Take a fresh look at your lifestyle.

علم التاريخ.. وأهميته في الحياة

0 893
                                                                                                                     الشيخ حسن كريم الربيعي

 

 

 
        يعد علم التاريخ من العلوم المهمة في الحقل الإنساني، فهو كفيل ببيان الأحداث الزمانية والمكانية لمجمل الحضارات العالمية، ولكن من أين تأتي أهميته؟
يبدو من تتبع الأحداث الزمانية والمكانية وشخوصها ليس الترديد لها أو التسلي بها وجعلها حكايات ماضية نحفظها ونتلذذ بذكرها كترف فكري تحلو به المجالس، كل هذا ليس له أهمية تذكر ولا هدف له، لذلك تنبه العلماء في هذا المجال المهم من صياغة علمية بالتحليل والاستنتاج ونقل العبرة للأجيال ومحاولة تجاوز أخطاء الماضي بالنظرة العلمية لأحداث التاريخ بالبحث عن أصوله وأسباب تكونه والعظة من كل ذلك، وهي ثقافة أيدها الإسلام فقد ذكر في مجموعة من الآيات القرآنية والتي عرفت بالقصص القرآني وهي أحداث تاريخية ذكرها القرآن الكريم للعظة والاعتبار في الحياة الدنيا.

 

         فهناك الكثير من الآيات القرآنية التي ذكرت الأقوام البائدة سواء من المؤمنين أو غيرهم ممن عصوا أوامر الرسل والأنبياء فكانت عاقبتهم الخسران في الحياتين، ومن هذا نفهم أهمية علم التاريخ وما يصل إليه ممن يقوم بالعملية التحليلية للأحداث العالمية بشكل عام والأحداث الإسلامية بشكل خاص وتتأكد الأهمية بمعرفة أحداث السيرة المعصومية التي يحتاج إليها المسلم لمعرفة حركة الرسول(صلى الله عليه وآله) ثم حركة المعصومين(عليهم السلام) في المجتمع وتعاملهم مع الحياة كل حسب عصره.

 

         وهذه الحركة يتكفل ببيانها علم التاريخ بعد التحليل والبحث عن عناصر القرب من الحقيقة بأدلة عقلية ونقلية وقد يجري على الرواية التاريخية ما يجري على الرواية الحديثة من حجية خبر الواحد بالنظر إلى السند والمتن وربما أجزم أن المعرفة التاريخية مكملة للمعرفة الرجالية في هذا الموضوع أي تقييم الشخصية التاريخية والخروج بنتيجة هي أقرب للصحة إذا اعتمد على جانب واحد.
إن علم التاريخ أصبح من ضرورات الدراسات الإنسانية بل هو أهمها لما له من علاقة بالحياة أو علاقته بالعلوم الأخرى التي تبحث عن تاريخ العلم بل إنه دخل في تاريخ المفهوم وتطور المصطلح وغيرها، لذلك أطلق على هذا العصر عصر التاريخ.

 

 

التاريخ لغة واصطلاحاً

 

 

       عرفه السخاوي (ت 902هـ): فقال: (التاريخ في اللغة الإعلام بالوقت، يقال أرخت الكتاب وورخته أي بينت وقت كتابته)(1).
واختلف في أصل لفظة تاريخ بين العبرية والأكدية والفارسية والعربية، ورجح بعض الباحثين على أنها ذات أصل عربي(2)، وفيه لغتان وقد فرق الأصمعي (ت 215هـ) بينهما بقوله: (بنو تميم يقولون ورخت الكتاب توريخاً، وقيس تقول أرخته تأريخاً)(3).
يبدو أن استعمال الأول لهذه اللفظة من قبل العرب المسلمين كان لمعنى التوقيت والتقويم(4)، وعند تتبع هذه اللفظة التي تشير إلى الوقت أي زمن الحدث كان التاريخ يعرف بالحدث المهم فيعلم الوقت به.

 

      أما التعريف الاصطلاحي فقد تطور كمفهوم بين عدة تعاريف كان أقدمها بحدود علمي من خليفة بن خياط (ت 240هـ) مروراً بالسخاوي وابن خلدون (ت 808هـ) والذي عرفه أحسن التعاريف بقوله: (فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم)(5)، في حين عرفه السخاوي (ت 902هـ): (إنه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم)(6)، يعني تسجيل هذه الوقائع والأحداث وتعيينها بالزمان والمكان.

 

 

       يذكر كولنجوود: (إن التاريخ نوع من أنواع البحث العلمي)(7)، الذي يهدف لكشف الحقائق وهذه ميزة العلم والتاريخ علم وهو يبحث عن جهود الإنسان أو الأعمال التي قام بها في الماضي(8).
        وقد فرق بين التأريخ (بالهمزة) والتاريخ (بالألف اللينة) فقالوا إن التأريخ (بالهمزة) يطلق على دراسة الماضي، والتاريخ (بالألف اللينة) على الماضي ذاته وهذا غير واضح البيان بحيث يؤدي إلى التفصيل ولكنه حسب الاستعمال الشائع وهو واقع في اللغات الأجنبية الكبرى(9).

 

موضوعه وغايته

      أما الموضوع فالإنسان والزمان ومسائله أحوالهما المفصلة للجزيئات تحت دائرة الأحوال العارضة للإنسان وفي الزمان(10).
وذكروا أن موضوعه حوادث البشر في الزمن الماضي(11). وأما غايته: معرفة تلك الحوادث ووقوعها في الزمان والمكان والأسباب والنتائج(12).

 

فــائدته

 

      لعلم التاريخ فوائد جمة وفي عدة مجالات علمية ففي الفقه بتتبع سيرة المعصوم(عليه السلام) ومعرفة الأحكام الشرعية وفي علم الحديث في معرفة الرواة وحتى في صدور الحديث واختلافه مع غيره أو هو باب التعارض بين الروايات وكذلك في الأنساب وفي شتى العلوم الإنسانية يدخل التاريخ كمعرفة ضرورة للحياة العلمية والنظم الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والاعتقادات والتقاليد الدينية والمذاهب والأساليب الأدبية والفنية(13)، كل هذا من خلال موضوعه وغايته.

 

 

التاريخ في القرآن والسنة

         إذا قلنا إن آيات الأحكام خمسمائة آية فقد تتجاوز آيات التاريخ آيات الأحكام وتصل إلى أكثر من ألف ومائتي آية (1200)(14)، وقد سلك القرآن الكريم كمنهج في بيان الأحداث بعدة أشكال يهدف منها العبرة والعظة والتحرز من الوقوع بما حصل لتلك الأقوام فهو يصور لنا قصص الأنبياء والمرسلين ومسيرة حياتهم ودورهم في صناعة التاريخ وتوجيهه وأحداث الأقوام البائدة وما جرى عليهم، فالحدث التاريخي في القرآن الكريم له علاقة بالنواميس الطبيعية وسيرة البشر من حيث الاختيار والإدارة(15).

 

         وكل هذا يشكل دراسة للمستقبل ونظرية للمتقدم إذا تمعنا بالآيات التي تصور جريان هذه الأحداث بهذا الشكل الدقيق لمسيرة البشرية ورسم مستقبلها ونهاية تاريخها بإقامة حكومة العدل الإلهي وحتمية ظهور المصلح التي تراها واضحة في آيات القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(16)، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(17)، والعديد من الآيات القرآنية تتحدث عن نظريات علمية أصبحت اليوم محور الدراسات التاريخية لها أصل في القرآن الكريم، فقد استوعب القرآن الكريم جملة من التفسيرات للأحداث التاريخية وذكر عللها وقواعدها بإيراده الحدث وأسبابه ونهوضه وانهياره وقد كتب العديد من الباحثين في هذا المجال المهم وهو يحتاج إلى المزيد من البحث والتقصي عن الرؤية المستقبلية للإسلام وحتمية الظهور ونظرية التقدم.

 

         أما السنة الشريفة فقد نقل عن الرسول(صلى الله عليه وآله) قوله: (من أحب شيئاً أكثر من ذكره والمرء مع من أحب ومن أحب قوماً حشر معهم)(19)، وفيه دلالة على الذكر وهو تاريخ الشيء وإلا كيف يذكره ويحبه والحشر مع الأقوام أي معرفة تاريخهم وأعمالهم في الحياة الدنيا حتى يحشر معهم ويحبهم، ونقل أيضاً: (من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه، ومن قرأ تاريخه فكأنما زاره، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)(19)، أي نشر الفضائل والابتعاد عن الرذائل بذكر المؤمنين ومعرفة سيرتهم وسيرتهم المتشرعة فإن نشر فضائلهم وأعمالهم إحياء لهم بل اعتمد عليها في باب المصادر الثانوية للتشريع.

 

وفي باب الوصايا لأمير المؤمنين(عليه السلام)

      لابنه الإمام الحسن(عليه السلام) يذكر فيها أهمية التاريخ والتدبر في الأحداث الماضية ويأمر ابنه(عليه السلام) بالأخذ بهذه المهمة واعتبارها المسار الحقيقي للحياة، فقال(عليه السلام): (واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين)(20)، من هذا النص تأتي أهمية النظر في التاريخ بل تشجيع للكتابة فيه وإلا كيف نعرف أخبارهم بلا قراءة كتب التاريخ ومعرفة سير الأولين لأخذ العبرة والعظة بالنظر لتلك المسارات الحياتية المتشعبة لأن المصير واحد وهذه هي فلسفة الحياة والوجود لذلك.
         قال(عليه السلام) نتيجة للنظر في أخبارهم المصير المحتوم (وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم)(21)، (فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا ديار الغربة)(22)،
       ومن معرفة ذلك يصلح المرء مثواه ويهتم بآخرته قبل دنياه لذا قال(عليه السلام): فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك)(23)، يعلم ذلك من أخبار الماضين وما عملوه وأسباب ونتائج القوة والضعف والإيمان والفسق والعلم والجهل والشجاعة والجبن والكرم والبخل، فإن الحياة تسجل في صفحاتها المواقف ثم يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته: (أي بني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم)(24)، من هذا النص نفهم كيف ننظر إلى التاريخ فقد أشار عليه السلام إلى عدة مراحل وهي كما يأتي:

 

1ـ النظر في الأعمال.
2ـ التفكر في الأخبار.
3ـ السير في الآثار وهي إشارة للاقتداء بالرسول(صلى الله عليه وآله) أولاً وبغيره ممن تبعه ولحق به وسار على منهجه لذلك كان يردد أسماء أصحابه مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وسلمان المحمدي وهاشم المرقال وغيرهم الذين سبقوه بالشهادة.

 

        وهذه النتيجة بعد النظر والتفكر يقول(عليه السلام): (بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره)(25)، ومن آخر هذا النص يعطي أمير المؤمنين(عليه السلام) الفائدة العظمى من فحص الأعمال والأخبار والخروج بنتيجة واحدة هي التميز وبيان الأصلح للاقتداء فإن التاريخ فيه الصافي والكدر والمهم منه التحليل والاستنتاج لذا
قال(عليه السلام) لابنه: (فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (المختار المصفى) وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله)(26)، ومن هنا يعلمنا أمير المؤمنين(عليه السلام) طرق علاج الأخبار.

 

          بالرجوع للمراح التي ذكرناه من وصيته وهي من أهم أعمال الباحث العلمي في التاريخ بعد التجرد للحقيقة التاريخية ونقلها كما هي على أن يكون التاريخ من العلوم التي تحيي الذات الإنسانية نحو الفضيلة والمكارم الأخلاقية بسرد الأحداث كما هي صالحة أم طالحة وبعرضها على اللبيب يحصل الفرز والتحقيق ثم التحليل والاستنتاج لما يخدم الإنسانية من ويلات الطغاة وإضرارهم بالحياة وهي استفهام الملائكة عن الفساد في الأرض في محاورة قرآنية بين الله وعز وجل وملائكته هذا الخير وذاك الشر يجليه التاريخ للأجيال فيعملوا فيه النظر والتأمل واختيار الأصلح والابتعاد عن طرق الأشرار ومكائدهم.

 

من هذه النصوص التي ذكرناها على قلتها نفهم أن أمير المؤمنين(عليه السلام)

         كان (يتعامل مع التاريخ باعتباره حركة تكون شخصية الإنسان الحاضرة والمستقبلية)(27)، ومنه تأتي أهمية دراسة التاريخ دراسة واعية برؤية مستقبلية فإن التسلح بالوعي التاريخي هو رصيد الأمة للنهوض والتقدم مع العظة والعبرة لأحداث الماضي وهو ما ينفع الفرد والجماعة في هذه الحياة بنشر تاريخ الأنبياء والأئمة والعلماء والصلحاء والحكماء وتربية الناشئة على هذا المنهج الذي يحصن الإنسان من زلات هذه الحياة >

 

———————————————————————————————————————————

 

(1) السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، تحقيق: فرانز روزنثال، ترجم التعليقات د. صالح أحمد العلي، بيروت: دار الكتب العلمية، بلا، ص14.
(2) صائب عبد الحميد، علم التاريخ ومناهج المؤرخين، بيروت: الغدير، 1421هـ، ص13.
(3) السخاوي، الإعلان، ص15.
(4) جميل موسى النجار، فلسفة التاريخ مباحث نظرية، بغداد: المكتبة العصرية، 2007م، ص13.
(5) عامر الكفيشي، حركة التاريخ في القرآن الكريم، بيروت: دار الهادي، 1424هـ، ص21.
(6) السخاوي، الإعلان، ص17.
(7) كولنجوود، فكرة التاريخ، ترجمة: محمد بكير خليل، راجعه: محمد عبد الواحد خلاف، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م، ص41.
(8) المرجع نفسه، ص42.
(9) قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، بيروت: دار العلم للملايين، 1959م، ص14.
(10) السخاوي، الإعلان، ص17.
(11) صائب، علم التاريخ، ص14.
(12) المرجع نفسه، ص14.
(13) قسطنطين، نحن والتاريخ، ص55.
(14) محمود شاكر عبود الخفاجي، ملامح الفكر التاريخي في القرآن الكريم، قم: ثامن الحجج عليه السلام، 1429هـ، ص14.
(15) المرجع نفسه، ص17.
(16) سورة الأنبياء/105.
(17) سورة الصف/9.
(18) السخاوي، الإعلان، ص53.
(19) المصدر نفسه، ص54.
(20) نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص537.
(21) المصدر نفسه، ص537.
(22) المصدر نفسه، ص537.
(22) المصدر نفسه، ص537.
(24) المصدر نفسه، ص539.
(25) المصدر نفسه، ص539.
(26) المصدر نفسه، ص539.
(27) محمد مهدي شمس الدين، حركة التاريخ عند الإمام علي عليه السلام، قم: مكتب الإعلام الإسلامي، 1405هـ، ص33.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.