محمد دعيبل
إذا بحثنا عن مفهوم كلمة (الدِّين) في اللغة: وجدنا لها معاني كثيرة مختلفة، قد لا نخرج منها بطائل ولعل المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثـة معان تكاد تكون متلازمة، بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني الثلاثة مردُّه في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق: أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب وبيانه: أن كلمة (الدِّين) تؤخذ تارة من فعل مُتعدٍ بنفسه: (دانه يدينه)، وتارة من فعل متعدٍ باللام: (دان له)، وتارة من فعل متعدٍ بالباء: (دان به)، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.
1ـ فإذا قلنا: (دانه دِينًا) عنينا بذلك أنه مَلَكَه، وحَكَمَه، وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه، وكافأه. فالدِّين في هذا الاستعمال يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو من شأن الملوك؛ من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. ومن ذلك: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: (الكَيِّسُ من دان نفسه) أي حَكَمَها وضَبَطَها. و(الديَّان) الحَكَم القاضي.
2ـ وإذا قلنا: (دان له) أردنا أنه أطاعه، وخضع له. فالدِّين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة والورع. وكلمة: (الدِّين لله) يصح أن منها كلا المعنيين: الحُكم لله، أو الخضوع لله. وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له. (دانه فدان له) أي قهره على الطاعة فخضع وأطاع.
3ـ وإذا قلنا: (دان بالشيء) كان معنـاه أنه اتخذه دينا ومذهبـا، أي اعتـقده أو اعتاده أو تخلَّق به. فالدِّين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريًا أو عمليًا. فالمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته؛ كما يقال: (هذا دِيني ودَيْدَني). والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه. ومن ذلك قولهم: (ديَّنت الرجل) أي وَكَلْتُه إلى دينه وجملة القول في هذه المعاني: اللغوية أن كلمة (الدِّين) عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظِّم أحدهما الآخر ويخضع له.
فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا، وحُكْمًا وإلزامًا، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة، أو المظهر الذي يعبر عنها.ونستطيع أن نقول: إن الامر بالجملة يدور على معنى لزوم الانقياد، ففي الاستعمال الأول، الدِّين هو: إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني، هو: التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث، هو المبدأ الذي يُلتزم الانقياد له. على أن المعنى اللغوي لا يعطينا تمامًا: المفهوم الذي يعرفه الناس ويستخدمونه في أعرافهم ومصطلحاتهم، وقد عرّفه بعض العلماء الإسلاميين بتعريفات متقاربة.
فقال ابن الكمال: الدِّين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول. وقد يُتجوَّز فيه، فيطلق على الأصول خاصة، فيكون بمعنى المِلَّة، كما في قوله تعالى: (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) واما السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة. فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك. وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أُخِذ منه سياسة البشر. فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم.
ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم. وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه إذا عرفنا مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا الإسلامي، وفي فقهنا وفكرنا الإسلامي، وفي مصادرنا الإسلامية ومن الواضح ان كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في سورة مكيِّة، ولا في مدنيِّة، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفاً أو فعلاً.
ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية. وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن – أو الإسلام – لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها. ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مثبت في القرآن.
مثال ذلك كلمة (العقيدة) فهي لا توجد في القرآن، ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل العقيدة هي المحور الأول الذي تدور عليه آيات القرآن الكريم. ومثل ذلك كلمة (الفضيلة) فهي لا توجد في القرآن، ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالحثِّ على الفضيلة، واجتناب الرذيلة. فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم. وذكر يوسف الذي ناجى ربه فقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) وإنما قال من المُلك، لأنه لم يكن مستقلا بالحكم، بل كان فوقه مَلِك، هو الذي قال له: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه.وفي مقابل هذا ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك. ومثل ذلك: مُلك فرعون (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).