مؤسسة تراث الشهيد الحكيم
أهداف صلح الإمام الحسن(ع)
لقد تمكن الإمام الحسن(عليه السلام) من تحويل هذا الصلح الذليل الذي أرادته الأمة على كل حال إلى صلح هادف والى عملية سياسية قوية تمثل أفضل سياسة يمكن أن يقوم بها قائد حكيم .
إن الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن يؤمن بهذا الصلح، وقد كان مجبورا عندما هادن، ولكنه لم يترك الأمور تجري كما هي، فيمارس العزلة عن الساحة ويترك الأمة لمصيرها المجهول، بل واصل(عليه السلام) المسيرة وقيادة الأمة، وحقق انجازات معينة، وسوف اذكر بعض النقاط من اجل أن أعطي صورة واضحة لهذه الحقيقة:
أولا: حفظ الجماعة الصالحة
إن أئمة أهل البيت (سلام الله عليهم) كانوا يخططون من اجل وجود الجماعة الصالحة في جسم الأمة الإسلامية من ناحية، ويخططون من اجل بقائها واستمرارها كقوة وطاقة تحرك الأمة الإسلامية في كل تاريخها وفي كل مقاطع حركتها من ناحية أخرى، وعندما أقول الجماعة الصالحة لا اقصد بذلك الجانب المذهبي في هذه الجماعة، فلأهل البيت (سلام الله عليهم) حركتين رئيسيتين في الأمة:
الأولى: الحركة الفقهية العقائدية المتمثلة بمذهب أهل البيت، وتتمثل برجوع أتباعهم إليهم كمراجع فكريين لهم في مختلف الشؤون، ويمكن أن نعبر عن هذا الجانب بالجانب المذهبي لأهل البيت.
الثانية: الحركة السياسية التي تنطلق من مفاهيم العزة والكرامة الإنسانية، وأن الحكم لله لا للطاغوت، وأن الحكم الشرعي هو الحاكم في حياة المسلمين لا حكم كسرى وقيصر، وهذه الحركة كانت لها تأثيرات واسعة كبيرة حتى على مستوى المسلمين الذين لا يتمذهبون بمذهب أهل البيت(عليهم السلام)، واحد الأمثلة الواضحة الرائعة على ذلك في تاريخ المسلمين، موقف أبي حنيفة الذي يمثل احد أئمة المذاهب الأربعة الرئيسية في مجمل الحالة الإسلامية القائمة، فالإمام أبو حنيفة كان في فكره المذهبي والعقائدي يختلف إلى حد كبير عن فكر أهل البيت (سلام الله عليهم)، ولكنه على المستوى السياسي كان محسوبا على خطهم (سلام الله عليهم)، ولذلك نجد أن أبا حنيفة اعتقل من قبل المنصور وعذب في سجونه، وطورد في الكثير من المواقف لأنه كان يتبنى في مواقفه السياسية مواقف أهل البيت بشكل عام، وقد كان معروفا عنه أنه من الموالين لحركة زيد بن علي السجاد (سلام الله عليه).
ولذا نجد أن العباسيين عندما أرادوا أن يقضوا على الأمويين، رفعوا نفس الشعارات التي كان يرفعها أهل البيت (سلام الله عليهم) في الدعوة للرضا من آل محمد.
إن الإمام الحسن (سلام الله عليه) قام بعمل عظيم في حفظ الجماعة السياسية التي كانت تتبنى هذا المنهج، سواء ممن والوا عليا(عليه السلام) والتزموا بخطه أم من غيرهم، وهذه الجماعات لم تكن متميزة في أيام الخلفاء الثلاثة من الناحية السياسية، باعتبار أن الإمام علي(عليه السلام) لم يكن له دور سياسي واضح يتحرك على الأمة بشكل عام، وإنما كان يعيش في وسط المدينة، ولكنه عندما تولى الخلافة أصبحت هذه الجماعة متميزة في أفرادها وفي شعاراتها وفي حركتها وفي التزاماتها من خلال حركة الإمام علي(عليه السلام) والمعارك التي خاضها.
ومعاوية كان يعد العدة من اجل القضاء على هذه الجماعة واستئصالها وإبادتها من اجل أن يحول الحكم الإسلامي إلى حكم قيصري متأثر بدور القياصرة الذين كانوا يحكمون في الشام، ومتأثر أيضا بالمخلفات التي ورثها من العهود الجاهلية لأسباب عديدة، فقد كان معاوية يرى بأن هذا الخط السياسي الذي أوجده الإمام علي(عليه السلام) ورباه تربية كاملة يمثل الخطر والتهديد الحقيقي لأهدافه؛ لأنه كان بمثابة صمام الأمان للحركة السياسية للأمة الإسلامية، والضمانة التي تضمن استمرار الإسلام والأمة الإسلامية في طريق الهدى والصلاح، ومن هنا وجدنا بأن مجمل الشروط التي وضعها الإمام الحسن(عليه السلام) في الصلح تستهدف المحافظة على هذا الخط .
ولذلك – ومن خلال بعض النصوص التاريخية – نجد أن معاوية لم يجرؤ على القيام بعملية قمع وأباده واسعة لهذا الخط ما دام الإمام الحسن(عليه السلام) موجودا، ولكنه بدأ بهذه العمليات بعد استشهاده(1).
ثانياً: كشف الحقائق
لقد تمكن الإمام الحسن(عليه السلام) من خلال هذا الصلح أن يحقق جانبا مهما جدا، وهو كشف حقيقة معاوية، وقد قام الإمام الحسن(عليه السلام) بذلك بشكل رائع، فهو:
أولاً: لم يوافق على أن يبايع معاوية على انه أمير المؤمنين، وبالتالي لم يعترف بشرعية هذه الإمارة مطلقا.
ثانياً: قام بوضع شروط على معاوية، وكان الإمام(عليه السلام) يعرف أن معاوية سوف يخرق هذه الشروط، وبذلك تنكشف حقيقته للمسلمين، ومن هذه الشروط –مثلا- الامتناع عن سب علي(عليه السلام)، وإعطاء الحقوق والأموال إلى جميع عوائل الذين استشهدوا مع علي(عليه السلام) في الحروب الثلاثة: (الجمل، وصفين، والنهروان)(2) إلى غير ذلك، مضافا إلى دور الإمام الحسن(عليه السلام) شخصيا في المناقشات والمحاججات التي كان يخوضها، وفي التاريخ يوجد تراث واسع وكبير جدا يركز على جانب الاحتجاجات التي كان يقوم بها الإمام الحسن(عليه السلام) في الأوساط الأموية بشكل عام، ومع قطع النظر عن مقدار صحة هذه الاحتجاجات ودقتها، فان الشيء الذي يمكن أن نستفيده من خلال فحص هذه الروايات التاريخية، هو أن الإمام(عليه السلام) قام بقيادة حملة إعلامية واسعة في هذا المجال، وكان لهذه الحملة تأثير كبير جدا في أوساط المسلمين(3)، فالإمام الحسن قام بعملية تطويق لمجمل حركة الأمويين واوجد القوة المضادة لوجودهم في جسم الأمة.
وقد انكشفت الحقيقة بصورة عامة في الظروف التي كان يعيشها المسلمون في زمن معاوية، وانكشفت بصورة كاملة عندما جاء يزيد إلى الحكم كخليفة له، وكل المسلمين عرفوا أن القضية الإسلامية تحولت إلى قضية كسروية قيصرية ترتبط بالحاكم الظالم المطلق الذي يحكم الناس بـ(ما أريكم إلا ما أرى) كما عبّر القرآن الكريم عن حالة فرعون، فالحق هو ما يراه، أما حق الله وحق الناس والعدل والقسط فهي قضايا لا يؤمن بها الحاكم.
إن من أهداف السياسة الإسلامية المهمة توضيح الحقيقة للناس وبيان المعرفة لهم، وبعد ذلك يمكن أن ينفتح الطريق أمام المسائل والأعمال الأخرى.
ثالثاً: حفظ الأمة الإسلامية
لقد كان الإمام الحسن(عليه السلام) احد العناصر المهمة في المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية وعزتها، وجعلها قادرة على مواجهة التهديدات الخارجية من قبل الدولة الرومانية في ذلك الوقت، بسبب الظروف التي وقعت بينها وبين المسلمين في أيام عثمان بن عفان.
مظلومية الإمام الحسن(ع)
لقد كتب على هذا الولي الزكي منذ ولادته أن يكون مظلوماً في حياته وبعد وفاته، مظلوماً في العواطف والأحاسيس ومظلوماً في التقييم والتحليل لحياته، وهذه المظلومية يلاحظها الإنسان بشكل واضح عندما يقرأ في التاريخ ما جرى عليه حتى في زمن أبيه (صلوات الله وسلامه عليه)، حيث يبدو أن هناك مؤامرة وتخطيط من جهات كانت تستهدف الإمام بشائعات وبأحاديث مؤذية له ولأمير المؤمنينH(4).
ثم إن الإمام الحسن(عليه السلام) كان مظلوما من قبل أصدقائه وأتباعه فضلا عن الأعداء، فقد ورد عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) انه قال: (جاء رجل من أصحاب الحسن(عليه السلام) يقال له سفيان بن ليلى وهو على راحلة له فدخل على الحسن وهو محتب(5) في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال له الحسن: انزل ولا تعجل، فنزل فعقل راحلته في الدار ثم أقبل يمشي حتى انتهى إليه، قال: فقال له الحسن(عليه السلام): ما قلت؟ قال: قلت السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وما عِلْمُك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأمة فحللته من عنقك وقلدته هذا الطاغية يحكم بغير ما انزل الله، قال: فقال الحسن(عليه السلام): سأخبرك لِمَ فعلت ذلك، سمعت أبي يقول: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لن تذهب الأيام والليالي حتى يلي على أمتي رجل واسع البلعوم رحب الصدر يأكل ولا يشبع وهو معاوية فلذلك فعلت(6)، ما جاء بك؟ قال:حبك، قال: الله(7)، قال:الله، قال: فقال الحسن(عليه السلام): والله لا يحبنا عبد أبدا ولو كان أسيراًُ في الديلم إلا نفعه الله بحبنا، وان حبنا ليساقط الذنوب من ابن ادم كما يساقط الريح الورق من الشجر)(8).
ان هذا الامر كان ثقيلا جدا على نفس الامام الحسن(عليه السلام)، وكان من الاسهل له ان يقتل كما قتل اخوه الحسين(عليه السلام) من ان يركب مثل هذه المصاعب التي أدت الى ان يُقال له: (السلام عليك يا مذل المؤمنين) من قبل خالص اصحابه الذين اتخَذَ من اجلهم هذا القرار، فقد يتوقع الإنسان الأذى من أعدائه، أما أن يأتيه الأذى من محبيه المؤمنين به والقريبين إليه؛ فهذا مما لا يتوقعه الإنسان عادة.
لذلك كان الشيء الظاهر من شخصية الإمام الحسن(عليه السلام) الحلم والصبر اللذان تعامل بهما مع مثل هذه الظواهر الاجتماعية، فهو حليم آل محمد(صلى الله عليه وآله).
ومن الأمور التي تعرض لها الإمام الحسن(عليه السلام) ولم يتعرض لها أئمة أهل البيت، انه كان يسمع شتم أبيه(عليه السلام) في مجلس معاوية من قبل الحاقدين والمبغضين الذين كانوا ينصبون العداء لرسول الله(صلى الله عليه وآله) منذ الصدر الأول للإسلام، وكان عليه أن يدخل هذا المجلس ويتعامل مع هؤلاء من خلال ذلك الحلم.
وفي بعض الروايات أن مروان بن الحكم كان يصعد المنبر في المدينة ويشتم علياً(عليه السلام) والإمام الحسن جالس تحت المنبر لا يقول شيئا، ولا شك بان هذا كان أثقل وأصعب واعز على الإمام الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) من أن يستشهد في معركة ضد معاوية.
وظلامته(عليه السلام) لم تقتصر فقط على أيام حياته، وإنما امتدت بعد استشهاده، فان الشعائر التي تقام في ذكرى وفاته محدودة جدا، وعندما يقف الزائر في أيام الحج على قبر الإمام الحسن(عليه السلام) يتقطع قلبه وتأخذه العبرة لمجرد مشاهدة منظر هذا القبر الشريف المهدوم.
في الواقع لا يوجد أي تفسير لظلامة الإمام الحسن إلا قضية الإسلام، فالإمام الحسن(عليه السلام) عاش من اجل قضية الإسلام والدفاع عنه وعن الجماعة الصالحة المتمثلة بشيعة أهل البيت(عليهم السلام).
هدنة الحسن وثورة الحسين
لو كان الإمام الحسين(عليه السلام) في موقع الإمام الحسن(عليه السلام) لهادن معاوية كما فعل الإمام الحسن، ولا أقول ذلك من منطلق عقائدي(9)، وإنما أقوله من تحليل للدور التاريخي، فدور الإمام الحسن(عليه السلام) هو دور التمهيد وتحقيق الأهداف التي ذكرناها وامتصاص حالة الإحباط التي كانت يعيشها المسلمون حتى تتهيأ الظروف لثورة الإمام الحسين، وكان على الإمام الحسين أن لا يستمر بنفس الطريقة التي سار بها الإمام الحسن(عليه السلام)، حتى يرفع مِن ذهن المسلمين ما قد يُتَصوّر من أن المنهج الثابت لأهل البيت هو منهج الإمام الحسن-دور السكوت والهدنة مع الظالم- فلابد لكل واحد منهما أن يقوم بدور يكمل فيه دور الآخر.
فالامام الحسن(عليه السلام) ابقى جماعة بوجودها المادي كعناصر وبشر، والامام الحسين تمكن من ان يجعلها جماعة باقية بوجودها المعنوي الواعي المدرك للحقائق القادر على تحمل المسؤوليات الكبيرة في مواجهة الصعاب، فحملت هذه البقية الباقية راية الاسلام الاصيل المتمثل بمذهب اهل البيت(عليهم السلام) وناضلت وجاهدت وكافحت عبر القرون وامام كل المصاعب دون هوادة، لان الجماعة حُفظت في نفسها وفي وجودها وفي وعيها واستمرت حتى يومنا الحاضر، وتمكنت من ان تبقى-ليس كجماعة محاصرة فقط، وانما كجماعة قادرة على ان تتوسع وتنتشر في الارض باستمرار ويعلو صوتها يوماً بعد يوم-.
عندما استشهد الإمام الحسن(عليه السلام) وطلب أهل الكوفة من الإمام الحسين(عليه السلام)
أن يخرج على معاوية، امتنع باعتبار أن الإمام الحسن التزم مع هذا الإنسان بمعاهدة، وبقى الإمام الحسين(عليه السلام) عشرة سنوات وتزيد ساندا لهذه الهدنة حتى وفاة معاوية.
فالحسين التزم بما التزم به الحسن في هذا الموضوع، لان الواجب الشرعي يفرض على كلا الإمامين ذلك.
وعندما تغير التكليف الشرعي بعد وفاة معاوية، نجد أن الإمام الحسين(عليه السلام) قام بنفسه بتلك الثورة العظيمة التي بقيت في التاريخ الإسلامي والإنساني إلى هذا اليوم-وستبقى إلى يوم القيامة- وهذه حقيقة يجب أن نفهمها(10).
كما ان احد مقومات نجاح نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) وتأثيرها المهم، الرأي العام الذي كان موجودا ومطالبا بالنهوض والثورة، وقد كان لموقف الإمام الحسن(عليه السلام)
فضل في تكوين هذا الرأي العام، فأولئك الذين قالوا للإمام الحسن باجمعهم: (البقية والحياة) هم بأنفسهم الذين اخذوا يكاتبون الإمام الحسين ويدعونه للثورة، ليس فقط عندما هلك معاوية، وإنما بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السلام) بلا فاصل كما يؤكد التاريخ على ذلك، مما يعني أن الأوضاع أصبحت مهيأة في الوسط الإسلامي للتحرك والنهضة، فالكوفة ومكة والمدينة ثارت، والبصرة واليمن كانتا مهيأتين إلى حد كبير لذلك، الأمر الذي يعني أن الإمام الحسن(عليه السلام) تمكن من خلال منهج متكامل أن يحقق هدفا عظيماً، هو تهيئة الأمة الإسلامية لمواصلة مسيرتها في المواجهة >
—————————————————————————————————————–