فضيلة الشيخ عبدالجبار الساعدي
أستاذ في الحوزة العلمية
لست أبغي من وراء هذه الدراسة أن أقوم بسرد السيرة الذاتية لشاعرنا الكبير أبي العلاء المعري وأن أتتبع كل مفردات حياته وسيرته وسلوكه وخاصة فيما يتعلق بمراحل دراسته وثقافته وتحصيله العلمي مروراً بذكر أساتذته الذين درس عندهم وتلقى معارفه وعلومه على أيديهم فإن هذه المطالب وأمثالها قد تكفلت بها كتب السيرة والتراجم والمعجمات الرجالية والموسوعات الذاتية وإنما أريد الوقوف عند بعض نماذجه الشعرية التي هي دعوة صريحة إلى تعطيل عجلة الحياة عن الحركة والديمومة والاستمرار وبالنتيجة تكون معولاً هداماً لهدم بنية الحياة الاجتماعية ونقضها وليس يعنيني في هذه الدراسة الوقوف عند عقيدته ومعتقده الديني فإن الدارسين ـ قديماً وحديثاً ـ اختلفوا في ذلك وتباينت آراؤهم بين من يصفه بالكفر والزندقة والإلحاد
ويخرجه عن دائرة الإسلام والمسلمين بالمرة ومن واصفٍ له بالإيمان المطلق والنُسك والعبادة والانقطاع إلى الله وبذلك يدخله في حضيرة الإيمان ومع زمرة المؤمنين الصالحين ولعمري كلا الرأيين في اشتطاط بعيد ومبالغة وإسراف في الحكم ولقد تعرضنا إلى هذه البحوث وأمثالها ممن تتصل بعقيدته وسلوكه وإيمانه في بحث مازال مخطوطاً ينتظر النور وعنوانه (المعري بين الشك واليقين) ولدينا دراسة موجزة أخرى بعنوان (الاضطراب في شعر المعري) ولكن هذا لا يدعنا أن نحرم القراء من لمحة موجزة عن ترجمته الذاتية لكي يكونوا على شيء من الإطلاع على حياته ولادةً ونسباً ووفاةً بدون إسراف وإسهاب في ترجمته وسرد المفردات الحياتية المتعلقة به.
ولد أبو العلاء المعري يوم الجمعة (28) من شهر ربيع الأول سنة (363هـ) أي سنة (973م) قبل مغيب الشمس بقليل في معرة النعمان من ملحقات مدينة حلب وتوفي يوم الجمعة أيضاً في العشرين من شهر أيار سنة ألفٍ وسبعة وخمسين بعد الميلاد بعد أن مرض ثلاثة أيام قبل موته ومات في اليوم الرابع من أوائل ربيع الأول سنة (449هـ) فيكون عمره يقع في ستٍ وثمانين سنة.
هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي، وهو المعروف بساطع الجمال، رهين المحبسين، ينتهي نسبه الأعلى إلى تيم الله ثم إلى قضاة ثم إلى قحطان إن صح الاعتماد على ما تحدث به النسابون.
سماه أبواه بهذا الاسم ولكنه كرهه حين بلا نفسه وعرف أخلاقه فرأى إن من الكذب اشتقاق اسمه من الحمد، وإنما ينبغي أن يشتق من الذم. وكذلك كنياه بهذه الكنية (أبو العلاء) فقد كان من عادة الآباء في ذلك العصر أن يكنوا أبناءهم وقت تسميتهم ولكن أبا العلاء كره هذه الكنية أيضاً، ورأى أن من الظلم أن يضاف إلى التصعيد والعلو، وإنما العدل أن يضاف إلى السقوط والهبوط:
دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ
ولكن الصحيح أبا النزول
فأما اللفظ الذي اختاره لنفسه وكان يحب أن يدعى به فهو (رهين المحبسين). وقد سمى نفسه بهذا بعد رجوعه من بغداد واعتزاله الناس، وإنما أراد بالمحبسين منزله الذي احتجب فيه، وذهاب بصره الذي منعه من مشاهدة الأشياء المبصرة، على أنه قد ذكر لنفسه في اللزوميات سجوناً ثلاثة: أحدها منزله والآخر ذهاب بصره، والثالث: جسمه المادي الذي احتبست فيه نفسه أيام الحياة وذلك حيث يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفـــــــقد نـــاظري ولزوم بيـــتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
وفي نظرنا هذه هي بداية المصيبة وأوائل الطامة الكبرى حيث انطبعت نفسه بهذه التلاوين السوداوية الحزينة الكئيبة فثار أولاً على اسمه وكنيته ورأى أن الصحيح أنهما مشتقان من الذم والهبوط لا من الحمد والعلو وما مني به بعد ذلك من إيثار العزلة والانطواء على النفس وعدم مخالطة الناس ومعاشرتهم ومجاملتهم (والإنسان كائن اجتماعي بالطبع) يألف ويؤلف ولا يستطيع العيش المرفه ذا الدعة والسرور إلا بين أبناء رهطه وجنسه يتأثر ويؤثر وبذلك تستمر الحياة الاجتماعية أثراً وحركة وديمومة وبناءً وتفاعلاً للتطلع نحو المزيد والأعمار والبقاء فيما يعود خيره ونفعه على البشرية في الدارين الدنيا والآخرة.
غير أنه قد أعرض عن السجن الثالث فلم يسم نفسه إلا (رهين المحبسين) وعلة ذلك فيما يرى بعض الباحثين ومنهم الدكتور طه حسين أمران، أحدهما: أن هذا السجن وهو الثالث مشترك بينه وبين عامة الناس والثاني: أن مذهبه في النفس لم يكن ثابتاً وقد قلت في بداية حديثي لست معنياً بشيء في هذه الدراسة سوى بيان الآثار السلبية المترتبة على شعره الاجتماعي ونقضه لبينة الحياة الاجتماعية إما تحقيق رأيه في النفس مفصلاً فيدخل ضمن الحديث عن فلسفته نشوءاً وأصولاً ومصدراً وهو ما أطلق عليه الدكتور طه حسين في كتابه المعروف (تجديد ذكرى أبي العلاء) ـ بالفلسفة العلائية ـ وينبغي لمن يريد دراسة أحد الأدباء أو الشعراء أو الفلاسفة أن يدرسه من جميع جوانبه مع ملاحظة الأسباب والمسببات والأخذ بمؤثرات البيئة والمحيط غير مقطوع الصلة بالزمان والمكان وألا يكون الحديث عن أي شخصية ضرباً من الغلو والتحكم والظلم والتجني إذا ما وصفه بشيء من الأوصاف التي تتناقض ومفهوم الشخصية المحترمة المميزة إذا ما أغفل ملاحظة كل ما مر ذكره من العوامل والمؤثرات التي تحيط بهذه الشخصية أو التي ولدت معه وعاشت وإياه جنباً إلى جنب ولدى الواقع ومن منطلق النظرة المنصفة أن الحديث عن حكيم المعرة وعملاق الشعر العربي أبي العلاء المعري لا يصح أن يكون
بمعزل عن الآثار المادية والمعنوية التي أحاطت به واكتنفته من كل جانب ومكان هذا إذا ما أردنا توخي الدقة والإنصاف وتحري الواقع والحقيقة وعدم الاشتطاط والجور والحيف في إلصاق التهم بحق بعض الشخصيات المدروسة (جزافاً) وعلى كل أديب منصف صاحب فكر جليل وعقل رصين حصيف ويحمل قلماً يعتز به أن يكون متوازناً هادفاً فيما يرى دقيقاً محققاً فيما يحكم ويستدرك ويحقق. والمعري وماله وما عليه نتيجة لازمة، وثمرة ناضجة لطائفة من العلل التي اشتركت في تأليف مزاجه وتصوير نفسه من غير أن يكون له عليها سيطرة أو سلطان إذ من الخطأ كل الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرنا إلى الشيء المستقل عما قبله وما بعده وإذا صح قولنا هذا فإن أبا العلاء ثمرة من ثمرات عصره قد عمل في انضاجها الزمان والمكان والحال السياسية والاجتماعية، والحال الاقتصادية ونريد بالحياة الاجتماعية ما يؤلف بين أفراد الأمة من الصلاة والأسباب فإن الحياة الاجتماعية الصالحة ليست إلا مزاجاً يتألف من سياسة مستقيمة وعدالة شاملة ونظام اقتصادي معقول، وأمن محيط بالأقوياء والضعفاء على حد سواء،
فإذا فقدت هذه الخصال كلها فلابد من تدابر وتقاطع، ومن تنافر واختلاف، ومن انقباض ظل الفضيلة حتى يكاد يمَّحى.
ومهما يكن فقد أثر فساد الحياة الاجتماعية والخلقية في نفس أبي العلاء آثاراً كونت له في الاجتماع والأخلاق آراءً خاصة ونحن وإن التمسنا العذر له وبيّنا
ـ ولو بشيء من الإلماح والإيجاز ـ الأسباب والدوافع في ذلك ولكن هذا لا يلغي رأينا في أن تلك الآراء والنظريات والمذاهب التي يحملها شعر أبي العلاء الاجتماعي كونها معول هدم وتخريب لبنية الحياة الاجتماعية وتعطيلاً لدورها الفاعل والمؤثر في الديمومة والحركة والاستمرارية والبناء ولا يعذر صاحبها مهما كانت الأسباب والمسوغات التي دفعته إلى ذلك لأنها تتصادم والأصول المسلّم بها في عالم العقائد والحقائق الدينية والمفاهيم الإسلامية ولا ينقضي العجب العجاب من بعضهم حينما يلتمسون التبريرات والمسوغات للمعري في ذلك، وهم في زحمة ثورة العواطف المتأججة تجاه من يحبون، ويريدون في دفاعاتهم ومناقشاتهم عن أحبائهم وتلمس في تلك الدفاعات اشتطاطاً بعيداً وتحكماً للحقيقة والصواب وبعيداً عن روح الواقعية
والهدفية مثلما جاء في كتاب (شعراء رثوا أمهاتهم ج1) لمؤلفه السيد محمد حسن الطالقاني فقد جاء ما نصه في ص332 ولم يأكل لحوم الحيوانات ومنتوجاتها من بيض ولبن وعسل خمساً وأربعين سنة وذكر غيره إنه كان نباتياً يشفق حتى على الحيوان فكان نباتياً بالمعنى الفلسفي والواقعي معاً، وقد امتنع عن أكل اللحوم ونفر منها واقتصر على تناول البقول وله في ذلك أشعار سنأتي عليها ونذكر ما نريد الاستشهاد به والتعليق عليه ووصلت به (النباتية) إلى الامتناع عن شرب اللبن لأنه يرى أن أطفال البهائم أحق به من الإنسان.
ونعد إلى رأي البعض من الكتاب في مسألة تبريرهم لامتناعه عن أكل الحيوان ومنتوجاته واقتصاره على النباتات حيث يقول البعض منهم وقد اتهمه بعض المترجمين له بسبب امتناعه عن أكل لحم الحيوان ومنتجاته من لبن وبيض وعسل أنه يرى رأي البراهمة والحكماء النباتيين الذين لا يرون إيلام الحيوان وإزهاق الأرواح ولم يكن لكل ما قيل نصيب من الصحة، كما لم يكن للمعري داعٍ غير الزهد في ملاذ الحياة، والرأفة والعطف على الحيوان وعدم الرضا بإزهاق روحه رغم حله وذكروا له تبريرات صرح بها في رسائله وشعره ومنها ما مؤداه أن الحيوان يحس بالألم كالإنسان وإن الأم منه يتصدع قلبها إذا أخذ منها ابنها كما هي الحال في الإنسان عيناً وهي تضن بلبنها بغية إرضاع ولدها، وإن السمك يكره مفارفة الماء فإذا أخرج منه اضطرب وظل يضرب بنفسه الأرض حتى يموت أو يعاد إلى الماء وإن الطير يرتفع في كبد السماء ويسكن أعالي الجبال والأشجار هرباً من شباك الصياد وإن الدجاجة تحرص على بيضتها فتغطيها بجناحيها، وتملأ الفضاء بالصراخ إذا قرب منها أحد خوفاً عليها وهي تنتظر أن تفقس لترى فرخها
بعينها وأن النحل يدخر العسل لإطعام صغاره ولا يهون عليه أن يسلب غذائهم أحد… وقد بلغ المعري من رقة القلب وإرهاف الجسد حداً جعله يفكر في ذلك ويحسه تمام الإحساس فلم تعد نفسه تطاوعه على أن يهنأ في طعام أزهقت فيه روح ليستلذ به آكل أو عصب من ذي إدراك علقت به نفسه وليس ذلك أكثر من الرحمة (والله يحب من عباده الرحماء) ـ النبي(صلى الله عليه وآله) ـ والزهد من سنن المرسلين والأولياء والصالحين. ولا نبذل كبير عناء في رد هذه التبريرات العلائية والتي رددها من كتب عنه من المعاصرين فإنها جلجلونيات كلامية لا تسمن ولا تغني ولا تشبع فإنها تحمل الرد وعدم القبول والرفض لها بين طياتها لأن المؤلف الكريم أكد ذلك في بداية السطور بقوله ـ رغم حله ـ ولا ينقضي العجب أن المؤلف أورد نصوص آيات كريمة دلت على الإباحة والحلية وترغيب البارئ عز وجل إلى الاستفادة مت تلك الأنعام والثمرات والأرزاق وهي:
1ـ (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) سورة الأعراف/ الآية:32.
2ـ (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) سورة القصص/ الآية:77.
3ـ قوله (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون*… هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*… وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) سورة النحل/ الآية:5-14 و80.
ولا نبذل جهداً في التعليق على هذه الآيات الشريفة والنداءات السماوية الجليلة لأنها أوضح من أن تحتاج إلى تعليق وتفسير وإيضاح ولكن يطيب لي أن أذكر تعليقات المؤلف نفسه قبل إيراده لهذه الآيات وبعد الانتهاء من إيرادها حيث وصف الممتنعين عن المآكل والمشارب ورفض الملذات الحلال المشروعة في الحياة بقوله على أنهم لم يعتمدوا في ذلك نصاً شرعياً في النهي ولا حديثاً مروياً في الحرمة وكيف ذلك والله تعالى يقول… وسرد الآيات التي مرت علينا قبل قليل وعلق على الآيات بعد إيرادها بقوله:
(فالآية الأولى صريحة في الاستنكار على من يحرم على نفسه الاستمتاع بالطيبات من الرزق، والآية الثانية تأمر بتقديم العمل للدار الآخرة على العمل للدار الدنيا ولكنها في الوقت نفسه تلفت نظر كل فرد إلى أخذ نصيبه من كل ما يروق له من ملذات مشروعة. والآيات الأخيرة تعدد النعم التي تفضل الله بها على عباده للاستفادة منها في الدنيا والاستعانة بها على مهام العيش وتدل على طريق الانتفاع بها والفوائد التي يستطيع الإنسان أن يجنيها منها وتعدد ضرورات الحياة من طعام وزينة وفرش ووسائط نقل… إلى ما هناك من وسائل ومتاع وأرزاق كل ذلك لهذه الحياة الدنيا وليس فيها ما يعود إلى الآخرة فلو لم يرد لعباده الرخاء والسعادة والراحة لما هيأ لهم كل هذه الوسائل واللوازم. أقول: ما دام الأمر كذلك أيها الأخ المؤلف الجليل فلماذا هدر الوقت وإضاعته وصرف الحبر والورق في أمر وصفته بأن الله أراده رخاءً وسعادةً وراحة للعباد في الحياة وبذلك لم تستقيم الحالة الاجتماعية وتتقدم المجتمعات البشرية وتتماسك وتقوى وتعطي ثمارها في التناسل وأعمار الأرض وديمومة الحياة ومعنى ذلك من انصرف عن هذه الأمور ساهم في هدم
المجتمعات البشرية ودعا دعوة صريحة إلى تعطيل دور الحياة ونقض بنيتها وبالتالي يكون خراباً للأرض وتحطيماً للمجتمعات البشرية وإساءةً بالغة للحياة الاجتماعية لاسيما وأنت تقول إن هذه الآية صريحة في الاستنكار على هذا المسلك وهو مسلك من يحرم على نفسه الاستمتاع بالطيبات من الرزق، والآية الثانية تأمر بتقديم العمل للدار الآخرة على العمل للدار الدنيا ولكنها في الوقت نفسه تلفت نظر كل فرد إلى أخذ نصيبه من كل ما يروق له في الدنيا من ملذات مشروعة. والآيات الأخيرة تعدد النعم التي تفضل الله بها على عبادة للاستفادة منها في الدنيا والاستعانة بها على مهام العيش، وتدل على طريق الانتفاع بها، والفوائد التي يستطيع الإنسان أن يجنيها منها، وتعدد ضرورات الحياة من طعام وزينة وفرش ووسائط نقل… إلى ما هناك من وسائل ومتاع وأرزاق كل ذلك لهذه الحياة الدنيا وليس فيه ما يعود إلى الآخرة ولو لم يرد لعباده الرخاء والسعادة والراحة لما هيأ لهم كل هذه الوسائل واللوازم.
أعتقد أن سطور المؤلف هذه هي كافية في الرد على تبرير تصرف المعري في زهد بها وإعراضه عنها لأن الله ـ وهذا ما قرره المؤلف ـ أراد شيئاً من باب اللطف بعباده وتحقيقاً لجانب السعادة والراحة لهم وأراد العبد المخلوق شيئاً آخر بعيداً عن روح السعادة والراحة وإنما اتجه لضرب معاقل الحياة الاجتماعية وتدمير هيكلها ونقص بنيتها فتعارضت الإرادتان وأي خلل إذا ما بلغ العبد في تصرفاته ومعتقداته حداً يصل إلى الرد على الله والمعارضة مع الإرادة الإلهية.
والأنكى من كل ذلك ما ذهب إليه المؤلف في تبرير تصرف المعري من أنه لم يخالف قول النبي(صلى الله عليه وآله) وفعله وأقوال الصحابة الأبرار وآل بيته الأطهار عليهم السلام وسيرهم في تجنب اللذائذ والزهد فيما هو فوق ما تتطلبه الضرورة لا ينافي ذلك وإنما هو منهج أخلاقي لأهل السيرة والسلوك إلى الله في مخالفة النفس وكبح جماحها للتمكن من السيطرة عليها وهي رياضة روحية خاصة بأهلها وليست مطلوبة من كل الناس على تفاوت طبقاتهم. وتعليقنا معاذ الله أن يبلغ الحال بأهل البيت النبوي الشريف أن يصلوا إلى حد التعارض والتضاد مع منطلقات ودعوات الكتاب الكريم ومفردات السنة النبوية الكريمة والإسهام المتعمد في هدم كيان الحياة الاجتماعية مادام الأمر كما قال المؤلف نفسه أن بعض الآيات دعوة صريحة في الاستنكار فهل يعقل أن يكون أهل البيت النبوي الكريم(عليهم السلام) في معرض الرد على الله وأن يكونوا عرضة للاستنكار القرآني:
نعم لم يعرف عن أهل البيت(عليهم السلام) أنهم تهالكوا على حطام الدنيا الزائل ولا أخذهم الشره والنهم والجشع والطمع فيما يفنى ويزول وإنما نظرهم دائماً إلى المبدأ الأعلى والشعارات السامية الباقية وإذا ما ذكر المؤلف الكريم عن بعض أهل السلوك والعرفان أقوالاً وأفعالاً فنحن قد اتصلنا وعاشرنا البعض منهم كذلك ومن مقرراتهم أن الزهد لم يكمن في إطالة اللحى وعدم التأنق في الملبس والمأكل والعزوف التام عن الدنيا زواجاً وعلاقات اجتماعية إعراضاً عن كل المآكل والمشارب المباحة المشروعة وإنما ترويض النفس وأخذها وتدريبها على أن تهش وتستمرئ أكل خبز الشعير كما تلتذ وتستمرئ أكل الرز الطيب الجيد إذا ما توفر ذلك وتمكن المرء من الحصول عليه من طرقه المشروعة ولا يستبد بها الحزن والرفض وعدم الرضا والقبول إذا ما حرمت من الحصول على المآكل والمشارب الطيبة الهنيئة فإذا ما روض نفسه وأخذها على الرضا والقبول بكل الحالات فهذا هو الزهد والرياضة الحقة.
وثمة شيء أخير أسوقه في المقام أقول أن المعري وأمثاله من الذين يشفقون على الحيوانات الصغيرة الضعيفة من مثل فرخ الدجاج وأنواع الطيور الأخرى وحتى منتوجاتها من لبن وبيض أو عسل أقول هل هم أرأف من الله وأكثر منه حناناً ومعرفة بما يصلح للعباد في الدارين وبما يعمر البلاد وما تتكامل به الحياة الاجتماعية وتتواصل به الحركة الدنيوية الديناميكية من أجل الأعمار والبقاء والاستمرار والاستثمار فأي رد فاضح وأي اعتراض مرفوض مستنكر ممن يحرم على نفسه الطيبات من الرزق وهل بعد استنكار الكتاب الكريم استنكاراً (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) سورة الأعراف/ الآية:71.
وبالجملة فإن شعر أبي العلاء الاجتماعي وما تضمن من آراء اجتماعية بشأن الحياة والمرأة والزواج والعلاقات البشرية هي عناصر هدم وتدمير للحياة الاجتماعية وإذا استطعنا أن نتسامح في محاكمته وكذلك في عدم مؤاخذته والتماس التبريرات لتشاؤمه وانطوائه وعزلته لأن كل أديب ومفكر لابد له من أن يدفع الضريبة لبيئة وكذلك لمحيط تواجد فيه وعاش بين ربوعه وعصر أخذ منه وأثر فيه ولكن هذا كله وأمثاله لا يجعل خطأه صواباً ولا هدمه إصلاحاً فالغلط يظل غلطاً في أي زمان وقع وإن أبا العلاء يعجبك في كل شيء وترضيك منه كل ناحية فهو إذا فكر كان تفكيره خصباً وإذا بحث كان بحثه استقصائياً عجباً، وإذا زهد كان مثالاً للزهد لا يجارى، وإذا اعتقد عقيدة أخلص لها أشرف الإخلاص وأعظمه،
وإذا شك بلغ به الشك أقصاه وإذا كفر بذّ جميع الكافرين وتفوق على كل الملحدين وإذا تهكم أزرى بكل الذين يسخرون ويتهكمون. فالرجل أعجوبة عصره ولغز زمانه وسيظل أعجوبة لكل عصر ولغزاً لكل جيل وسراً يكبو دون حلة المتشوقون إلى حل الأسرار… كل هذا وأمثاله صحيح إلا إذا رافقته مفكراً وجاريته مدققاً فهناك يصدمك أبو العلاء ويروعك ويريك الحياة على غير ما هي عليه، وعلى غير ما يجب أن تكون عليه الحياة ويسلمك من حيرة إلى حيرة، ومن ألم قاتم إلى ألم حالك نحيف إلى يأس شنيع فتقف وقد هدمت ثقتك بنفسك وبالإنسانية جمعاء ولعل هذا أشنع ما يروعك من أدب أبي العلاء ومن حكمته وآرائه ـ كما ذهب إليه الأديب الأردني المعروف روكس بن زائد العزيزي ـ وأقول أية قيمة لحياة اجتماعية تحت ظل هذه الآراء والحكميات والأشعار الاجتماعية التي يتفوه بها المعري ولعل تشاؤم أبي العلاء المعري الذي قاده إلى أسمى ما في الحياة من زهد صارم جبار يلهي الناس عما في أدبه وأفكاره من عناصر الهدم الاجتماعي والتدمير.
ولكن نظرةً مدققةً فاحصة تريك الرجل يحمل معول الهدم والتدمير جاداً مخلصاً ماضياً قدماً لا يلوي على شيء فلابد ـ والحالة هذه ـ للذي يريد الخير لهذه الأمة ولشبيبتها وللمجتمع بصورة عامة وللحياة الاجتماعية أن تستقر وأن ترسى دعائهما على أسس وطيدة ولسمة هذا الشاعر العبقري العملاق من أن ينبه على أغلاطه الفلسفية وليس يهمني بعد هذا أن يكون الرجل معذوراً بالنسبة إلى حالته النفسية وبالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه والوسط الذي كان يستوحيه وكل ما يهمني ما تتركه أفكاره في نفس من يقرأها ولنشير بشيء من الإيجاز والاستشهاد إلى بعض آرائه الشعرية الاجتماعية التي أخفق فيها اخفاقاً ذريعاً وحملت بين طياتها معول بل معاول الهدم والتدمير والتخريب الاجتماعي التي لو كتب لها الأخذ والقول والبقاء لشلت حركة المجتمع وتحطمت الحياة الاجتماعية من الأساس ولكن والحمد لله كانت آراء المعري الاجتماعية في وقتها موضع المناقشة وعدم التسليم بها أصلاً وقد رد عليه سابقاً ولاحقاً من لدن من يرى الحياة الاجتماعية أن تمضي قدماً عبر حركة ديناميكية متطورة نحو الأفضل والتجدد والاستمرارية والبقاء.
الـــــــــــــــزواج:
من الطبيعي إذا أعرض أبو العلاء عن النسل، أن يعرض عن الزواج لأنه سبيله، ولأن فيه شروراً أخرى ذكرها غير مرة في اللزوميات يعرفها من قرأ تائيته التي نظمها في ذم النساء ومطلعها:
ترنـم فــي نهارك مستعــيناً
بذكـــر الله في المترنمـــات
على أنه قد نهى عن الزواج نصاً فقال:
فإن أنت لم تملك وشيك فراقها
فعف ولا تنكح عواناً ولا بكرا
وذلك جاءه من سوء ظنه بالنساء واعتقاده أن العفة والإحصان فيهن نادرة ولعل هذا الرأي هو (المزدكية) التي أشار إليها الذهبي في ترجمته لأبي العلاء ونسب شيئاً منها إلى رسالة الغفران، لاشتمال هذه الرسالة على ألوان من إباحة القرامطة يرويها رواية الساخط عليها. وفي اللزوميات ما يؤيد ميل أبي العلاء في بعض أطواره إلى الإباحية والمشاعية في النساء، فهو لا يفرق في حكم العقل بين ابن الحرة وابن الزانية فيقول:
وسيان مَن أمهُ حرة حصان ومن أمه زانية
ويقول:
وما ميّز الأطفال في أشباحها
للعـــين حــــــــلّ ولادةٍ وعهـــــــــــارِ
ويذهب الدكتور طه حسين إلى أبعد من ذلك في مقالته الخامسة الموجودة في كتابه (تجديد ذكرى أبي العلاء) حيث يقول:
وسترى أن مذهب أبي العلاء في الأخلاق لا ينافي في هذا الرأي. والعجب أنه حكم المنفعة المطلقة في الزواج، فكان نصيحاً مخلصاً حين تصبح للناس في أمره فقد رأى أن الزواج شر على الرجل، لأنه يكلفه مؤناً وأثقالاً فنهاه عنه، ورأى الزواج خيراً للمرأة، لأنه يرفع عنها أثقال الحياة، فأمر والدها أن يلتمس لها الزوج، واضطره ذلك إلى تناقض يقول فيه:
واطلب لبنتك زوجاً كي يراعيها
وخوف ابنك من نسل وتزويج
فلما فرغ لنفسه، ولم ينظر في المسألة نظراً اجتماعياً كره الزواج فعاش ولم يتزوج وأعلن إعجابه بسيرة الرهبان، فقال:
ويعجبني عيش الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
الـحــيـــــــــــاة:
ومن عناصر الهدم والتدمير الاجتماعي قوله:
على الولد يجني والدٌ ولو أنهم
ولاةٌ على أمصارهم خطباء
فرجل يعتقد أن الحياة جناية إنما هو رجل يحمل معول الهدم الاجتماعي وإن كان يقول ذلك مخلصاً فيه كل الإخلاص، ودليلنا على إخلاصه أنه عمل بما قال حرفاً بحرف فلم يرد أن يكون ولداً لا في الحلال ولا في الحرام. لئلا يكون جانياً على أولاده كما كان والده ـ في اعتقاده ـ جانياً عليه:
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد
ولما كان الرجل فيلسوفاً أو على أقل تقدير كان مشتغلاً بالفلسفة فإن من أبسط قواعد الفلسفة لا بل من بديهياتها ـ إن الوجود ولو في الجحيم خير من عدم الوجود ـ، وإن المعرفة ـ إطلاقاًًًًً ـ خير من الجهل إطلاقاً والأحياء يعرفون ما لا يعرفه الذي حكم العدم فكيف إذن يا شيخ المعرة وفيلسوفها تقول:
وإذا أردتم بالبنين كرامة
فالحزم أجمع تركهم في الأظهر
ماذا يصيب المجتمع الإنساني من الاضطراب والفوضى لو اعتقد كل فرد من أفراده أن وجوده نكبة لا يستحق والده من أجلها سوى الحقد والكراهية والعقوق جزاءً وفاقاً لجنايته عليه بإيجاده إياه:
ضل الذي جعل ابناً للروى غرضاً
إن عُقَّ فهو على جرم يكافيه
تصور مجتمعاً كل أفراده ينقمون على آبائهم لأنهم كانوا السبب في وجودهم وتصور حالة هذا المجتمع من البؤس والشقاء مع أن البارئ عز شأنه لم يخلق الناس إلا ليسعدوا فإذا كانوا لا يسعدون فما ذلك إلا لأنهم لا يريدون أن يسعدوا أو لأنهم ضلوا طريق السعادة