Take a fresh look at your lifestyle.

دور الإمام الصادق(عليه السلام) في تهيئة قيادات متميزة لمواجهة الغلاة

0 1٬064
              لاريب أن الإمام الصادق(عليه السلام)، كان يرى أن الأمة كانت بحاجة ملحة إلى استعادة شخصيتها الإسلامية، وانطوى ذلك من خلال توجيهاته المستمرة وعلى كافة الأصعدة سواء منها الاجتماعية أم الأخلاقية أم التربوية، من أجل الوقوف أمام التيارات العقيدية الملحدة الوافدة على العقيدة الإسلامية، كي لا يجد هؤلاء مجالا لزرع أفكارهم الإلحادية الهدامة.
             لاحظ الإمام كذلك بأم عينيه كيف أخذ المسلمون يواجهون هذه الأفكار في عقر دارهم، وفي بلادهم، وكيف أخذت تسري في مجتمعاتهم. وكان أكثر ما يخشى الإمام على العامة من الناس ذوي الثقافات المحدودة خشية أن تستجيب وتمتزج عقيدتها مع هذه الأطروحات الغالية، والدعوات المتتالية، وهي لا تعلم خلفياتها وحقيقتها وما تنطوي عليه، معتقدة بكل ذلك بصدق وإخلاص وبراءة.
             ولد هذا الأمر جهدا مضاعفا من قبل الإمام في سبيل إجهاض تلك الحملات الإلحادية الهدامة التي إن لم تهدد كيان الإسلام عقيدة ونظاما، فإنها تهدد كيان الفرد المسلم، فكان يتحتم على الإمام أن يضطلع بهذه المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه، فكان يرى أن حجر الأساس في تحقيق هذه الأهداف، هي محاربته للتحريف.
           ومن هنا اهتم الإمام(عليه السلام) بإعداد كوادر فكرية قادرة على حمل راية العقيدة، من خلال العمل على تعليم أصحابهم وتلامذتهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة لتجسيد العقيدة والأخلاق والأحكام والمفاهيم الإسلامية سلوكا في واقع الحياة، وكان الاهتمام من قبل الإمام الصادق(عليه السلام) نابعا من المسؤولية الملقاة على عاتقه في ظل الأجواء المشحونة من العقائد والأفكار التي كانت تعمل على ضرب العقيدة الإسلامية سواء كان ذلك من الغلاة أو الزنادقة أو التيارات الفكرية الأخرى،
           أو من خلال دخول الكثيرين من غير المسلمين في الإسلام مع احتفاظهم بترسباتهم الفكرية، والروحية، والفلسفة اليونانية والاتجاهات الغنوصية فيها. وقد خاضت كل هذه الاتجاهات في مجال العقيدة مما سببت تراكمات كبيرة أسهمت إلى حد بعيد في ظهور جملة من العقائد التي تبتعد أصلا ومضمونا عن روح الإسلام الصحيح.
             لم تكن مهمة الإمام الصادق مواجهة تلك التيارات العقيدية منفردا بتلك السهولة التي قد يتصورها البعض، عوضا عن الضغوطات السياسية من قبل السلطات الأموية والعباسية الذين لم يرق لهم الحال أن يأخذ الإمام على عاتقه قيادة الأمة الإسلامية فكريا، لذا كان من الضروري إيجاد شخصيات إسلامية يكون لها دور في الدعوة إلى الإسلام، بعد أن طرأت عليه عوامل التخريب والتحريف، والقيام بمهمة التغيير والإصلاح الاجتماعي، و تقف هذه في خندق واحد مع الإمام من أجل التصدي لهذه النشاطات.
            كان الإمام الصادق(عليه السلام) ينظر إلى أصحابه على قدر كفايتهم الموهوبة فاختص بجماعة منهم فكانوا خير معين على حل المشاكل التي تحل بالمجتمع، فهم يقومون بتنفيذ الخطط التي يرسمها لهم وتحت إشرافه، فهو المصدر الأول والمنتهى الأخير لتلك التعاليم، فقد جعل لكل واحد من أصحابه وظيفة خاصة يقوم بها عندما يعول في الجواب عليه، إظهارا لفضله وعلو منزلته،
            فقد جعل أبان بن تغلب للفقه، ووكل لحمران بن أعين(1) الأجوبة عن مسائل علوم القرآن، وزرارة بن أعين للمناظرة في الفقه، ومحمد بن علي بن النعمان الملقب بـ مؤمن الطاق للمساجلة في الكلام، ومحمد الطيار(2) للمناظرة في الاستطاعة(3)، وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد(4)، وكان من أصحاب الإمام جماعة يتجولون في الأمصار وأمدهم بالأموال للتجارة والقصد من ذلك أن يمتزجوا بالمجتمع لتوجيه الناس والدعوة إلى مذهب أهل البيت، وكان (الإمام) يوجه أصحابه ويجعل لكل واحد جهة وعلى كل واحد أداء رسالة خاصة مع خطورة الموقف وعظيم المراقبة من قبل السلطة(5).
            كان الإمام الصادق يدعو أصحابه إلى كتابة ما يسمعون منه ويوصيهم بحفظ كتبهم، إذ قال لأحد أصحابه مستشهدا بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ): (اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا)(6)، و: (احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها)(7).
            وكذلك يطلعهم على بعض الكتب التي توارثوها عن آبائهم فقد أمر الإمام الباقر ولده الصادق(عليهما السلام) أن يقرأ زرارة بن أعين صحيفة الفرائض(8) أو صحيفة كتاب الفرائض أو فرائض علي كما وقع التعبير بذلك كله عنها في الأخبار، ويحتمل أن تكون هي المراد بكتاب علي الوارد في بعض الأخبار ويحتمل غيره وهذه أيضا كانت عند الأئمة(عليهم السلام) ورآها عندهم ثقات أصحابهم ونقل كثير من محتوياتها في كتب الشيعة(9).
          نقلت بعض المصادر الرجالية أن الإمام الصادق كان يطلع على مصنفات أصحابه، ويصححها، فقد وردت في ترجمة عبيد الله بن علي الحلبي(10) وكان له كتاب عرضه على الإمام وصححه، وقال عند قراءته: (أترى لهؤلاء مثل هذا؟)(11).

            هذا الاهتمام من لدن الإمام في هذه الطبقة من أصحابه كانت لها نتائج إيجابية على صعيد الجانب العلمي والفكري للشيعة، إذ نجد أن هؤلاء قد أصبح لهم الدور الكبير في ترسيخ فكر أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، والمصادر حافلة بمحاورات هؤلاء الأصحاب ومناظراتهم، وقد أشارت كتب الفهارس إلى أسماء ما ألفوه في كل الميادين، حتى أحصي ما دونوه في عصره فكانت أربعمائة مؤلَف لأربعمائة مؤلِف في الحديث فقط، وهي التي عرفت بالأصول الأربعمائة.
            لا شك في أن هذه الأصول من أقدم وأشهر وأهم المصادر الروائية للشيعة الاثني عشرية التي ألفت في أعصار الأئمة المعصومين(عليهم السلام). ونعلم إجمالا بأن تاريخ تأليف جل هذه الأصول إلا قليل منها كان في عصر أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)، سواء كانوا مختصين به، أم كانوا مما أدركوا أباه الإمام الباقر(عليه السلام) قبله، أم أدركوا ولده الإمام الكاظم(عليه السلام) بعده.
             وصرح علماء الإمامية بأن هذه الأصول ألفت جلها في عصر الصادق(عليه السلام). ومن المؤسف أن الكثير من هذه الأصول قد ضاعت واندرست بسبب عدم الاهتمام الكافي بها، أو فقدت في خضم الأحداث ولم تصل إلينا(12).
             ومن خلال ما تقدم يمكن أن نلحظ بوضوح الدور الذي قام به الإمام الصادق في مواجهة الحركات الغالية وإسهاماته الفعلية في التصدي لهذه الأفكار المنحرفة التي أخذت تدخل في النسيج الإسلامي.
             على الرغم من الظروف الصعبة التي كانت تحيط به والإرهاصات السياسية وطبيعة الظروف الفكرية والعقيدية التي أخذت مسارات جديدة تبتعد ابتعادا كاملا عن طبيعة التفكير خلال القرن الأول الهجري من ناحية الطرح والأفكار الوافدة،
            فنلحظ أن الإمام لم يتصد فقط لهذه الظاهرة ـ الغلو ـ فحسب، وإنما قام الإمام برسالة تغييرية شاملة تحاول تغيير الواقع الفاسد من الجذور، و كان الغلاة جزءا من هذه المشاكل التي واجهها واتخذ علاجا وقائيا لها بمختلف الطرق والوسائل التي تعمل على تحجيمها وبيان واقعها الفاسد للمجتمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حمران بن أعين بن سنسن الكوفي، الشيباني بالولاء، أبو الحسن. من ثقات محدثي الإمامية، و من الممدوحين المعظمين المفضلين. كان من حواري الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) ومن الرواة عنهما. وقرأ وأتقن القرآن على الإمام الباقر، وصار من كبار قراء وقته مع تبحره في علوم النحو واللغة والأدب، وكان شاعرا بارعا.
الطوسي، الرجال، ص132، العلامة الحلي، خلاصة الأقوال، ص134ـ135، ابن داود، الرجال،ص85، الشبستري، أصحاب الإمام الصادق،1/475ـ476.
(2) محمد بن عبد الله الطيار الكوفي، الفزاري بالولاء، محدث إمامي حسن الحديث وممدوح، من أصحاب الإمامين الصادق والباقر (عليهم السلام).
الطوسي، م. ن، ص287، معجم رجال الحديث،17/273ـ274، الشبستري، م.ن، 3/128.
(3) الاستطاعة: يقصد بها أفعال العباد، واختلف في الاستطاعة قبل الفعل هل العبد مستقل بها بحيث يتصرف في الأسباب وآلات الفعل من غير أن يرتبط شيء من تصرفه بالله، أم لله فيها صنع، بحيث إن القدرة لله مضافة إلى سائر الأسباب، وإنما يقدر العبد بتمليك الله إياه شيئا منها، المعتزلة على الأول والمتحصل من أخبار أهل البيت (عليهم السلام) هو الثاني. سبحاني، الإلهيات، ص703.
(4) ويمكن أن نلحظ الدور الكبير الذي قام به هشام بن الحكم من خلال مناظراته، وكذلك قائمة كتبه التي ذكرها النجاشي وهي: علل التحريم، الإمامة، الدلالة على حدوث الأجسام، الرد على الزنادقة، الرد على أصحاب الاثنين، الرد على هشام الجواليقي، الرد على أصحاب الطبائع، الشيخ والغلام في التوحيد، التدبير في الإمامة، الميزان، إمامة المفضول، الوصية والرد على منكريها، الميدان، اختلاف الناس في الإمامة، الجبر والقدر، الحكمين، الرد على المعتزلة وطلحة والزبير، القدر، الألفاظ، الاستطاعة، المعرفة، الثمانية أبواب، الأخبار، الرد على المعتزلة، الرد على أرسطا طاليس في التوحيد، المجالس في التوحيد، المجالس في الإمامة. الرجال، ص433.
(5) حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، 2/50.
(6) الكافي، الكليني، 1/52، الحر العاملي، وسائل الشيعة، 27/81.
(7) الكافي، م. ن، 1/52، الحر العاملي، م. ن، 27/81.
(8) الكافي، م. ن،7/81، الحر العاملي، م. ن، 26/73.
(9) الأمين، أعيان الشيعة، 1/97.
(10) عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي الكوفي، أبو علي، وكان يتجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب، فغلب عليهم النسبة إلى حلب. وال أبي شعبة بالكوفة بيت معروف، وروى جدهم أبو شعبة عن الحسن والحسين (عليهما السلام)، وكانوا جميعهم ثقات مرجوعا إلى ما يقولون. وكان عبيد الله كبيرهم ووجههم، ومن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).
النجاشي، الرجال، ص230، الطوسي، الفهرست، ص174، العلامة الحلي، خلاصة الأقوال،ص203.
(11) النجاشي، م. ن، ص230.
(12) ينظر: الكلباسي، الرسائل الرجالية، ص114ـ123، الأمين، أعيان الشيعة 1/140ـ141، المحمودي، ضياء الدين، الأصول الستة عشر من الأصول الأولية، ط1، (قم: دار الحديث، 1423هـ)، ص5.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.