على الاثنين قبلها علم أنها ثالثهما في العدد. (والأخرى) نعت أفاد ذم (مناة) وهي المتأخرة عما قبلها، لأن (الأخرى) يستعمل في الضعفاء، كقوله تعالى: (…قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ…) سورة الأعراف/38، أي: ضعفاهم لرؤسائهم(2)، ومع توالي النعتين (الثالثة، الأخرى) دل التركيب على تحقير شأن هذه الثلاثة معاً، فليست هي إلا مجموعة أسماء، زعم المشركون أنها آلهة في حين أنها من أذل المصنوعات وقد دل الوصف (الثالثة) على أن هذه الأصنام شأنها في الحسبان واحد وكل منها يثلث صاحبيه، ولما وصف المتأخر منها بوصف أفاد التحقير وصغر الشأن والضعف وهو (الأخرى) طغى هذا النعت على السابقين أيضاً، فضلاً عن هذه الثلاث المجموع بعضها إلى بعض بواو العطف، والحكم الواقع على إحداها يقع على الأخريين.
ان القارئ لتشده إلى بعض النص القرآني لفظة (ضيزى)، فقد صنف في ضمن الألفاظ الغريبة في القرآن، لأنها لم ترد فيه إلا في هذا الموضع، ولأن العرب قبل الإسلام لم يتداولوها في كلامهم لوجود ما يدل على معناها في لغتهم. وقد اضطرب اللغويون(3) في الأصل الذي أخرجت اللفظة منه، فبسطوا بحثهم فيها تحت ثلاثة أصول هي: (ضَوَزَ، ضَيَز، ضأَزَ) ثم إنهم جمعوا ما استعملته العرب من هذه الأصول على معنى واحد يدور حول: الجور والظلم والتحقير، فالقسمة الضيزى: هي الناقصة أو الجائرة، جاء في لسان العرب: ضازني يضوزني: إذا نقصني، وضاز في الحكم، أي: جار، وضازه، صفة، يضيزه ضيزاً: نقصه وبخسه ومنعه، ومن هنا فسرت اللفظة بـ(العوجاء، والجائرة، والظالمة، والباطلة، والفاسدة، وغير الجائزة)(4).
ونجد ذلك في المفردات التي استحضرها المفسرون مرادفات لـ(ضيزى) للحفاظ على الفاصلة القرآنية وليس من الحكمة الركون إلى الفاصلة القرآنية في تلمس السبب الذي من أجله وردت اللفظة في موضوعها الفريد هذا، ويمكن القول، فضلاً عما ذكره البلاغيون:
1ـ إن دوي (الضاد) وشدته وانفجاره ثم تفشي الزاي المهجور واستطالة الصوتين في المقطعين (ضي) و(زا) له جرس يحاكي صوت الإعلان القاطع لنقصان هذه القسمة عن مبدأ العدل وأنها جائرة، ظالمة، فاسدة، غير جائزة.
2ـ إن تفرد ضيزى بين ألفاظ القرآن الكريم أمر يومئ إلى أن ما جاء به هؤلاء ليس له نظير في القبح بين الأفعال البشرية، كما أن ضيزى لم يألفها العرب ولم يتكلموا بها من قبل.
3ـ إن المشتركين سموا أصنامهم بنات الله زاعمين أن الله أبوها وحين تقرن هذه الخرافة إلى خرافة أخرى وهي أن الله له البنات وأن لهم البنين، فإن التضاد الواقع بين هاتين الخرافتين خير من يصوره ويوحي به هو التنافر بين (الضاد والزاي) في جرس (ضيزى) فكلاهما صوت أسناني لثوي مجهور، ومع اتفاقهما مخرجاً ولا فاصل بينهما سوى المد، نشأ التنافر الصوتي بينهما وهو تنافر ينبئ عن نفور الذوق السليم من القسمة التي ارتضاها هؤلاء >
———————————————————————————————————————