طالما تعرض الأنبياء والمصلحون والعظماء والمبدعون على اختلاف درجاتهم لحسد الحاسدين وبغض المناوئين وحقد المتضررين عند تطبيق الشرائع والقوانين والمفاهيم الإصلاحية، كل حسب درجة تفوقه، وسمو منزلته، وتأثيره في ميزان الحياة.
ولا يظهر ذلك جلياً إلا في زمن التردي وتسلط الجبارين الذين يخشون الحق، وينفرون من الحقيقة. إنهم لا يملكون أسباب الخير والحكمة، ويسعون جادين لتشويه كل جميل لقبح سريرتهم وفراغ محتواهم من الفضيلة. ولأجل أن يقنعوا أنفسهم بأنهم شيء، لا يتركون عَلَماً أو رمزاً أو أنموذجاً عظيماً إلا وألصقوا به عيوبهم وأدرانهم، ظناً منهم أنهم هم الغالبون، وما علموا أن الله يظهر الحق ولو بعد حين.
وهكذا كان الأمر مع أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي عُرف بدوره المتميز في حماية الإسلام وإرساء قواعده بقوة إيمانه وفدائيته وعلمه ونزاهته وفروسيته النادرة.
وحين يكون الدين الجديد ناسخاً لما قبله من العقائد، ومبطلاً للسيء من السنن والعادات والمعاملات فلا يسلم من الأعداء، ولذا ينبغي أن يكون للسيف دور لم يكيد للإسلام والمسلمين، فكان لذي الفقار القدح المعلى في حماية القيم والأخلاق والشرائع التي جاء بها الوحي الأمين. ومن أن يتصدى الحاقدون والمتضررون للإمام علي(عليه السلام) بكل ثقلهم ويحرموه من حقوق كثيرة…
وبعد استشهاده(عليه السلام) تولى أعداؤه مهمة طمس فضائله والكذب والوضع والطعن فيه. وكان التشهير بوالده أبي طالب(عليه السلام) واتهامه بعدم الإيمان بالإسلام، من جملة الوسائل التي حاربوه بها. ونسبوا أن أبا طالب كفل رسول الله(صلى الله عليه وآله) قبل التكليف بالنبوة، وقد رباه في بيته وأحاطه بالحنان والدعة وحسن التربية، حتى كأن الله (تبارك وتعالى) لما اختار رسوله من بني هاشم اختار لتنشئته هذا العم الكريم، وكان الله تبارك وتعالى قد هيأ لأبي طالب أن يعلم من أمر ابن أخيه ما لا يعلمه غيره(1). فتولى حمايته عندما صدع بالدين الحق.
لقد ذهب البعض إلى أن عدم إعلان أبو طالب لإسلامه يدلّ على أن مات وهو على غير دين الإسلام، وهذا مردود مرفوض لأن عدم إعلان الشيء لا يدل على عدم حصوله. كما أن المروجين لهذه الفرية اعتمدوا مصادر معروفة بانحرافها وبمواقفها السلبية من الإمام علي(عليه السلام)، في حين وردت عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ـ أخبار صريحة تؤكد إسلام أبي طالب وأنه مكذوب عليه.
ولو سلمنا جدلاً بعدم إعلان أبي طالب إسلامه في تلك الظروف، ألا يعني ذلك أن العناية الإلهية قد ألهمته ذلك الموقف؟ لأن إعلان إسلامه يفقده القدرة على حماية الرسول(صلى الله عليه وآله) ويصبح أمام قريش كأحد أتباع محمد(صلى الله عليه وآله) فيسهل عليهم قهره وتجاوز حدوده. لقد سد الطريق أمام قريش، وحمى الإسلام والمسلمين بشخص الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله).
إن إسلام أبي طالب تؤكده المواقف الصعبة التي وقفها إبان بزوغ فجر الرسالة. وليس عسيراً الرجوع إلى الحوادث اليومية والأحداث الجسام التي كان لأبي طالب دور متميز فيها. وإن البداية تشير بوضوح إلى استقرار ضميره وثقته بنهج ابن أخيه. فعندما وجد ولده (علياً(عليه السلام)) قد صدق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وآمن بدعوته لدين الإسلام قال له: (يا بني إنه لم يدعُك إلا إلى خير فالزمه)(2).
وحين شاهد أبو طالب رسول الله(صلى الله عليه وآله) يصلي والى جانبه علي(عليه السلام) أمر أبو طالب ابنه جعفر بقوله: صل جناح ابن عمك(3). فما الذي دفعه لزج ابنه الثاني في هذه المنازلة بين الإيمان والشرك، وهل في الوجود أغلى من الولد؟! إنه الإيمان الصادق. قال أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام): كان والله أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب مؤمناً مسلماً يكتم إيمانه مخافة على بني هاشم أن تنابذها قريش(4).
ولما اشتد الأمر على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وظن أن لا حامي له، وبان الحزن على محياه الشريف قال له عمه أبو طالب: (اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً)(5).
ثم موقفه الصلب من قريش ومشاركة النبي(صلى الله عليه وآله) والمسلمين سني العسر في شعب أبي طالب، وما عانوه من وطأة الحصار والجوع. وحين أبلغه النبي(صلى الله عليه وآله) بمصير (الوثيقة) توجه أبو طالب إلى قريش بثقة عالية بصدق نبوءة ابن أخيه. وقد ظهر الحق أمامه.
ولم يختلف اثنان في إصرار أبي طالب على الوقوف إلى جانب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونصرته، وحمل السيف في سبيل نجدته حتى قال الرسول(صلى الله عليه وآله): (ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب).
قال ابن أبي الحديد: وجاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه(عليه السلام) وقيل له: اخرج منها فقد مات ناصرك(6). والوحي لا يأتي إلا بأمر الله جل جلاله. وهذا يعني أن أبا طالب قد نال رضا الله وتأييده بدليل التصريح بكونه ناصر النبي(صلى الله عليه وآله).
فعلى أي دين كان أبو طالب إن لم يكن على دين الإسلام؟ وكيف نفسر نصرته للإسلام ذلك الدين الذي دعا إلى التوحيد وتكفير من تديّن بغيره. قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)(7)، وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)(8).
لماذا لا ينتصر لدينه ولو بكلمة إن كان له دين آخر. فهل كان أبو طالب بلا دين؟
(… وعندما ماتت فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب وأم الإمام علي(عليه السلام) كفنها رسول الله(صلى الله عليه وآله) بقميصه، وحفر لها لحدها بيده الشريفة واضطجع فيه، ودعا لها. فقيل له يا رسول الله رأيناك صنعت شيئاً لم تصنه بأحد قبلها؟ قال(صلى الله عليه وآله) لأنها كانت من أحسن خلق الله صنعاً بعد أبي طالب)(9) فجعلها ـ على مالها من منزلة عظيمة عنده ـ بعد أبي طالب بالمرتبة. فهل يفضل النبي(صلى الله عليه وآله) مشركاً على مسلمة مؤمنة؟! ثم إن فاطمة بنت أسد كانت في عصمة أبي طالب حتى وفاته(10).
ومن المعلوم المشهور أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يحب عمه أبا طالب. فلو كان كافراً لما جاز له أن يحبه، وقد نهى القرآن المجيد عن محبة الكافر كأن من. قال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)(11).
دعنا نتوجه بالسؤال إلى غير المسلمين، إلى بولص سلامة أو جبران أو جورج جرداق وأمثالهم فنقول لهم: كيف توصلتم إلى معرفة إسلام أبي طالب؟ فجوابهم هو: إن الأطراف المحايدة لا يعنيها إلا الحقيقة، بينما نجد بعض من وقع تحت وطأة داء العناد من المسلمين كالكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد يقول: (حكي عن هشام بن السائب الكلبي عن أبيه في رواية لا نثبتها ولا ننفيها). ولم يذكر سبباً مقنعاً أو غير مقنع لهذا التردد. ثم ذكر الرواية التي تقول:
إن أبا طالب لما أحس بالموت جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش إني أوصيكم بمحمد خيراً فإنه الأمين في قريش والصدّيق في العرب. وهو الجامع لكل ما أوصيكم به. وقد جاء بأمر قَبلَه الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديها أذناباً ودورها خراباً وضعفاؤها أرباباً، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم عنه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها وأعطته قيادها. يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحدٌ سبيله إلا رشد ولا يأخذ بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدّة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدفعت عنه الدواهي(12).
ومن صنف المعاندين أو المنحرفين عن جادة الحقيقة أيضاً الكاتب المصري المعروف أحمد أمين، الذي يقول في كتابه (الأخلاق) في معرض حديثه عن الشجاعة الأدبية: (حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء إليه عمه أبو طالب ينصحه بالعدول عن دعوة الناس. فقال له: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني…).
والحقيقة التي غابت عن أحمد (أمين): أن أبا طالب لم يكن قد جاءه ناصحاً بل جاءه عارضاً ما جاءت به قريش. فهو الأمين في نقل الدعوى وهو الأمين في رد الجواب. ولم يكن أحمد أمين أميناً في نقله وقصده. وإن أبا طالب لم يحاجج أو ينصح في أي أمر معروض على رسول الله(صلى الله عليه وآله) بل كان مؤيداً ومنافحاً، وقد حمل السيف للدفاع عن الرسول(صلى الله عليه وآله) ودينه، ولم يكن مرتاباً في صحة دعوة الرسول وصدق رسالته حتى نصحوه بالعدول عنها بل هو الذي قال لولده علي(عليه السلام): يا بني إنه لم يدعُك إلا إلى خير فالزمه.
كيف يكون الإيمان إذن؟ أليس غريباً أن يُعد الطلقاء الذين حاربوا الإسلام والمسلمين عشرين عاماً، مسلمين لقولهم بالشهادتين في ظروف معروفة ولا يُعد أبو طالب مسلماً برغم مواقفه التي أوصلت الإسلام إلى بر الأمان؟! علماً بأنه قالها فعلاً ـ الشهادتين ـ بشهادة الصحابة وآل البيت(عليه السلام)(13).
وعلى سبيل المقارنة نذكر ما نقله الأستاذ الدكتور شوقي ضيف(14)
فقال: (…ففي أخبار سويد بن الصامت أنه قدم مكة حاجاً أو معتمراً فتصدى له رسول الله(صلى الله عليه وآله) فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان، يعني حكمة لقمان، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أعرضها عليَّ فعرضها عليه، فقال(صلى الله عليه وآله): إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله عليَّ وهو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد وقال: إن هذا القول حسن ثم انصرف. ثم وفد المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج. فكان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه مات مسلماً. فلماذا لا يكون حامي الرسول(صلى الله عليه وآله) والمدافع عنه مسلماً؟ هل وجد الحاقدون موقفاً أو كلمة أو تصرفاً لأبي طالب يتعارض مع الدين الجديد أو يختلف مع نهج الرسول(صلى الله عليه وآله) ودعوته؟! كلا، لم يجدوا إلا التأييد والدفاع إلى آخر يوم من حياته(رحمه الله) بيدَ أنه والد علي ليس غير.
وحين ينحدر الوجدان إلى مستنقع التعصب، يذهب بعض المفسرين لكتاب الله المجيد إلى أن أبا طالب هو المقصود بما جاء في سورة الأنعام: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه ينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون). يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: فقد وهم أولئك المفسرون فلم يكن أبو طالب ممن يلقون النبي(صلى الله عليه وآله) ليجادلوه فيصدق عليه ذلك التفسير. واضح من خطأ هؤلاء المفسرين هنا ظنهم أن أبا طالب مقصود بعد وفاته بقوله تعالى في سورة القصص: (إنك لا تهدي من أحببت) فإن سورة الأنعام قد نزلت بعد سورة القصص كما جاء في كتاب الإتقان، فلا هداية ولا جدال ولا نهي عن أذى النبي بعد الوفاة(15).
وذكر الطبرسي في تفسيره للآية (26) من سورة الأنعام: قد ثبت إجماع في تفسيره للآية (26) من سورة الأنعام: قد ثبت إجماع أهل البيت(عليهم السلام) على إيمان أبي طالب، وإجماعهم حجة…
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأسلم. فقال(صلى الله عليه وآله): ألا تركت الشيخ فآتيه، وكان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى. والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحاً مني بإسلام أبي)(16).
على أن صاحب الغدير لا يأخذ بهذه الرواية وله بحث مطوّل غاية في الدقة والوثاقة، قد أحاط بالعشرات من الأخبار والأحاديث المسندة والشعر الموثق والتحليلات العلمية والمنطقية. وقد انتهى بيقين وبرهان مبين أن أبا طالب كان مسلماً بقلبه ولسانه(17)
نشرت في العدد 9
(1) جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ص34.
(2) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 2: 58.
(3) عبد الحسين الأميني، الغدير 7: 356.
(4) عبد الحسين الأميني، الغدير 7: 388.
(5) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 2: 64.
(6) سورة آل عمران، الآية:19.
(7) سورة آل عمران، الآية: 58.
(8) علي بن محمد المغربي ابن الصبّاغ، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة، ط3 ص14 باختصار.
(9) عبد الحسين الأميني، الغدير 7: 389.
(10) سورة المجادلة، الآية: 22.
(11) عباس محمود العقاد، مطلع النور ص178. وانظر: ابن حجة الحموي في ثمرات الأوراق بهامش المستطرف في كل شيء مستظرف ج2 ص14.
(12) عبد الحسين الأميني، الغدير 7: 369.
(13) تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي ص86.
(14) مطلع النور ص178 ، منشورات دار الهلال بمصر.
(15) مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 287.
(16) عبد الحسين الأميني، الغدير 7: 321.
(17) المصدر السابق 7: 330 وما بعدها.