هناك مفاهيم وأفكار لمفردات وردت على ألسن كثير من المتكلمين قديماً وحديثاً، وأخذت شكلها ومضمونها الذي صيغت به وضمن قواميس اللغة والمعاجم، وقد عرفها القدماء والمحدثين تعاريف تتسم ـ غالباً ـ بالدقة والشمولية، ثم تعارف الناس عليها وعلى استخداماتها. إلا أن هذه المفاهيم لها معان أعمق وأعم وأشمل في فكر أهل البيت(عليهم السلام)، وهذا العمق والشمولية نابع من رؤيا أهل البيت(عليهم السلام) لتلك المفاهيم على أن لها درجات ومراتب، فهناك حد أدنى لذلك المفهوم وهناك حد أعلى له، وله مراتب بين هذين الحدين. قد نقرأ أحياناً تعريفاً لمفهوم معين، ثم نقرأ تعريفاً آخر قد يختلف بعض الشيء عن نفس المفهوم لإمام آخر أو لنفس الإمام، فلا غرابة في ذلك إذا علمنا أن كل تعريف قيل في ظرف معين قد يختلف عن ظرف تعريف الآخر، إلا أن جميع تلك التعاريف لا تخرج عن إطار الحد الأدنى والحد الأعلى لذلك المفهوم.
ومن الجدير بالذكر،أننا حينما نقول فكر أهل البيت(عليهم السلام)، إنما نقصد به الفكر الإسلامي الأصيل النقي الخالي من الشوائب، المجرد من الاجتهادات والأهواء، الفكر الذي أنزله الله على رسوله الأمين محمد(صلى الله عليه وآله)، ليكون الأطروحة الإلهية المنزلة إلى البشر. وهذه محاولة منا للتعرف على بعض هذه المفاهيم وما شاع من مداليلها، وكذلك رؤيا أهل البيت(عليهم السلام) أو الإسلام الحقيقي حيال هذه المفاهيم والأفكار.. وفي كل حلقة نستعرض أحد هذه المفاهيم وما شاع من فهمها، ثم نرى رأي أهل البيت(عليهم السلام) بها.
سنتحدث اليوم عن مفهوم (الزهد). لقد وردت روايات كثيرة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام)، تبين أهمية الزهد والزاهد وتبين منزلته ومكانته في الإسلام، وهذه بعض هذه الروايات :
1 – عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : (ما اتخذ الله نبياً إلا زاهداً)(1).
2 – وعنه(صلى الله عليه وآله): (ما عبد الله بشيء أفضل من الزهد في الدنيا)(2).
3 – عن الإمام علي(عليه السلام): (الزهد شيمة المتقين وسجية الأوابين)(3).
4 – وعنه(عليه السلام): (إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا)(4).
5– عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا)(5).
وهناك العشرات من الروايات الواردة التي تمتدح الزهد والزهاد وتعتبره أصل الدين وثمرته وعونه وأساس اليقين وإن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا.
ولكن ما هو الزهد؟ ومن هو الزاهد؟!
لقد وردت تعاريف كثيرة للزهد وللزهاد فقال بعضهم: (الزهد هو: الرخيص والقليل والحقير وما إلى ذلك) أو: (هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، وهو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف) أو: (حب الفقر) أو: (ترك ما يشغل عن الله)أو: (استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب) وكل ذلك لا يخلو من الصحة. فحينما يذكر الزهد يتبادر إلى الذهن حالة البساطة التي يعيشها الزاهد، والتواضع في العيش من مأكل وملبس وتنقل، وقد دأب الزهاد على العيش بأكل القليل البسيط ولبس اللباس المتواضع بعيداً عن الأناقة والفخامة. أي بتعبير آخر: إن الزاهد هو ذلك الشخص الذي يلبس الخشن من اللباس ويأكل الفتات من الطعام ولا يملك شيئاً من حطام الدنيا،كالمال والعقار وغيرها، ليعفى من المسؤوليات والحقوق المالية المترتبة عليه. والزاهد هو المبتعد عن الناس ومشاكلهم فلا يتدخل في حل مشكلة كما لم يُحدِث مع أحد مشكلة، والزاهد هو المتخلي عن أهله وعياله، لألا يشغله ذلك عن العبادة والانقطاع إلى الله سبحانه.
هذا ما شاع وما عرف عن الزهد والزاهد،ولكن هل هذا هو الزهد، وهل هذا هو الزاهد في فكر أهل البيت(عليهم السلام)؟
مما لا شك فيه أن هذا الفهم للزهد فهم ناقص ومتطرف إذا عرضناه على تراث وفكر أهل البيت(عليهم السلام)، وأول تعريف للزهد عند أهل البيت(عليهم السلام)،أو الحد الأدنى للزهد، هو قول الإمام زين العابدين(عليه السلام): (يقول الله: يا ابن آدم ارض بما آتيتك تكن من أزهد الناس)(6)، فالزهد هو الرضى بما قسم الله،وعليه فإن امتلاك الأموال لا يتعارض مع الزهد مطلقاً إذا رضي الإنسان بما رزقه الله.وهذا أول الزهد أو الحد الأدنى للزهد في فكر أهل البيت(عليهم السلام). ثم تأتي مراتب أعلى للزهد، يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل)(7)، بمعنى أن يكون في يدك شيء، كل شيء، ولكن لا تكن ثقتك به وإيمانك ببقائه أكثر مما في يدي الله سبحانه. فهذا أحد أصحاب الإمام علي(عليه السلام) جاء يشكو أخاه إلى أمير المؤمنين قائلاً: (يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال وما له؟ قال لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليَّ به. فلما جاء قال: يا عَدِيَّ نفسه لقد إستهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك)(8). ومرتبة أخرى من مراتب الزهد على لسان أمير المؤمنين(عليه السلام). فيقول: (الزهد كله في كلمتين من القرآن، قال الله تعالى: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)(9). (فمن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فهو الزاهد). ثم مرتبة أخرى للزهد يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أزهد الناس من اجتنب الحرام)(10)، وعن الإمام علي(عليه السلام): (لا زهد كالزهد في الحرام)(11). وهكذا نرى درجات ومراتب الزهد في كل تعريف للزهد إلى أن يصف لنا الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) الزهد بأعلى مراتبه فيقول: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، ولكن الزهد أن لا يملكك شيء)(12).
فأعلى مراتب الزهد هو التحرر من ربقة العبودية لكل شيء، سواء كان هذا الشيء مال أو جمال أو قوة أو جاه أو سلطة أو أي شيء يتحول إلى إله يعبد من دون الله، وإلى سيد يطاع، فيملك رقبة صاحبه ليحركه بأي اتجاه شاء. فإذن نخلص من كل ما تقدم أن الزهد يبدأ من الرضى بما قسم الله، مروراً بالثقة بما عند الله واجتناب ما حرم الله وينتهي بالتحرر من عبودية كل شيء. وأما (أفضل الزهد فهو إخفاء الزهد)(13)، كما ورد ذلك عن أمير المؤمنين(عليه السلام) >
(1) ميزان الحكمة ـ محمد الريشهري ـ ج 2 ص857. عن مستدرك الوسائل 12/51/13488.
(2) كنز العمال ج 3 ص 203.
(3) ميزان الحكمة ـ محمد الريشهري ـ ج 2 ص857.عن غرر الحكم 1713ـ 550.
(4) الكافي للكليني ج2 ص 128.
(5) ميزان الحكمة ـ محمد الريشهري ـ ج 2 ص857.عن البحار 73/49/20 .
(6) بعض ماورد من سيرة الإمام زين العابدين(عليه السلام)
(مركز المصطفى).
(7) البحار 77/172/8 و70/310/4.
(8) نهج البلاغة ج2 ص 187 ت209.
(9) البحار78/ 70/27 و70/320/35.
(10) أمالي الصدوق 27/4.
(11) نهج البلاغة ـ الحكمة 113.
(12) ميزان الحكمة ـ محمد الريشهري ج4 ص 2990.عن الدرة الباهرة29.