يعتبر الإنسان في نظر علماء الاجتماع كائن مدني بطبعه، يتعامل مع غيره ويسعى إلى التكيف مع مختلف المواقف ولكن واقعياً لكل فرد أسلوبه في التفكير ومزاجه وعواطفه ومواهبه، هذا التميز والاختلاف يعرف في الفلسفة وعلم النفس بالشخصية، غير أن العوامل المتحكمة في بناء الشخصية مسألة جدلية معقدة ويمكن التعبير عن هذه الإشكالية من خلال التساؤل التالي: هل الشخصية تتحكم فيها عوامل الوراثة أم البيئة؟
الرأي الأول (الأطروحة)
ذهب أنصار هذه الأطروحة إلى اعتبار الشخصية من طبيعة وراثية فهي فطرية وليست مكتسبة، والتمايز بين الناس يعود إلى عوامل ذاتية والأنا عندهم معطى أولي وقصدوا بذلك تأثير الغدد الجسمية والطبع وباقي الأجهزة العضوية.
والوراثة عملية بيولوجية من خلالها تنتقل الاستعدادات والصفات من الأصل إلى النسل أي من الآباء إلى الأبناء، وهذه الاستعدادات عبارة عن مورثات (جينات) الموجودة في مواقع خاصة على الكروموسومات وعددها عند الرجل أو المرأة (23) زوجاً وإجمالي الطاقم الوراثي ما بين (500) ألف إلى (800) ألف مورث، وانتقال الاستعدادات يخضع لمبدأ الاحتمال والصدفة، وللتأكيد على دور الوراثة أجريت تجربة مقارنة تقتضي تتبع نسل امرأة جميلة وذكية وأخرى عادية وبينت أن النسل الأول أكثرهم تقلد مناسب سامية وشهرة كبيرة على خلاف النسل الثاني.
ومن العوامل الوراثية تأثير الغدد وخاصة الصماء حتى قيل (نحن تحت رحمة غددنا الصماء فهي التي تتحكم في عواطف المرأة الشابة وانفعالات الشيخ الكبير) ومثال ذلك الغدة الدرقية إذا زاد إفرازها عن الحد الطبيعي تصبح الشخصية متوترة يغلب عليها المزاج الانفعالي الحاد، أما الغدة النخامية فتتحكم في نمو العظام والمفاصل والعضلات، ويعتبر الطبع أبرز العوامل الوراثية حيث عرفه (لوسين) في كتابه (علم الطباع) (إن مجموعة الاستعدادات النفسية الوراثية الثابتة التي تكون الهيكل الذهني لدى إنسان ما)، فالطبع الفعال يجعل الشخصية طموحة وحركية تقبل التحدي من أجل الوصول إلى أهدافها، وهكذا الشخصية نجدها ولا نوجدها.
ورغم ذلك فإن تأثير الوراثة نسبي لأن التوأم الحقيقي رغم التماثل في التركيبة الوراثية لا يتماثلان بالضرورة في الشخصية.
الرأي الثاني (نقيض الأطروحة)
ترى هذه الأطروحة أن الشخصية محصلة لعوامل موضوعية مكتسبة فهي ليست هدية من الطبيعة وإنما تكتسب من البيئة وقصدوا بذلك تأثير الثقافة والمجتمع والتضاريس والمناخ فهي منتوج اجتماعي.
فالمجتمع يزود الإنسان بأسلوب المعاملات ويكيفها مع سلم ارتباط القيم بالسلوك كما ذهب إلى ذلك (رالف لنتون) وهي حقيقة أقرها (جون بياجيية) قائلاً: (الطفل يستمد عاداته الأخلاقية من الخارج ـ المجتمع ـ بواسطة والديه والتربية والمدرسة والحياة اليومية)، ورأى (فالون) صاحب كتاب (علم نفس الطفل) أن الشخصية تتطور وتنمو والشعور بالذات يحتاج إلى الآخرين ـ أفراد المجتمع ـ (إن الشعور بالذات يتكون بواسطة الآخرين، إنهم أسباب للشعور بالشخصية).
وهنا يظهر تأثير الأصدقاء وكما قال الرسول(صلى الله عليه وآله): (المرء على دين أخيه)، حيث تفسر هذه الظاهرة بالتقليد حتى قيل في كتب علماء التربية (قل لي من تصادق أقل لك من أنت)، وترى هذه الأطروحة أن معالم الشخصية تصنعها البيئة المادية ـ المناخ والتضاريس ـ فالذي يسكن في الصحراء يكتسب شخصية مغايرة لأبناء الشمال، وهذا ما أثبتته بحوث الانثروبولوجيا التي أجريت على (قبائل أرايش) والتي لوحظ فيها تماثل سلوك الإناث والذكور، وملخص هذه الأطروحة في مقولة (واطسون) ـ زعيم المدرسة السلوكية ـ: (أعطني اثنا عشر طفلاً سالمي الجملة العصبية أخرج لكم منهم الطبيب والمهندس وحتى اللص).
نقد ـ مناقشة ـ
إن تأثير البيئة نسبي لأن أبناء الأسرة الواحدة يختلفون رغم وجود نفس العوامل الاجتماعية والثقافية… الخ.
التركيب: لاشك أن الوحدة والتغير هما أساس الشخصية، هذه الحقيقة الفلسفية والعلمية، تدفعنا إلى ضرورة عدم الفصل بين الوراثة والبيئة لوجود ترابط بين ما هو بيولوجي وما هو ثقافي وهذا ما أكد عليه (فرانسوا جاكوب) قائلاً: (سلوك الكائن الحي يشكله التفاعل الدائم بين الوراثة والبيئة) فالتركيبة، الوراثية للطفل تمنحه القدرة على الكلام، لكن مضمون الكلام أي ـ الألفاظ والعبارات ـ تحدده الطبيعة ومنه يولد الإنسان بشخصية قاعدية ثم يطورها وكما قال (ألبرت) (لا يولد الطفل بشخصية كاملة التكوين وإنما يبدأ بتكوينها منذ الولادة)، وهي لا تقبل التغير إلا في حدود ما تسمح به الوراثة والبيئة معاً.